حكم الإخوان كان محتوماً في العالم العربي. عقود طويلة من العمل الدؤوب ومن المال النفطي ومن أموال زكاة، إما مسروقة أو مرصودة، أتت بثمارها. أذكر أن الرفيق هشام صفي الدين، بعدما عمل مراسلاً في القاهرة لصحيفة كنديّة، قال لي قبل أكثر من خمس سنوات إن وصول الإخوان إلى السلطة في مصر هو مسألة وقت. قال إنهم ينتظرون بهدوء ختام عمليّة الانتظار. والوصول إلى السلطة كان الهدف الوحيد لهذه الحركة التي لوّثت الفضاء العربي منذ ما قبل الحرب العالميّة الثانيّة. هناك من الصف العلماني الديموقراطي مَن كان يدعم حق الإخوان في الحكم على اساس عدم الاستنسابيّة في الدعوة إلى الديموقراطيّة (على طريقة أميركا التي تدعم الاقتراع الديموقراطي في فلسطين إذا انتصرت فيه «فتح» وتحاربه بشدّة إذا انتصرت فيه «حماس»، مع أن أميركا تمرّ اليوم في مرحلة إعادة النظر بموقفها من «حماس» في ضوء الأداء الباهر (للصهيونيّة) لخالد مشعل خصوصاً في مقابلته مع الـ«سي.إن.إن.» والتي ذكّرت بياسر عرفات في سنوات تملّقه للغرب). كان على الخطاب الديموقراطي التسليم بحتميّة المرور في مرحلة _ أو النفق المظلم _ من حكم الإخوان المسلمين. لكن حكم الإخوان لم يأت فقط لسحر عقيدتهم أو لبراعة خطبائهم أو لجاذبيّة نشطائهم. استفاد حكم الإخوان من عناصر عديدة قبل أن يأتوا إلى السلطة.إن العامل الأوّل الذي ساهم في إيصال الإخوان إلى السلطة يكمن في فشل خصومهم، كان خصوم الإخوان في سنوات الحرب العربيّة الباردة يتركّزون في صف اليسار والقوميّة العربيّة (وكان ذلك عندما كان الطرفان أقلّ خجلاً من اليوم في المجاهرة بالعلمانيّة). واستطاعت القوميّة العربيّة واليسار (على الرغم من صراعاتهما الدمويّة الطويلة) ان يقدّما حلولاً (خطابيّة _ بيانيّة) جذّابة ومُقنعة للشعب العربي. لخّصت شعارات التحرير والاشتراكيّة والوحدة (وبترتيبات _ أولويّات مختلفة ومتنوّعة) الهم العربي الضاغط. تكفّل (نظريّاً) وعد الحريّة والتحرير بتحرير فلسطين وبتوزيع الحريّة على الفرد العربي بالقسطاس فيما تكفّل (نظريّاً) الكلام العام (غير المدروس) عن الاشتراكيّة العربيّة بتحقيق العدالة الاجتماعيّة، فيما تكفّل (نظريّاً) شعار الوحدة بكسر الحواجز والحدود الاستعماريّة المصطنعة بين الشعوب العربيّة. ماذا تريد (أو تريدين) أكثر من تحرير فلسطين (وحتى الإسكندرون) ومن إقامة دولة الوحدة وبسط العدالة الاجتماعيّة وتحرير الثروات العربيّة من براثن الاستعمال الغربي، السافر أو المُتنكّر، لا فرق؟ سلّم العرب شؤونهم إلى أنظمة البعث والنظام الناصري وتنويعاته المختلفة التي نبتت في أكثر من بلد عربي، مشرقاً ومغرباً. لكن هزيمة 1967 بدّدت الأوهام وكشفت المستور. لم تفشل تلك الأنظمة فقط في تحرير فلسطين، بل هي أهدت إلى إسرائيل أراضي عربيّة جديدة. لم تفشل تلك الأنظمة فقط في تحقيق الاشتراكيّة الموعودة، بل هي أنشأت رأسماليّة العائلة الحاكمة في حكم البعث والقذّافي والنميري. لم تفشل تلك الأنظمة فقط في تحقيق الحريّة، بل هي فاقت في كثير من الأحيان قمع حكم المُستعمِر، وتفوّقت في فن التعذيب والسحل والإهانة. زال سحرها وتزايد قمعها، وفي حالة البعث أرادت العقيدة الحاكمة باسم الجمهوريّة ان تفرض سلالة جمهوريّة حاكمة. ضاقت الصدور.
