خلال الساعات الأولى لاندلاع الأزمة المصرية على خلفية القرارات التي اتخذها رئيس الجمهورية المصرية محمد مرسي، سارعت الدبلوماسية الأميركية للملمة أول وأهم مأزق الساحات، التي تمكنت من خلالها من السيطرة على الحركة السياسية والشعبية في مصر. اندلعت في مصر، والتهبت الشوارع دقائق قليلة بعد إعلان مرسي خطوته، وقراراته. ظن الجميع أنّ الشارع المصري استكان لنتائج الانتخابات التي جاءت بمرسي على أكتاف الحركة الشعبية الكبيرة، التي شاركت فيها مختلف القوى السياسية والفئات الشعبية في مصر. حركة تاريخية لا يزال يكتنفها الكثير من الالتباسات عن كيفية اندلاعها وهويات القوى المشاركة فيها، وسبل الدعم الذي تلقته من أطراف مختلفة، وقدرة الحركة على استقطاب ذلك الحشد الكبير من الجماهير الشعبية في حراك شمل مختلف المدن المصرية إلى درجة لم يعد معها النظام السابق قادراً على الاستمرار فسقط.تنوّعت توصيفات الحراك المصري، وتباينت التكهنات بصدده وتكاثرت التساؤلات: هل هو حراك شعبي عفوي بقيادة سياسية منظّمة؟ أم انتفاضة تحركت بدوافع خارجية متفاعلة مع عناصر التفجّر الداخلية التاريخية من قمع وتهميش وحرمان وتخلّف للبلد وفئاته؟ مَن حرّك؟ ومَن دعم؟ ومَن استثمر؟ ومَن قطف؟
ضبطت الإجابات عن هذه التساؤلات بالنتائج التي توصل الحراك إليها. وصل مرسي على أكتاف رفاق المسيرة الواحدة في ظروف شديدة الخصوصية والحساسية، وبتعقيدات كثيرة سببها التنوع السياسي والديموغرافي في بعديه الأفقي والعمودي. ولم يكن مرسي الشخصية الوحيدة المدعومة والمقرّبة من الأميركيين، فقد كانت إلى جانبه شخصيات أخرى كثيرة، إنْ في سلطة مبارك أو خارجها.
لكن عناصر اللعبة الانتخابية وظروفها وتقنيتها يعوزها الكثير من البحث لمعرفة الآلية التي غلّبت النتائج لمصلحة مرسي، وقد يكون أبرزها كثرة الأطراف المعارضة المشاركة في الحراك وتنوّعها وتشرذمها، في مقابل حركة «الإخوان المسلمين» المعروفة بأنّها كانت الأكثر تنظيماً وتماسكاً من سائر القوى، (ومع ذلك لم تفز إلا بـ30% من الأصوات المقترعة)، وقانون الانتخاب والجهة التي يمكن أن تضبط مساره بالاتجاه الذي يناسب سياستها، إضافة إلى استخدام الإغراءات والرشى من مال سياسي وما شابه. بمعنى آخر، لم تمثّل حركة «الإخوان المسلمين» الشارع المصري ولا الحركة الشعبية التي أودت بحكم حسني مبارك، لكن الآلية الانتخابية هي التي أوصلتها إلى السلطة.
أما ما يجري راهناً فهو تعبير عن إشكالية اللعبة الديموقراطية، من جهة، ويعني أنّ الانتخابات ليست الإطار الذي يتم من خلاله تحديد التمثيل الصحيح في لحظات تاريخية وسياسية مفصلية كالتي جرت خلال الحركة الشعبية المصرية، من جهة ثانية. وجاءت الأحداث المصرية الأخيرة رداً على قرارات مرسي لتؤكد حقيقة هذه الإشكالية وأحقيّتها، ولتظهر أنّ الديموقراطية، وخصوصاً في البلدان المُنزلة عليها والمستوردة إليها من خارج تطورها التاريخي الاجتماعي الذاتي، لا تعبّر عن حقيقة تمثيل المجتمعات سياسياً.
فالحركة الشعبية التي أسقطت مبارك هي حركة جبهوية الطابع، وإنْ لم تتشكل حتى الآن كجبهة بهيكلية وبرنامج. لكن النزعة التفرّدية لحركة «الإخوان المسلمين» والرهانات الدولية ــ الأميركية أساساً ــ عليها لقيادة المرحلة المقبلة، هي التي مكّنتها من الوصول إلى الحكم وتسلّم السلطة، فبذلك يتم تشكيل هلال كبير يمتد، على الأقل، من تونس إلى ليبيا فمصر، فالأردن (احتمالاً وارداً)، فسوريا (راهناً)، ليتصل بتركيا الإخوانية، فيتعزز بذلك حصار سياسي واستراتيجي موالٍ للغرب بقيادة الولايات المتحدة للجنوب الروسي، ويطلّ على حصار محتمل لإيران.
