لم يكن مفاجئاً أن يعاود المصريون تكرار ما فعلوه قبل سنة وعشرة أشهر من الآن. حينها هبّوا لإسقاط الدكتاتورية، واعتقدوا أنّ إسقاطها بالشكل الذي جرى فيه يعجّل من دخولهم في الحقبة الثورية. والحال أنّهم قد دخلوها فعلاً، لكن من أضيق أبوابها. فما حصل بعد إطاحة مبارك لا يعدّ تثويراً بالمعنى الفعلي، إلا إذا كانت الغاية من التثوير هي الخضوع لمتطلبات النخبة وانحيازاتها فحسب. من الممكن طبعاً أن نطلق على نضالات النخبة ما نشاء من نعوت، إلا أنّها تبقى في النهاية نضالات جزئية وغير معبّرة تماماً عن التموضعات الفعلية التي تقف خلف أيّ حراك. اليوم مثلاً تعاد صياغة هذا الحراك ليغدو متطابقاً مع مزاج لا يعبّر بالضرورة عن غالبية الشعب المصري. لنذكّر النخبة المصرية المستاءة اليوم من تغوّل مرسي الشديد واستيلائه ومن ورائه الإخوان على كافة السلطات الممكنة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) بأنّها لا تأخذ المعنيين الجديّين بتجذير الثورة في اعتبارها عندما تنتفض على هذا النحو. فعندما تقف مطوّلاً أثناء نقدها الإعلان الدستوري الهمايوني عند المواد المتعلّقة بالقضاء وتحصين الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى و...الخ، فيما تمرّ مرور الكرام على مواد أخرى (المادة السادسة من الإعلان الدستوري الخاصة بتحريم الإضرابات العمالية وتجريم أصحابها بدعوى إعاقتهم انتظام العمل) لمجرّد أنها ليست في صلب اهتماماتها تكون بذلك كمن يخرج فعل التثوير عن سياقه الفعلي (لا الصوري). ربما يحتاج البعض إلى إنعاش ذاكرته في ما خصّ هذا السياق تحديداً. عندما انتفضت الكتلة الفتية والمنتمية إلى الطبقى الوسطى عام 2011 ضدّ نظام مبارك لم يكن من ضمن شعاراتها إلا كلمات عامّة عن الخبز(العيش) والعدالة الاجتماعية. بدا لكثيرين وقتها أن العكس هو الصحيح، وخيضت نقاشات كثيرة حول هذه النقطة تحديداً، أي حول الأهمية التي توليها الكتلة تلك لقضية التثوير الاجتماعي من عدمها. في ذلك الوقت كانت التوقّعات كبيرة جداً وكنّا لا نزال في مرحلة التسويق للحراك في عجره وبجره، ولم يكن ممكناً تماماً إجراء تقويم دقيق لما ستؤول إليه الأوضاع لو فترت توقّعاتنا قليلاً أو تأخّرت. وبالفعل حصل ذلك بشكل أو بآخر. أخذت «الثورة» تتطوّر تدريجياً ومن دون تنظيم مسبق للفوضى التي أحدثتها (وهذه مشكلة كلّ الثورات الملونة). هي لم تهدم النظام القديم، لكنّها لم تهادنه تماماً أيضاً. اكتفت من ذلك كلّه بالتصويب على المجلس العسكري السابق، ومن دون أن تربط بين وجوده في السلطة واستمرار أشكال الهيمنة الطبقية التي ورثها من عهد مبارك. ربّما كان هذا الربط موجوداً لدى الايديولوجيين فحسب (حركة الاشتراكيين الثوريين وحزب التحالف الشعبي الاشتراكي) إلا أنّه أخذ يتبلور جنينياً لدى آخرين مع استمرار عملية الصدام العنيف مع الفاشيّة العسكرية. من هنا مثلاً تأتي الأهمية (والرمزية الشديدة) التي يوكلها البعض لأحداث شارع محمد محمود. ليس من قبيل العبث مثلاً أن تختار صحيفة الكترونية راديكالية كـ»البداية» اسماً مماثلاً لمواجهات محمد محمود وتضعها في متن الصفحة الأولى لجهة اليسار: «فرقان الثورة». الاختيار هنا ناجم عن إدراك هؤلاء الصيرورة التي آلت إليها «الثورة» بعدما اتخذت من الصدام مع المجلس العسكري السابق عنواناً لها. الأرجح أنّ قطاعاً عريضاً من الشبّان (والفتيات أيضاً) لا يزال يصطدم مع العسكر بوصفه سلطة قمعية فحسب، وهذا يعدّ جيّداً بالقياس إلى ما اختبرناه سابقاً من جهل معمّم عن دور الجيش في الحياة السياسية المصرية. وما