فرادة المواجهة بين المقاومة الفلسطينيّة وإسرائيل لم تتبدَّ هذه المرّة في طبيعة ونوعيّة ردّ المقاومة (وصول الصواريخ الفلسطينيّة إلى مدن كالقدس وتل أبيب) فحسب، بل وأيضاً، وعلى نحو لا يقلّ أهميّة، في الظروف الإقليمية التي جرت على وقعها. كانت زيارة الأمير القطري إلى قطاع غزّة والاحتفاء الكبير به من قبل حماس، وتعهده تمويل مشاريع بملايين الدولارات هناك فاتحة لما يُعتقد بأنّه تحوّل نوعي في تحالفات حماس، من محور دمشق ــ طهران إلى محور الإسلاميّين الصاعدين إلى السلطة، الذي تؤدي قطر دور تقديمه إلى الدوائر الغربيّة كنموذج مُعتدل يحظى بالشرعيّة الشعبية بديلاً للأنظمة الآفلة. فإذا ما أضيف إلى كلّ ذلك التشديد المصري على الالتزام بالاتفاقات الموقّعة مع إسرائيل وتعميق التنسيق الأمني معها في ملف سيناء وإرسال سفير جديد إلى تل أبيب مع عبارات الودّ الحميمة، فإنّ المواجهة التي اندلعت في غزّة في أعقاب اغتيال أحمد الجعبري تبدو، بشكل أو بآخر، قطعاً في مسار إقليمي صاعد، يقف الإسلاميّون على رأسه، ويهدف إلى تجديد الترتيبات السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة مع الإدارة الأميركيّة والغرب عموماً.لكن، لماذا لا يُعاد النظر إلى المواجهة الحاليّة في غزّة على أنّها قطع إيجابي؟ أي كونها توفّر فرصة لإعادة ترتيب المنطقة برؤية الإسلاميّين أنفسهم بعد إدخال حماس، الفصيل الإخواني الوحيد الذي يحمل السلاح ضدّ إسرائيل، إلى حظيرة الترتيبات الإقليمية بين الإخوان وأميركا؟ في الواقع، منحت ثورات الربيع العربي الإسلاميّين، بوصفهم القوّة الأكثر تنظيماً ومقدرة على الحشد والتعبئة، فرصة مثاليّة لتعضيد قوّتهم في السلطة عبر شرعيّات انتخابيّة واضحة، وهو ما هيّأ المناخ لاحقاً لفتح خطوط التواصل الغربي الرسمي معهم بوصفهم تعبيراً عن قوى اجتماعيّة نابضة، قادرة على القيادة لما تتمتّع به من نفوذ وتأثير في مجتمعاتها.
الأمر في حالة حماس مُختلف بعض الشيء. وصلت حماس إلى السلطة في أعقاب انتخابات حرّة ومُشرف عليها دوليّاً عام 2006 بأغلبية شعبيّة وازنة، ثمّ استغلت موازين القوى بينها وبين فتح لتسيطر على غزّة وتؤسّس لإدارتها المستقلة هناك. منذ ذلك الوقت، تعرّضت شرعيّة حماس إلى التآكل بفعل مجموعة من العوامل، من بينها المسؤولية المُشتركة مع فتح عن الانقسام الفلسطيني، والقصور في بعض أوجه الإدارة اليوميّة في قطاع غزّة، وممارسات تقييد الحريّات في الحياة العامّة، وغيرها من العوامل. أعادت المواجهة في غزّة، التي أدّت حماس فيها دوراً قتاليّاً على نحو مختلف عن كل جولات التصعيد السابقة، الزخم والتأييد الشعبي إلى الحركة. يُمكن النظر إلى نتائج المواجهة الحاليّة، والحال هذه، كتصويت جديد وكبير لخيارات حماس في الشارع الفلسطيني. وإذا ما أخذنا بالاعتبار ضعف محمود عبّاس وانهيار مشروعه السياسي القائم على المفاوضات، فإن إحدى أهمّ النتائج السياسيّة للتصعيد في غزّة تتمثّل في الإزاحة التي حصلت في المشهد السياسي الفلسطيني على نحو يفتح المسار لحماس لتؤدي الدور الذي أدته فتح لعقود، أي أن تصبح الناطق السياسي باسم الفلسطينيّين.