ولو كان لمسار الحركة المصرية أن تأخذ منحاها التاريخي الطبيعي لوجب أن تتسلم الحركة الجبهوية التي قادت التحرك الشعبي وليس طرفاً واحداً شارك في الحراك ــ دون إغفال التباسات اشتراكه وتردده خلال التحرك. ولم يكن خافياً الدعم المعنوي والسياسي والمادي، عدا ما هو غير مكشوف كدور للسلطات الإدارية والأمنية، الذي توافر لحركة «الإخوان»، فوصلت إلى السلطة بمنحى مخالف للمنحى التاريخي الذي كان يمكن أن يوفّر لها الاستمرارية، وأن يبني سلطة وطنية في مصر تسعى إلى التغيير الحقيقي فيها، وإلى تنميتها وتطويرها، لا أن تقع لعبة بيد الخارج وتهادن مصالحه وتخضع لشروطه وتنفّذ كل ما يريد، حتى وصلت سلطة «الإخوان» بقيادة مرسي إلى نقطة لم تعد تختلف فيها عن سلطة مبارك قبل قرارات مرسي الأخيرة. فهي لم تطرح إشكالية العلاقة مع البنك الدولي، ولا صندوق النقد الدولي، وقدمت التنازلات لقاء إلغاء الديون الثنائية من الصندوق، ولم تطرح نظام وشكل الحكم بطريقة مخالفة لما سبق، وأبقت على المعاهدات الدولية وأبرزها معاهدة «كامب ديفيد»، ولم تتردد في أولى خطواتها عن مبادرتها لإقفال معابر غزة وإحكام الحصار عليها في خطوة بدت استجابة للمقبل من التطورات في العلاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
ربما كان يعرف الغرب حاجة مرسي إلى حقنة واقية من اعتراض محتمل عليه في ظل عدم تلبيته رغبات شارعه، ومضيّه في ما يخالف مطالب الحركة الشعبية، فتمّ التركيز عليه في مفاوضات حرب غزة الأخيرة، وأُعطي فرصة تبييض الوجه، فاتخذ مرسي منها سانحة لإحكام قبضته على السلطة وأصدر قراراته، لكن الشارع كان، كما يبدو، «حبلان» من أداء مرسي السلطوي، فلم يعد يمكنه السكوت فكانت الانتفاضة الثانية.
تؤكد الانتفاضة الجديدة في مصر أنّ مآل انتفاضتها الأولى لم يكن صحيحاً، ولم يوصل إلى المكان المناسب (تسلّم الإخوان السلطة)، وأنّ الصراع المصري لم ينته بسقوط مبارك، وقد لا ينتهي حتى بسقوط مرسي عينه.
غير أن تفسيرات كثيرة قد تعطى لما يجري حالياً، ولما هو متواصل. أهمها دخول حلفاء الولايات المتحدة على خط الانتفاضة الجديدة، وتصدّرهم حركة الاعتراض، وهم وجوه وشخصيات شاركت في التحرك الأول، وخاضت الانتخابات، ربما لم يكن الوقت مناسباً لوصول أحدهم في ظلّ الرهان على مشروع كبير بقيادة «الإخوان»، مثل عمرو موسى ومحمد البرادعي، إلى جانب آخرين مثل حمدين صباحي. بدا أصدقاء الولايات المتحدة الأكثر والأسرع اعتراضاً على مرسي، بالتوازي مع إعلان الولايات المتحدة على لسان وزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون أنّ حكومتها تفضّل أن لا تكون السلطة وحيدة التمثيل بل أن تكون أكثر تعددية وتشاركية.
ويرجح أن تمثل مواقف كلينتون عملية احتواء للأزمة بالاعتماد على شخصيات موالية لها في الأساس. خشيت الولايات المتحدة على ما حققته بعد الانتفاضة الأولى، فسعت إلى احتواء الأزمة منعاً لسقوط مرسي وتخوّفاً من عودة الساحة إلى الفلتان من جديد، دون معرفة إلى أين ستصل في النهاية. ومن المستبعد أن يكون الموقف تعبيراً عن تغيير في استراتيجية الولايات المتحدة نحو أنظمة أكثر ديموقراطية، فذلك ليس من همومها، أولاً، كما أنّه سيستدعي إعادة التحركات في العالم العربي إلى النقطة الصفر، ويفتح نتائجها على احتمالات غير منضبطة في ظل ولوج محور قوي ناهض أعتاب المنطقة في العديد من المواقع، في سوريا والعراق وفلسطين، من جهة ثانية.
كذلك تطرح الانتفاضة الجديدة على بساط البحث إشكالية استقلالية الانتفاضة المصرية، وإنْ كانت حركة ذاتية الدوافع، لكنها مخترقة من قوى مؤثرة وفاعلة كغالبية التحركات المشابهة، أو أنها تحرك مفتعل بالكامل من هذه القوى المؤثرة بفعالية عالية بتقنيات حديثة، مستفيدة من الظروف الموضوعية لمصر ومعاناة شعبها الطويلة.
* كاتب لبناني