يعوّل عليه الآن هو استمرار الصدام، لأن الدور المناط بالعسكر يتعدّى حدود السيادة الوطنية، وخصوصاً بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد. أمّا ما يهمّنا هنا، فهو بالضبط دوره في حراسة الامتيازات الطبقية للسلطة الجديدة، وإجهاض أيّ حراك يحاول إجبار هذه السلطة على تقديم مزيد من التنازلات في ما خصّ الطبقات المفقرة والشعبية. وفي هذا المجال تحديداً حصلت اختراقات عديدة، أهمّها الإضرابات القطّاعية والعمّالية التي عمّت أرجاء مصر في الآونة الأخيرة، والتي لم يكن ممكناً حدوثها لولا الأفق الذي انفتح على مصراعيه جرّاء الطرق الدؤوب على خزّان المجلس العسكري. لكن ثمّة من قرّر على ما يبدو إعادة العجلة إلى الوراء. هؤلاء لا يعرفون شيئاً عن الصيرورة التاريخية، وعن قدرتها على تجاوز كلّ ما يعيقها، حتى لو تلطّى بأغطية الشرعية، أو زعم أنّه يفعل ما يفعله عملاً بنتائج الانتخابات التي أوصلته إلى السلطة. طبعاً كان يفترض هنا أن تعي النخبة بشقّيها اليميني واليساري (مجرد التقائهما يعني أنّ هنالك مشكلة في الحراك الجديد) أنّها ستجد ذاتها مستقبلاً في موقع مماثل لموقع السلطة لو لم تعدّل هي الأخرى من مقاربتها للشأن العمّالي. حينما نجري جردة مثلاً على ما كتب في الصحافة المصرية «المستقلّة» (اقرأ: التابعة لرأس المال) عن المادة السادسة في الإعلان الدستوري (ما سمي «قانون حماية الثورة»)، وعن اعتراض النقابات العمّالية عليها لا نكاد نعثر على شيء. وهذا ليس جديداً على صحافة تنحاز إلى جانب رجال الأعمال عادة، لكنه يبدو كذلك عندما تبدي الصحافة تلك اهتماماً بقطاعات (القضاء مثلاً) يندر أن تجد مثله (أي الاهتمام) حين يتعلّق الأمر بالعمّال أو الفلّاحين أو بقية الفئات المهمّشة من الشعب المصري. وهذه الأخيرة شملها الإعلان بمقدار ما شمل القضاء أو أكثر. ربما نحتاج من هؤلاء إلى تفسير واضح لهذا التهميش المنظّم لطبقات وقطاعات يفترض أنّها الأساس في أي عملية تثوير ممكنة. إذا كان الأمر غير مقصود فهذه مصيبة، وإذا كان مقصوداً فالمصيبة أكبر وأكثر تعقيداً. لنجرّب أن نكون أكثر وضوحاً. والوضوح هنا يعني إعطاء أمثلة ملموسة عن انحيازات الصحافة التابعة لرأس المال: عندما عقد مجلس القضاء الأعلى قبل أيام جمعيته العمومية لرفض الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي لم تبق وسيلة إعلام محلية إلا حضرت لتغطية الحدث، أمّا عندما أصدرت دار الخدمات النقابية والعمّالية، ومعها مؤتمر عمّال مصر الديموقراطي بياناً مماثلاً يرفض الإعلان من باب تجريمه حقّ الإضراب، فلم تجد من ينشر لها بيانها إلا صحيفتين أو ثلاث صحف من ذوي الميول اليسارية أو الليبرالية («البداية»، «التحرير»). أوّل ما يتبادر إلى الذهن هنا هو امتلاك القضاء سلطة تجعله يستحوذ على كلّ الاهتمام الإعلامي، وهو ما لا يتوافر لغيره من المتضرّرين من الإعلان. أيضاً هنالك «دور سياسي يؤديه بعض القضاة»، ويحظون بفضله بشبكة من العلاقات مع إعلاميين ليسوا بالضرورة من المنحازين إلى الثورة بما هي تعبير عن مصالح الطبقات الشعبية المفقرة. وهذا كلام ليس فيه ما يضير القضاء، لأنّ استقلالية هذا الأخير محدّدة، وما يحدّها هو انحيازات الدولة التي وصل الإخوان المسلمون إلى رأس سلطتها الآن. لا تستطيع أيّة مؤسّسة في مصر اليوم أن تزعم الاستقلالية المطلقة ما دامت تعمل من ضمن شروط من يحكم ومن يحدّد السياسات الاقتصادية للبلد. وهذه الأخيرة لا رأي لأحد فيها تقريباً من السلطات التي تمارس الرّقابة على عمل المؤسّسات التنفيذية. لا القضاء يفعل ذلك