الإشكال الحاصل الآن يتمثّل في إدراك الأطراف مُجتمعة، إسرائيل، إسلاميّو مصر وأوساط في حماس، أنّه من غير الممكن بعد التصعيد في غزّة، والنتائج الميدانيّة التي تمخّضت عنه، والتي شملت بالدرجة الأولى الأمداء الجديدة لصواريخ المقاومة، الاستمرار في صيغ التهدئة القصيرة البالغة الهشاشة. وقد كان لافتاً الانخراط الأميركي الفعّال في الجهود المبذولة لتحقيق وقف إطلاق نار مُستدام، من خلال العمل الوثيق مع القيادة المصريّة الجديدة. هنا، لا ينبغي لنا أن نعتنق كثيراً من الأوهام حول دور مصري جديد أو متوسّع في المنطقة. على العكس من ذلك، فإنّ أجندة الأعمال الداخليّة التي تواجه الرئيس مُرسي في مصر، وعلى رأسها الاقتصاد المتداعي (وافقت مصر مبدئيّاً على قرض كبير من صندوق النقد الدولي)، ستؤدّي إلى انكفاء مصر على ذاتها، وجعلها أكثر عُرضة للضغوط الدوليّة. ينقل تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز»، رصَدَ الاتصالات المصريّة الأميركيّة خلال تصعيد غزّة، أنّ الرئيس الأميركي باراك أوباما فوجئ بالحس البراغماتي للرئيس المصري محمد مرسي في سعيه الحثيث إلى معالجة ما جرى. الهدوء في المنطقة هو كلّ ما يريده الإخوان في مصر، إذ لا يسعهم تحمّل كلفة حالة طويلة من اللاستقرار السياسي والضغط الشعبي عليهم لمساندة قطاع غزة.
على هذا الأساس، قد يكون من المحتمل أن يؤدي الإخوان المصريّون دوراً في الضغط على حماس بهدف إدماجها في جملة الترتيبات الإقليمية بينهم وبين الإدارة الأميركية.
الهدنة الطويلة الأمد قد تكون النتيجة الوحيدة للمواجهة الأخيرة، والظروف الإقليمية وموقع الإسلاميّين فيها يساعدان على تحفيز هذا الخيار بالطبع، لكنّ المعضلة أنّ هذا الخيار سيكون ضربة للنضال الفلسطيني، وسيعمّق انفصال غزّة، وسيحمّل جزءاً من أعبائها لمصر في هذا الظرف الدقيق، وسيؤجّل كلّ القضايا المصيريّة إلى زمن غير معلوم، في بيئة تتحرّر فيها إسرائيل تماماً من أيّ ضغط في مواجهة مشاريعها الاستيطانيّة. تبدو الهدنة الطويلة الأمد والحال هذه تسوية سياسيّة إقليميّة، لكن من دون سياسة. يكمن إغراء هذه الهدنة في أنّها المدخل الأكثر ملاءمة لمشروع الإسلاميّين في سبيل تعضيد قوّتهم، وتمكّنهم من مفاصل الحكم في المنطقة. هل تستطيع حماس أن تتبنى خطاباً عابراً لفلسفتها الإخوانية ومتموضعاً حول تثمير الإنجاز الأخير للمقاومة بالمعنى السياسي؟ وإذا لم يكن هذا ممُكناً، فهل هناك في ما تبقّى من شتات الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة من يُمكنه أن يقوم بهذه المهمّة؟ ليست مبالغة، لكنّ وضع غزّة كخط مواجهة مع إسرائيل هو ما يجعل هذا المكان اليوم فاعلاً لا مفعولاً به، والفلسطينيّون يجب أن يستغلوا هذه اللحظة لخدمة تطلعاتهم الوطنيّة، بالارتكاز على برنامج نضالي تكون المقاومة عماده الأساسي.
* كاتب فلسطيني