زُجّ بالإخوان في السجون (في مصر، لم يكن قمع الإخوان قاسياً إلى الدرجة التي زعمتها الحركة إذ ان مجمل إعدامات النظام الناصري تقلّ عن إعدامات النظام السعودي أو الإيراني في سنة واحدة). وشنّ نظام البعث في سوريا حملة وحشيّة على كل تجليّات فكر الإخوان المسلمين. تحوّلت عقيدة الإخوان إلى عقدة اضطهاد، لكن هذا القمع الذي عانته، بالإضافة إلى الانجذاب الأيديولوجي، دفعها إلى أحضان أنظمة الخليج وأميركا في تلك السنوات. كانت أميركا وأدواتها في الأنظمة الشخبوطيّة يبحثون عن عقيدة لمواجهة ليس الشيوعيّة فقط، بل الفكر التقدّمي والتحرّري والتنويري والنسوي برمّته في كل العالم العربي والإسلامي (إن تدمير تجربة النظام الماركس في اليمن تمّ على يد المال والتخريب السعودي وبالتعاون مع واشنطن). وكانت الأنظمة الخليجيّة تبحث بدورها عن معين أيديولوجي لوضع الدساتير ولسن القوانين وفق الرؤية الدينيّة المُتزمّتة (كم من دستور شارك حسن الترابي في كتابته في تلك الأنظمة؟) كما أن كوادر الإخوان المطرودين من مصر ومن سوريا ملأوا الكراسي الجامعيّة والمراكز التعليميّة والإداريّة في الدول الرجعيّة الناشئة. والإخوان طيّعون مطيعون (يكفي أن ترى حالة طاعة يوسف القرضاوي لبراميل النفط والغاز): دفنوا خلافاتهم الفقهيّة مع الوهّابية ووفّقوا بين المذهب الحنبلي والوهّابيّة التي انطلقت كتجديد للدين ككلّ وأبرزت نسقها على أنه فوق المذاهب الأربعة كلّها (حاول آل سعود دفن ماضيهم بعد 11 أيلول عبر دمج الوهّابيّة بالحنبليّة). لعب الإخوان دوراً دعائيّاً في سنوات الحرب الأربع وكانوا أبواق أميركا في العالم العربي، يحرّضون على الأنظمة التي كانت تعد بتحرير فلسطين وتحرير العالم العربي من ربقة الاستعمار الغربي.
تلقّى الإخوان كماً غير معروف من أموال النفط والغاز، كما أن الحركة أنشأت تنظيماً عالميّاً حوّل ملايين الدولارات من أرباح («الحلال»؟) لأثرياء الإخوان حول العالم. ولا نستطيع ان نسرد مسار الإخوان دون الإشارة إلى عناصر ثلاثة تلاقت في السبعينيات لمصلحتهم: أطلق السادات الإخوان من السجون ودفع بهم كي يصارع خصومه في الحركة اليسارية والناصرية وكي يمهّد للسلام مع العدوّ الإسرائيلي. كما أن الثورة الإسلاميّة في إيران أطلقت العنان للحركات الدينيّة كي تعزّز ثقتها بنفسها وكي تروّج للحلّ «الإسلامي» دون أن تتجشّم عناء تعريف هذا الحلّ. والحرب في أفغانستان أنعشت الحركات الدينيّة المُتزمّتة في كل العالم العربي والإسلامي لأن أميركا والسعوديّة اشتركتا في تجنيد جيش إسلامي من الظلاميّين ليساهم في معركة أميركا ضد الاتحاد السوفياتي. هذه العوامل الثلاثة كانت حاسمة في القضاء على اليسار في العالم العربي، والذي لفظ أنفاسه الأخيرة _ أو كاد _ بسقوط الاتحاد السوفياتي.
لكن اليسار العربي يتحمّل مسؤوليّة كبيرة بدوره في صعود الحركات الإسلاميّة. حاول الحزب الشيوعي العراقي في سنواته الأولى التصدّي الشجاع للظاهرة الدينيّة لكنه ما لبث ان تجاهل الحركة تهيّباً وخوفاً وانتهازيّة. أما الأحزاب الشيوعيّة العربيّة فقد اكتفت بنفي تهمة الإلحاد عن نفسها وأرادت ان تروّج لماركس بالزي الإسلامي التقليدي. لم تبتكر تلك الحركات برامج للتصدّي _ أو حتى التعاطي _ مع الظاهرة الدينيّة، كما أن الاتحاد السوفياتي لم يكن في وارد فتح معركة كان يمكن ان تزعزع بنيان إمبراطوريّته في آسيا الوسطى.
