جاء لقاء «المعارضة» الأردنية مع الملك ليعطي صورة واضحة، لا لموقف عابر، لا لتكتيك سياسي بسيط، لا للاستطراد في «الحلال» و«الحرام». الأهم من ذلك كله، أنّه يدلّ على منهجية تفكير هذه التيارات أو الأشخاص الممثلين لها، إن صحّت تسميتها أساساً «تيارات»؛ لأنّ التيار عملياً ليس عصبة، ليس مجموعة من الأشخاص تتخذ موقفها السياسي من الظواهر بنحو موحَّد، المهم أن تكون هذه الحركة الموحدة مبنية على أساس وجود بوصلة، التي تتشكل من مجمل القناعات الفكرية لأعضاء التيار. هذه البوصلة هي التي تحمي التيار الحقيقي من تضارب المواقف، من إنتاج مواقف هنا وهناك لا تتبع منهجاً واحداً. هذا هو معنى التيار، وإن حاول البعض تبرير هذا التضارب بين المواقف، بين المُخفى والمعلن على أساس الديناميكية السياسية. لا تتوقف الحادثة عند حدود اللقاء، بل تتجاوز ذلك لمحاولة البعض البناء عليه، تصديقهم إمكانية البناء عليه، وهنا تكمن الكارثة الكبرى. لنقف عند ثلاث نقاط أساسية: الجدوى من اللقاء، أو على الأقل الجدوى المنشودة منه كما طرح المشاركون فيه، والثانية المحتوى الذي عرضه المشاركون في اللقاء، ما طرح وما كتب بعد ذلك، والثالثة: إن كان ذلك التكتيك «منتقداً» ويعبّر عن عمى سياسي، فما العمل إذاً؟ سنسمع الكثير من المبررات، منها ما سيأخذنا إلى عالم سياسة «جديد»، إلى فكر «جديد»، ومنها ما يغرق في الحدث نفسه، في تفصيلاته، في «روحية» الحوار و«صراحته وشجاعته»... إلخ. سنتحدث هنا في مستويين: السياسي العام، والتفصيلي الحدثي.

