كشفت المعركة المستعرة في بغداد بين الحكومة ومحافظ البنك المركزي العراقي لغماً آخر من الألغام التي تركها الأميركيون، قبل أن ينسحبوا رسمياً من البلاد. وقد أصدر القضاء العراقي أمراً بإلقاء القبض على الدكتور سنان الشبيبي أثناء حضوره مؤتمراً في اليابان، يتعلق بتهم متعددة تراوح ما بين التسببب في هرب كميات كبيرة من الأموال والتلاعب بأسعار العملة والغش في مزادات العملة وغيرها. ويتهم المدافعون عن الشبيبي نوري المالكي بتدبير القضية، باعتبار أنّ الأخير كان قد طلب قرضاً من البنك، ورفضه الشبيبي بالاستناد إلى قانون البنك الذي وضعه الحاكم الأميركي في العراق بول بريمر، والذي تأسس البنك على أساسه، قبل تسليم السلطة للعراقيين.لكن اصطياد الشبيبي لم يكن أمراً سهلاً، سواء للقضاء أو للمالكي الذي ربما تعمّد إثارة الموضوع أثناء وجود الشبيبي في الخارج دفعاً للإحراج. وقد كرر الأخير مراراً أنه سيعود إلى العراق ليدافع عن نفسه، من دون أن ينفذ ذلك حتى الآن. ورغم ذلك فهو يقود من الخارج حملة دفاع عن نفسه وعن مجموعة من موظفي البنك ألقي القبض عليهم حول الموضوع نفسه. وما زالت القضية ساخنة وحبلى بالكثير من المفاجآت. ففي حديث له مع جريدة «العالم»(1) كشف المدير السابق للبنك المركزي العراقي الذي كانت يده قد سُحبت، من مكان مجهول خارج العراق، أنّ «لدى موظفي البنك المركزي العراقي، حصانة في أداء واجباتهم، تقيهم من أي محاسبة، بموجب المادة 23 من قانون البنك المركزي»(2)!
وبالفعل، تنص الفقرة 1 من المادة رقم 23 من قانون البنك المركزي على أن «لا يتعرض أي عضو من أعضاء المجلس أو أي موظف أو وكيل للمصرف المركزي العراقي للمساءلة القانونية أو يُعَدّ مسؤولاً مسؤولية شخصية عن أية أضرار وقعت بسبب أي إهمال أو إجراء صدر عنه أثناء تأديته لمهماته أو في سبيل تأديته لمهماته الرسمية التي تقع في نطاق وظيفته والتزاماته المحددة له».
ونلاحظ أنّ «الحصانة» تشمل «أي موظف» وكل ما يقع منه بسبب «أي إهمال أو إجراء» أثناء تأديته مهماته أو في سبيلها. وهو نص واسع للغاية، يكاد يكون من الممكن تبرير أية سرقة أو قرار يسبب الضرر بالاقتصاد الوطني. فحتى حين يمكن البرهنة قضائياً أنّ المعلومات كانت متوافرة لدى الموظف لإدراك نتيجة جريمته، يمكنه دائماً أن يدعي أنّه «لم يطّلع عليها» أو «نسيها» أو «لم يأخذها في الاعتبار» أو «حسبها خطأً». وكل هذه لا تزيد على تهم بالإهمال، الذي هو حصين من نتائجه بفضل قانون البنك! ولا يكتفي القانون بذلك، بل يحتوي نصاً يلزم البنك أن يدفع تكاليف الدفاع عن أي موظف يتعرض للمحاسبة.
ويبدو أن الأميركيين حين أسسوا البنك ووضعوا له الأهداف وطريقة العمل، توقعوا أن يأتي اليوم الذي تصطدم فيه الحكومة المنتخبة مع الأهداف التي أرادوها للبنك، وبالتالي وضعوا الحصانة الغريبة لموظفيه لكي يتمكنوا من الاستمرار في تنفيذها، ويشعرون بالاطمئنان إلى نتائجها تجاههم.