بات الإخوان على أبواب القصر. كان إلغاء المسيرة الانتخابيّة في الجزائر عام 1992 وما تلاها من حرب النظام الوحشيّة (وحرب العصابات الدينيّة المسلّحة) علامة فارقة. تونس ومصر فعلتا الأمر نفسه بإبعاد الإخوان ومتفرّعاتهم بشتّى الوسائل القمعيّة وبدعم غربي قوي. الدول الغربيّة دعمت سلطة العسكر في الجزائر في حربها الأهليّة، كما دعمت أنظمة القمع في تونس ومصر. بدأ الإخوان بالتدبير البطيء للوصول إلى السلطة. لم يقدّموا برامج وحلولاً ما خلا الحلّ الإسلامي المنشود، وفيه حلّ لمشاكل الاقتصاد والسياسة والملبس والسمنة والبيئة والطبخ. لا حلّ إلّاه.
كان اندلاع الانتفاضات العربيّة فرصة ذهبيّة للإخوان. كان تأييد العمليّة الديموقراطيّة سهلاً لهم لتعويلهم على ثقة الناس بهم وذلك بعد زوال سحر الأحزاب اليساريّة والقوميّة والليبراليّة. ما عاد للناس من أمل إلا في تجربة من لم يُجرّب. كان سحر الإخوان يكمن في عدم تمرّسهم بالسلطة وفي قدرتهم على تقديم الوعود دون انتظار حكم المقارنة بين البرنامج والممارسة، وهم لم يتمرّسوا بعد. كان شعارهم الحقيقي يكمن في وعد بسيط: «جرّبونا».
لكن ما يحدث في مصر وتونس يقلب الموازين التاريخيّة. نفد صبر الجماهير في هذا العالم العربي المتعب. صبر الناس لسنوات وعقود على حكم القوميّة العربيّة لكن الحكم بعد 1967 كان في القمع المباشر والوحشي (الحالة المصريّة مختلفة عن تجربة البعث بسبب شعبيّة عبد الناصر الحقيقيّة وبسبب نجاح برامج العدالة الاجتماعيّة في مصر). هناك عوامل عدّة ساهمت في زوال الهالة عن الإخوان وفي اضمحلال الأمل الشعبي بنجاعة الحلول الإخوانيّة.
كان النفاق أوّل عامل من عوامل السقوط الأخلاقي والسياسي للإخوان. تنسى الحركات الدينيّة انها تقوم في خطابها على الاستسقاء من قيم الفضيلة والخلق الديني. تنسى ان الكذب والنفاق أسهل على من لم يعظ ويرشد. سارعت حركة الإخوان إلى الكشف عن وسائل نفاق سياسي لم يعهدها الناس فيهم (ربّما لأن الحركة خارج الحكم اعتمدت على السريّة). الحركة التي كان ترغي وتزبد ضد الربا وتعتبر أن تطبيق الشريعة أولويّة لا تتعدّاها أولويّة باتت تفاوض البنوك الدوليّة من أجل قروض غير إسلاميّة. حصل ذلك بعد أسابيع فقط من وصول الإخوان (أو «النهضة» في تونس) إلى الحكم. أما في السياسة الدوليّة، فقد تبخّر كل الكلام الإسلامي (المقيت) عن الجهاد ضد أعداء الدين وضد «أحفاد القردة والخنازير»، على ما يرد في الخطاب الديني العربي (ولا تجد الأحزاب الدينيّة العربيّة حرجاً في الاعتراض على أي إساءة إلى الإسلام في الغرب). أرسلت «النهضة» في تونس والإخوان في مصر وفوداً رفيعة للقاء قادة اللوبي الصهيوني في واشنطن والسجود أمامهم. راشد غنوشي طمأن اللوبي الصهيوني إلى نوايا حركته وجزم أمامه أن الدستور التونسي لن يجرّم التطبيع مع العدوّ الإسرائيلي. وعندما تسرّب خبر كلام الغنّوشي وزيارة الإخوان قامت الحركتان بإصدار النفي وضخ الأكاذيب. إن الحركتين أصدق في كلامهما أمام اللوبي الصهيوني من كلامهما أمام الجمهور العربي. أما الإخوان المسلمون في سوريا (والذين كانوا حتى الأمس القريب من زاعمي _ أو زاعقي _ دعوة «غاندي» اللاعنفيّة) فقد ظهروا في محطات إسرائيليّة لطمأنة العدوّ إلى نواياهم المهادنة وإلى عدم اكتراثهم بالجولان المحتلّ. وسارع مجلس الإخوان الوطني (الذي اندمج مع الائتلاف الأميركي _ القطري _ السعودي الجديد) إلى رفض العنف في تحرير الأرض والتزم سياسة تفوق سياسة آل الأسد في مهادنة إسرائيل وفي ترك الجولان للعدوّ يقرّر ما يفعل به.