ولا الإعلام ولا من يحزنون. وحدها النقابات تستطيع أن تحدث فرقاً أو أن تضع حدوداً لتدخّل الدولة في عملية توزيع الثروة عكسياً (أي من الفقراء إلى الأغنياء!). حتى الآن لا يبدو أنّ هنالك من يطرح هذا الأمر من موقع الراغب في إحداث تعديل جدّي في وجهة الصراع. كلّ ما يحدث راهناً لا يتعدّى حدود التنازع على السلطة بين تيارين نيوليبراليين لا يخافان من شيء قدر خوفهما من تناول قضية الانحيازات الاجتماعية للدولة وموقع العمّال والفلاحين ونقاباتهما منها. ليس من قبيل الصدفة أبداً أن يتصدّر «فلول» النظام القديم المشهد حالياً ولو من باب الانتصار للقضاء، بينما يقبع شخص مثل كمال أبو عيطة (رئيس الاتحاد المصري للنقابات المستقلة) في خلفية المشهد، ولا يجد وسيلة إعلام واحدة تهتمّ بما يقوله عن موقف العمّال من إعلان مرسي. لو جرّب أحد أن يأخذ رأي هذا الرجل أو غيره من ممثّلي العمّال في ما يطبخ لهم في ليل لتفاءل المرء بإمكانية حصول تعديل في الأولويات المطروحة على الشعب. فبدلاً من الإسراف في سفسطات دستورية لا يبدو أنّها تعني الطبقات المفقرة والمسحوقة في شيء، يجري العمل مثلا ًعلى أمور قد تعني هؤلاء فعلاً، وقد تضعهم في صلب النقاش الدائر اليوم حول الإعلان الدستوري. الأمر منوط أولاً وأخيراً بأولويات رجال الأعمال المنتفعين من السلطة الحالية أو المتضرّرين منها جزئياً.
عملياً لا أرى فرقاً يذكر بين خيرت الشاطر ونجيب ساويرس، أو بين هذا الأخير ومحمد الأمين. كلّهم يشتغلون على تحييد الانحيازات الاقتصادية للنظام عن التصويب الجاري حالياً، حتى لو بدا للبعض أنّ شاشة «أون تي في» التي يملكها ساويرس تفعل العكس. فالرجل تعرّض لنكسة حقيقية عندما استهدف محتجّون مجمّعات تجارية يملكها على النيل قبل فترة، لكن أحداً لم يجرؤ في الإعلام المصري على تناول الخبر خارج إطاره اللحظي. لنقل انّه تواطؤ الرأسماليين الكبار على إبقاء مصالحهم الحيوية بمنأى عن الغضبة الشعبية العمّالية. وعندما نضيف إلى ذلك كلّه انصياع النخبة المهيمنة (بشقّيها الاخواني والعلماني) لما يريده هؤلاء على اعتبار أنّهم معنيون بانتفاضتها من موقعهم المنافس للإخوان اقتصادياً نصبح إزاء مشهد لا علاقة فعلية له بالثورة أو بصيرورتها. من الجيّد طبعاً أن ينتفض المرء ضدّ الإخوان بعد كلّ ما فعلوه بحقّ شركائهم السابقين وبحقّ البلد عموماً، لكن من المستحسن أيضاً ألا تستخدم انتفاضتنا تلك (وهي تخصّ النخب أكثر من غيرها) على نحو يهمّش كتلاً من الممكن أن تفعل في مواجهة الإخوان ما نعجز نحن عن فعله. هذه هي السياسة بالمناسبة: أن تعرف كيف توظّف انحيازك إلى جانب الطبقات الشعبية، لا أن تنحاز إليها فحسب. على النخبة المصرية أن تدرك ذلك جيداً قبل أن تعاود انخراطها في الصيرورة الثورية. شباب محمد محمود أدركوا ذلك عندما اصطدموا بالطرف الذي يقف في وجه تلك الصيرورة (المجلس العسكري السابق). لقد فتحوا ببسالتهم الطريق أمام الإضرابات العمالية. لكنه طريق فحسب ويحتاج حتى يصل إلى نهايته إلى من يواكبه على مستوى التنظير والتأطير الأيديولوجي.
اليوم يقدّم لنا الإعلان الدستوري الإخواني الذي استهدف العمّال وحقّهم في الإضراب فرصة فعلية. لا تفوّتوها وتعودوا إلى قوقعتكم. أمّا القضاء والمؤسّسات الأخرى التي يحاول الإخوان قضمها فلا خوف عليها منهم. الأمر بحاجة فقط إلى تصويب انحيازات الدولة الاجتماعية. وهو ما لا يقدر عليه إلا العمّال والفلّاحون وبقيّة الكتل الشعبية التي تنتظر الآن من يقودها ويبلور نضالاتها. تنتظره لكي يقودها من تحت هذه المرّة لا من
فوق.
* كاتب سوري