لا أحد يعلم كيف يقضي رئيس الجمهورية التونسية المؤقت يوم عمله. فمنذ متى كان الحكام العرب يكشفون لمواطنيهم عن نمط حكمهم؟ فهم الحاكمون بأمر أنفسهم، وهم الرعاة لرعية لا تستحق التعرف بما يقومون به خلف الأسوار المرتفعة لقصورهم المحروسة بكثافة. لا تحدثونا عن ثورة في تونس؛ فالاستبداد ليس شكلاً من أشكال الحكم فحسب، بل هو أيضاً وعي ذهني يتلبس شخصاً وُلد في بيئة حضارية تؤمن بقيمتي الأبوية والبطريركية، حتى لدى أناس يدّعون اقتناعهم بمُثل الحرية والتحرر، مثلما يزعمه حاكم تونس الجديد.حاكم تونس، يبدو أنه وصف مبالغ فيه. فساكن قصر قرطاج الذي تحصل على أصوات بضعة آلاف من الناخبين في دائرته خلال انتخابات المجلس التأسيسي، لا يملك من الصلاحيات السياسية منها سوى القدرة على تغيير كبير طباخيه الخاصين أو إسداء الأوامر أو التعليمات إلى حراسه الشخصيين. فمثل الطفل الصغير الذي يلج لأول مرة المدرسة، وجد التونسيون في بداية عهد المرزوقي مادة دسمة لتبادل النكت الساخرة حول رئيس يدرّبه معلمه الأمير القطري حمد بن خليفة آل ثاني كيفية الجلوس بلباقة، ويقوم في أوقات فراغه بمصاحبة أطفال صغار في زيارات لمشاهدة مختلف غرف وقاعات قصر مخصص لإقامته بصفة مؤقتة.
المرزوقي، صاحب الحركات البهلوانية الذي يطلق عصفوراً من قفص إثر زيارته أحد معتقلات النظام البائد، وهو ملقي باقة الزهور في محيط البحر في زيارة جيّش لها فيلق من الوزراء وكبار الضباط العسكريين بعد غرق عدد من المهاجرين السريين، هو أيضاً الغاضب والمزمجر على مرافقيه الذين يشوشون له ذهنه عندما يدلي بتصريحات متلفزة.
التصريحات والحوارات الصحافية هي ربما الهواية الوحيدة التي أمكن التونسيين معرفتها عن رئيسهم. فمنصف المرزوقي الذي زيّن له أعضاده لكونه الرئيس ــ المثقف الذي أطاح الرئيس ــ الجاهل الذي سبقه، لا ينفك عن الإدلاء برأيه يميناً وشمالاً في شتى الموضوعات، من دون فقه أو دراية بتفاصيل معظمها. وإذا أحس بالملل في بعض الأحيان، فإنه يبرق مسرعاً إلى التلفزيون الرسمي الذي من المفترض أنّه مؤسسة إعلامية عمومية ملك لجميع دافعي الضرائب، وليس بوقة دعاية تحت ذمة موظف سام برتبة رئيس دولة، ليقض مضجع التونسيين بخطابات يقضيها الرئيس في التنظير والحشو اللغوي، ولا تنتهي دائماً باتخاذ قرارات جمهورية في القضايا السياسية والاجتماعية التي يتحدث فيها الرئيس حينذاك.
قلنا قرارات؟! دعنا من المزاح الثقيل. فالرئيس الذي لا يعيره رئيس وزراء ــ هو الذي وقّع بإصبعيه أمر تعيينه ــ أي أدنى اهتمام بآرائه، لا يملك، وفق الدستور الصغير الذي تسير وفقه مؤسسات الدولة خلال هذه الفترة الانتقالية، أي قدرة على تسيير شؤون البلاد. فكتيبة المستشارين الذين يتحصلون على امتيازات برتبة كتاب دولة لا يصلحون لشيء عدا تبذير المال العام، ورئيسهم لا يقدر على أخذ أي قرار بخصوص سياسات الحكومة. وكل ما يستطيع القيام به هو إهدار كميات ضخمة من الوقود في تنقلات مكوكية بين الدول لحضور المؤتمرات هنا وهناك، قصد تسويق الصورة التي يتوهم أنّه حققها في تونس؛ الملائمة بين الإسلام السياسي والعلمانية.
كان للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي أجهزة استخباراته الخاصة تُضاف إلى تلك التي تعمل في صلب وزارة الداخلية قصد معرفة ما يصدر في البلد. غير أنّه أخطأ مرتين في استعمالها: مرة حين وظّفها لتصفية خصومه ومراقبة معارضيه. ومرة أخرى عندما جعل على رأسها أشخاصاً في غير مكانهم، فكانوا ينتقون الأخبار السارة ويهملون الأحداث السيئة عند تقديمها إلى الرئيس الفار. فكان يقال إنّ أول عمل كان يقوم به بن علي هو الاطلاع على التقارير قبل اجتماعه بمستشاريه أو وزرائه. ولا يستغرب أن يكون تقويمه للوضع في البلاد مجانباً للصواب، وخصوصاً أنّ الفريق المحيط به لا يقدم سوى صورة محسنة على طريقة الفوتوشوب للوضع في البلاد.
أما الرئيس الحالي للبلاد الذي يُعرف أنّ أعلى الرتب الوظيفية التي تقلدها كان رئاسة رابطة لحقوق الإنسان سرعان ما طرده أعضاؤها، وقيادة حزب في الغربة، يتركب من نفر قليل من المحامين والإعلاميين ولواء إسناد متخفٍّ من نهضويين مندسين مهمتهم كانت جعل حزب المؤتمر من أجل الجمهورية حركة تذيل في صف الإسلاميين، فالمرجح أنّ مصدر معلوماته الرئيسي هو موقع فايسبوك (وهو المغرَم به منذ أيام الإقامة الباريسية) وشيء قليل من حديث كبار المستشارين، هم في الأصل عيون النهضة في القصر الجمهوري.