ولا تجد الحكومة اليوم طريقاً لمحاسبة الشبيبي إلا بتجاوز القوانين. فرغم أن المؤسسات العراقية الحكومية والبرلمانية والقضائية قد قامت بتجاوزات غير مبررة، إلا أن التحليل المفصل الذي قدمه السيد إسماعيل علوان التميمي في مقالته «في قضية الشبيبي... تجاوزت السلطات الاتحادية الثلاث حدود اختصاصاتها»(3) كشف أنّ الحكومة والدولة وكل مؤسساتها، لا تمتلك طريقة لمعالجة أية جريمة مالية تقع في البنك، حتى لو اتبعت أفضل الصيغ القانونية والديموقراطية، وأنّها تقف مشلولة أمام أية حالة فساد في البنك الآن أو في المستقبل. ففي النهاية ستقف المادة 23 بوجه أية محاسبة للمتهم، بل قد لا يمكن حتى توجيه الاتهام إلى أحد منهم بشكل قانوني!
لقد صحا العراق ليجد نظامه المالي مقيداً بشروط مطلقة لاتباع قواعد «حرية السوق» التي لا تناسبه ولا تناسب أي بلد نام، ووجد أن بنوكه مربوطة عملياً بالمؤسسات الأميركية وبأنّ موظفي تلك البنوك حصلوا على حصانة تقف فوق القانون العراقي والدستور نفسه، لتنفيذ الشروط الأميركية.
ولفهم أهمية الحصانة، نذكر أنّ سبباً رئيسياً في فشل أميركا في إبقاء قواتها في العراق، أنها اشترطت الحصانة لجنودها، ورأى العراقيون تلك الحصانة «مهينة»، لأنّها تضع هؤلاء فوق القانون العراقي، واشترطوا أن يُقرها مجلس النواب، وهو ما كان مستحيلاً. لكن الأميركيين مرروا في غفلة من الجانب العراقي الحصانة لموظفي البنك، ومن دون انتباه البرلمان إليها!
ونذكر أنّ المادة (18) رابعاً من الدستور العراقي تنص على: «... وعلى من يتولى منصباً سيادياً أو أمنياً رفيعاً، التخلي عن أية جنسيةٍ أخرى مكتسبة...». وقد وضعت فقط خوفاً مما قد تعطي الجنسية الثانية من حصانة جزئية ضمنية، من المحاسبة والقانون العراقي، ولكن ها هي حصانة كلية ونصية، تعطى لأحد أخطر المراكز في العراق وأكثرها عرضة للفساد.
وأثيرت قضية الحصانة أيضاً في الضجة التي صاحبت قضية النائب السابق للرئيس العراقي طارق الهاشمي، وإن كان هذا يتمتع بها أو لا، فقالت الحكومة إنّ الحصانة ليست للمسؤولين، مهما كانوا كباراً، وحتى رئيس الحكومة ليس له حصانة، فهي لا تمنح إلا لأعضاء البرلمان، باعتبارهم ممثلي الشعب المنتخبين. والآن نكتشف أنّ سنان الشبيبي الذي انتخبه بريمر لا الشعب، قد حصل على الحصانة المطلقة التي تزيد عملياً على حصانة البرلماني نفسه، حيث لا توجد في القانون طريقة لتجريد موظفي البنك من حصانتهم!
إضافة إلى الحصانة القانونية المباشرة، يبدو أن الأميركيين وضعوا عدداً من الحصانات الأخرى لموظفي البنك. فعلى العكس من عادة التشهير بالمتهم قبل ثبات التهمة عليه، قام الإعلام العراقي بحملة كبيرة للدفاع عن سنان الشبيبي واتهام الحكومة بالتآمر عليه. وكان الحديث ينصب على تاريخ عائلته بشكل خاص، إذ كان أبوه من كبار رجال العراق، وكان أخوه شهيداً، رغم أن لا علاقة لهذا الأمر بذاك. واشترك في الدفاع الإعلامي عن الشبيبي مجموعة من الاقتصاديين الذين حاولوا إقناع الناس بأن الرجل كان وراء الحفاظ على قيمة الدينار (لا النفط وارتفاع أسعاره!)، وهددوا العراق بالويل والثبور لخسارته لـ«سمعته» المالية، و«مكانة» البنك.