ومما ساهم في هذا الانحدار السريع في الحظوة الشعبيّة للإخوان _ دون نفي وجود قاعدة شعبيّة لهم _ هو التظهير الواضح لنفاقهم في مسائل أساسيّة تتعلّق بالعقائد. ظهر الإخوان مظهر المُتمسّك بالسلطة بأي ثمن، كما أن وصولهم إلى السلطة في مصر وتونس أتى عبر تفاهم ضمني سرّي مع الصهاينة في واشنطن. لم يعد الإخوان منزّهين عن لعبة السلطة لأنهم أبرزوا أنيابهم ومراميهم الخبيثة بعد أشهر معدودة فقط من وصولهم إلى السلطة. والشعب العربي بات أكثر إدراكاً للعبة السياسيّة وأقلّ عرضة للاستغلال الرخيص والانخداع بالزمرة الحاكمة. الجيل العربي الحالي قد لا يصدّق، ولكن كان هناك حقبة تاريخيّة من قرن انصرم صدّق فيها الكثير من السوريّين والعراقيّين وعود حزب البعث حول تحرير فلسطين والوحدة العربيّة والاشتراكيّة: بعد سنين طويلة من التخاذل في الصراع مع العدوّ وبعد تشرذم وسيّارات مفخّخة بين حزبيْ الوحدة العربيّة وبعد إرساء مداميك سلالات حاكمة تتنعّم بثروات البلاد في سوريا والعراق، لم يعد الخطاب الحاكم ينطلي.
انكشفت لعبة الإخوان بسرعة لأن الشعب العربي يشعر بفراغ الوعود الفارغة والخطاب العملاق. وكان أداء الإخوان في مرحلة التحوّل السياسي خلال الانتفاضة أداء تجاريّاً يتضمّن بيع وشراء (على طريقة جولات خالد مشعل في العالم العربي حيث عرض بيع حركة «حماس» مقابل إبدال المال الإيراني بمال عربي خليجي). ومحاولة تركيز السلطة بيد الإخوان في مصر، وبسرعة قياسيّة، أثارت حساسيّة الشعب المصري الذي عانى من أنظمة تطلق الوعود التي لا تُنفّذ.
قد يكون الإعلان مبكّراً، وقد تستغرق عمليّة التفكيك شهوراً أو سنوات طويلة، وقد يكسب الإخوان سنوات إضافيّة من الحكم عبر مزيج من القمع المحض والاعتماد على دعم صهيوني غربي مقابل السجود أمام اتفاق كامب ديفيد. لكن مرحلة سقوط الإخوان قد بدأت. معالم الخداع باتت واضحة. تفكّكت شعارات الإخوان وبرامجهم بسرعة قياسيّة. يكفي أن سلطة الإخوان في مصر، بعد عقود من الخطاب الجهادي والكلام عن تحرير بيت المقدس، تحوّلت إلى وسيط مباشر بين العدوّ الإسرائيلي وحركة حماس. والقروض الغربيّة تنهال على حكم الإخوان في مصر وتونس ومن دون شروط أحكام الشريعة التي يريد الإخوان فرضها على الشعب. سينفر الشعب العربي من حكم الإخوان، وقد أسدى الإخوان بعد أشهر من الحكم خدمات لقضيّة العلمانيّة في العالم العربي لم تقدّمها لها الأحزاب اليساريّة في تاريخها الطويل. ومن غير المستبعد ان يؤدّي حكم الإخوان إلى نفور الشعب العربي من الحركات الدينيّة على أنواعها وقد يخلف الإخوان المسلمين في السلطة بعد بضع سنوات تنظيم جديد بإسم «الإخوان الزنادقة». هذا مِن فعل تنظيم الإخوان، وهم يستحقّون الشكر من اليسار العربي العلماني على إفلاسهم السريع، فشكراً.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)