في الفترة الأخيرة، تحسن بنحو بسيط أداء الرئيس المؤقت، ربما بعدما استنجد بخبراء في الاتصال بدأ يخضع لتوصياتهم ترقباً لموعد انتخابات بدأ يقترب. فها هو ينتقل إلى العاصمة البريطانية في طائرة عادية مثل بقية المسافرين العاديين للحصول على جائزة. وها هو يستقبل رؤساء الأحزاب ودعاة الدين ومسؤولي الجمعيات والمنظمات والنقابات وإعلاميين ونشطاء من مختلف المجالات، عسى أن يقولوا فيه كلمة خير تصلح لسيرة ذاتية يستنجد بها من جديد للعودة إلى قصر قرطاج من باب الانتخابات، بعد أن فضت عنه حركة النهضة يديها إثر تصريحات بهلوانية وجهها إلى حكومة لا تعيره أية اهتمام.
الرجل الذي بدأ طبيباً ثم أصبح حقوقياً/ صحافياً/ ناشطاً سياسياً، يجد صعوبة في لبس شخصية رجل الدولة الجديد التي لم يعهدها سابقاً. فليس من السهل على شخص كان يشارك متعة شربه قهوته الصباحية مع بوليس سياسي يتلصص حركات شخص عنيد ومشاكس حيثما حلّ. الحقوقي المرزوقي الذي عهده كل الذين يعرفونه عن قرب مناضلاً صلباً من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان؛ كل الحقوق لكل الناس، سرعان ما أصابته لعنة الحكم. فالحقوق ليست لكل الناس اليوم؛ ففيهم الأزلام والمعارضون والمتطرفون والجاحدون والأطراف، أي باختصار كل من لا يرضى عنهم المرزوقي الرئيس. فلا يعنيه أن يُمارس ضدهم الانتهاكات التي بحّ صوته سابقاً للتنديد بها، ما دامت تطاول من هو لا يرضى بحكمه، ولا مانع من قانون لمنع بعضهم من ممارسة العمل السياسي لمدة عشر سنوات، حتى تُكمل «نهضته» عملية الاستيلاء على أجهزة الدولة.
القصر حوّله المرزوقي إلى قاعة ندوات وملتقيات لا يجتمع فيها سوى بطانته لاكتساب طهارة ثقافية، مخصصاًَ قسطاً كبيراً من ميزانية رئاسة الجمهورية لتوزيعها بسخاء لتمويل أنشطة مهجورة تكون، عادةً، في إطار أجندة عمل وزارات الدولة. لكن من سيُحاسب الرئيس اليوم؟ فالجميع تعوّد الطاعة، في السابق باسم شرعية الاستقرار والأمان، وحاضراً باسم شرعية صندوق الانتخاب.
المرزوقي الرئيس الذي وعد بإعادة الكرامة لعائلات شهداء وجرحى الثورة، والقصاص لهم وفق القانون، لم يحتفظ إلا بـ«زر» يفتخر به أمام عدسات المصورين. فهو الراكب على الثورة التونسية، والمستفيد الأول من صفاقة حركة النهضة التي منحته كرسي الرئاسة مقابل الولاء والخنوع، ولا أحد يعرف أي شعور اعتراه عندما طالبته والدة الشهيد أحمد الورغي بنزع صورة ابنها من صدره؟ أمٌّ أحست بالإحباط، على غرار جزء واسع من التونسيين، الذين اكتشفوا أنّ خطابات تحقيق أهداف الثورة ليست سوى بضاعة إعلامية مثل قطعة السكر التي سرعان ما تذوب بعد استهلاكها.
أحد قياديي حزب رئيس الدولة نفسه طالب بعرض المرزوقي على الفحص الطبي للتعرف إلى سلامة عقله، واصفاً إياه في أحد البرامج التلفزيونية بـ«المنافق والمريض الذي يعاني عقدة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة». ماذا لو كان رئيس كل التونسيين مختلاً عقلياً؟ فذلك لن يؤكده أو ينفيه سوى تقرير طبي من حق التونسيين في ما دولة ما بعد الثورة، الاطلاع عليه.
صراحة، لا تُستغرب تعاسة الحال التي بلغتها في تونس في ظل أسوأ حكم وصلت إليه البلاد منذ استقلالها. فالوهج الثوري أعمى الكثيرين عن ضرورة التفريق بين أن يكون شخصاً مناضلاً من أجل حقوق معينة، وبين شخص كفء لإدارة شؤون ملايين الناس. إلا أنّ ذلك الوهج انطفأ تدريجاً بمرور الوقت. والعين البصيرة لا يُمكن إعماءها اليوم بخطابات شعبوية لم تعد قادرة على تجييش العواطف.
المنصف المرزوقي لن يكون نلسون منديلا العرب أبداً. وسيظل ذلك الشخص الذي صرّح ذات مرة بأن هدفه الأسمى هو رئاسة دولة، ولو كان ذلك فوق جثث الشرفاء. وأيامه أصبحت معدودة في ذلك المكان نفسه الذي انتهى بتحطيم سابقيه. فمن يسانده حالياً هم فقط شبكة «حيتان جدد» سيكون مصيرهم مثل سابقيهم.
* صحافي من تونس