كذلك قال برلمانيون من اللجنة الاقتصادية والاستثمارية إنّ «توقيت الموضوع خطير جداً... والاتهام يبعث رسائل خطيرة للمستثمرين بعدم التعامل مع العراق». وأكد الخبير الاقتصادي حيدر حسين داوود أن «هذا الإجراء من شأنه خلق أزمة في السوق». وعزا الشبيبي نفسه الانخفاض الكبير في حجم الطلب على الدولار إلى إقالته!
ووصلت الحملات أحياناً إلى مستويات مثيرة للضحك، فقال وزير السياحة العراقي إن السياحة ستصاب بضرر كبير نتيجة لذلك! وقام «معماريون وأكاديميون عراقيون» بالتعبير عن قلقهم من أن «يطاح مشروع مبنى البنك المركزي العراقي» (المعطى للمعمارية المعروفة زها حديد) بعد إطاحة الشبيبي!
ولعل أقوى هذه الحصانات، «حصانة القوة والتهديد» التي تمثلت بجولة مستشار للأمن القومي الأميركي دنيس ماكدونو يرافقه سفير الولايات المتحدة الأميركية الجديد في العراق روبرت ستيفن بيكروفت على الرئاسات العراقية الثلاث، الجمهورية والحكومة والبرلمان، ليبلغها واحداً واحداً، ويوضح لها ضرورة «التزام الشفافية الكاملة» في محاسبة الشبيبي، وضرورة «الحفاظ على استقلالية البنك»... «لتحقيق النتائج المرجوة في تثبيت ركائز الديموقراطية»! جدير بالتذكر هنا أنّ القوات الأميركية هي التي أطلقت سراح حازم الشعلان، وزير الدفاع السابق، وصاحب أكبر سرقة اكتُشفت في تاريخ العراق قام بها وزير، وبواسطة هجوم مسلح على الشرطة أثناء اقتياده إلى الاعتقال بعد إدانته بالسرقة، وتهريب ذلك الوزير الذي يمتلك الجنسية الأميركية إلى الخارج.
إن كان ما تركه الأميركيون في العراق، له علاقة بالديموقراطية، التي تعني سلطة المواطن على القرارات السياسية والاقتصادية في بلاده، فمن حق المواطن أن يسأل نفسه: هل نريد حقاً نظاماً مثل هذا؟ هل نريد نظاماً يخيّرنا بين السكوت عن مؤشرات الفساد وخسارة السمعة الاقتصادية؟ وأيّة سمعة هي تلك التي تعتمد على إخفاء السرقات؟ هل نريد نظاماً تقرر فيه نزاهة شخص واحد عيّنه الاحتلال، مدى استقرار عملة البلد؟ نظام ينفّذ سياسة مالية تتنافى تماماً مع طبيعة اقتصاد البلد، تؤمن تهريباً مستمراً لعملته وتجعله مكشوفاً تماماً أمام الأزمات المالية الغربية المتكررة، يشرف على تنفيذه موظفون لا يمكن أية جهة محاسبتهم؟
«الديموقراطية»، و«الشفافية»، و«الاستقلالية» كلمات جميلة، لكنْ للكلمات معنى مختلف عندما تصدر عن الأقوياء!
مراجع
(1) http://www.alaalem.com/index.php?aa=news&id22=52599
(2) قانون البنك المركزي
http://www.cbi.iq/documents/CBI_LAW_AR_f.pdf
(3) http://www.burathanews.com/news_article_175595.html
* كاتب عراقي