مدرسة سياسية قديمة جديدة

انفتاح اليسار على النظام، سيبني عقداً اجتماعياً جديداً بين الدولة والمجتمع، بمعنى أنّ النظام الذي خصخص الممتلكات وباعها، وحوّل الأردن إلى منطقة حرة، هو ذاته سيحمل المشروع الجديد أو على الأقل حزمة منه، وربما يرافق ذلك مشاركة صورية لليسار في الحكم من خلال عدد من الوزراء والنواب.
الانفتاح على النظام سيزيد من رصيد اليسار كقوة في الشارع على حساب الإخوان المسلمين، وهذا ما يريده كهدف نهائي كل من النظام واليسار، ولكن كل على طريقته: النظام حتى يخفض من شروط «الإخوان» التفاوضية، واليسار يقف على أطلال عهد جديد يمهد له النظام طريقه. رغبة جديدة للنظام في تدعيم قوة جديدة لغايات المواجهة، شيء شبيه بما كان يعيب به اليسار على الإخوان في الستينيات والسبعينيات، في الوقت الذي كانت فيه حركات الإسلام السياسي في المنطقة خارج التاريخ.
الانفتاح على النظام سيحمي الدولة من الانهيار الذي ستجلبه حركات الإسلام السياسي، وتجري مقاربة هذا الموقف مع ما يجري في سوريا، وهي عملياً مقاربة كاريكاتورية عندما توضع الدولة الأردنية مقابل الدولة السورية من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية على حد سواء. كذلك إنّ مقاربة التحالف المدني العلماني المتشكل في مصر، وتحالف مدني جديد في الأردن يقوده النظام نفسه. كذلك لا ننسى موقف النظام من الهلال الشيعي والهلال السني والانطلاق من زاوية عداء المذهبية فقط، والتعرض للمسألة بمنحى إمكانية توجه النظام إلى تحالفات جديدة.
لنراجع معاً تلك النيات الطيبة في إنقاذ اليسار من أزمته وبناء مشروعه الاجتماعي المنتظر من خلال النظام. إذاً، نحن نصدّق أن النظام سيحمل برنامجاً جديداً، والنظام بكل رموزه لم يكن يدرك ارتدادات كل السياسات المافيوية التي مارسها، وهو اليوم يريد التخلي عنها وأقر بخطئه أو لربما لم يكن يعرف، واللوم كله على الحكومات السابقة التي أساءت التخطيط وأساءت نقل المعلومة. أما اليوم، فقد حلت اللحظة التاريخية التي عثر فيها الملك على الناقل الأمين للمعلومة، وعما يجري في البلاد.
«الانفتاح على النظام سيكون الحلقة الأقوى في مواجهة الإسلام السياسي»، ربما كانت فكرة مغرية لكل أعداء الإسلام السياسي، وأنا منهم. مقاربة ما جرى في الستينيات والسبعينيات ضد اليسار ليصبح اليوم ضد الإخوان وهم آخر. ما جرى في تلك الحقبة هو صراع بين برنامجين مختلفين، بين مدرستين مختلفتين، المسألة هنا مختلفة تماماً: «الإخوان» والنظام يمران في مرحلة نزاع الأخوة، فور أن ينتهي سيلقى بكل اليساريين «المعارضين» على الرصيف. لا بديل للسلطة في الأردن عن الصفقة الإخوانية مع النظام، وهذه المسألة هي إيعاز أميركي بموافقة كل من النظام والإخوان، فأين يمكننا أن نرى اليسار منها؟! هل يئس اليسار من التغيير من أسفل إلى أعلى، وأقحم نفسه في غير مكانه، لم ألمح أي تجربة في التاريخ لليسار تمكن فيها من الوصول إلى السلطة أو فرض عقده الاجتماعي من خلال المرور بهذا الطريق...
محاولة نسخ الموقف مما يجري في سوريا على الأردن، تخضع بالكامل للمنطق الصوري في التحليل. فمن يخشَ انهيار الدولة السورية يخشَ انهيار اقتصادها، ويخشَ انهيار تحالفاتها السياسية التي أمدت حزب الله بالسلاح في 2006، في الوقت الذي صرح فيه الأردن رسمياً بأنّها مغامرة غير محسوبة وغير مسؤولة، في الوقت الذي انحاز فيه بالكامل إلى قوى 14 آذار المتأمركة. رأس الدولة السورية مطلوب، تحاك ضده المؤامرات كي يسقط على طبق تقدمه قوى الرجعية لمشايخ الخليج، والمشروع الصهيو ــ أميركي. أما نحن في الأردن، فمن يحمي نظامنا سوى المشروع ذاته؟ أي مقاربة مجنونة هذه ينساق إليها اليسار؟ المعركة مع القوى الظلامية في سوريا لها منطقها المختلف تكتيكياً عن المعركة مع الإسلام السياسي في الأردن، لا يمكننا مقارنة أي عنصرين بناءً على عامل واحد من دون تثبيت العوامل الأخرى. كيف لنا أن نثبت عنصر النظام بين الأردن وسوريا؟ وكيف لنا أن نثبت عنصر العلاقة بين الرجعية والنظام الأردني والرجعية والنظام السوري؟
وبالنسبة إلى مصر، فالتحالف العلماني المدني المتشكل يواجه الآن معركة مهمة ضد النظام الذي تتربع عليه رجعية الإسلام السياسي، هذا التحالف هو تحالف شعبي في أوسع صفوفه، وأمامه مهمات شائكة في تنحية الميول الليبرالية منها، هذه التيارات التي تضع العلمانية عنواناً عريضاً وتتجاهل تغيير النمط الاقتصادي ووجهة التحالفات الاقتصادية والسياسية. ما يروج بعد هذا اللقاء هو تحالف مدني يقوده النظام غير المعني أساساً بهذا العامل. مربط الفرس هو الاقتصاد ووجهة التحالفات السياسية. لكن هل يمكن مافيا النظام اليوم أن تتبنى مدرسة اقتصادية أخرى، رأسمالية الدولة مثلاً أو الاشتراكية؟ اتباع مدرسة جديدة يعني بالضرورة فك كل روابط المدرسة السابقة، ويعني بالضرورة تحالفات اقتصادية سياسية جديدة قد تكون إيران وفنزويلا وروسيا مدرجة على لائحتها، فهل يفعلها النظام؟ إن كانت الإجابة الأكيدة للجميع هي النفي، إذاً فأي صيرورة ستتراكم في التحالف مع النظام؟

وهم التفاصيل وخلاصات أكثر وهماً

والمقصود هنا بالتفاصيل، تفاصيل اللقاء التي رُوِّجت لغايات تسهيل إمرار النتائج المذكورة سابقاً، شجاعة الطرح من المشاركين، رحابة صدر الملك، صراحة الطرفين، تجاوز كل السقوف، أسطورة الحاكم الذي لا يعرف «اعتقال وماشي، بس كمان يضربوهم»، استنكار سلوك الأجهزة الأمنية في دفع «الزعران» إلى رفع صور الملك في مسيرات الولاء.
في ما يتعلق بشجاعة الطرح، والصراحة، ورحابة الصدر... كل ذلك في السياسة لا يساوي شيئاً، يساوي صفراً بالضبط. وأما الترويج لأسطورة الحاكم الذي لا يعرف، ففي ذلك محاولة لتزييف وعي الناس، محاولة لقلب شكل نظام الحكم في البلاد، وهذا ما يفتح الباب لأن يتعين كل أبناء الأردن رؤساء وزارات، ويفشلوا جميعاً في أداء المهمة المنوطة بهم، ويخونوا الأمانة في نقل المعلومة: أن هناك جيوب فقر لا تنتهي في الأردن، أن هناك قطاعاً خاصاً غير وطني متغوّل حوّل البلاد إلى منطقة حرة، أن هناك معتقلين سياسيين يتعرضون للتعذيب، أن هناك قانون استثمار هو الأكثر مذلة في المنطقة. كل أبناء الوطن سيصبحون قفازاً قذراً، وللأسف لن يفشي أحد بـ«السر» للحاكم...
كيف يمكننا أن نستند إلى رحابة الصدر لنتأكد أن عقداً اجتماعياً جديداً في الطريق إلينا؟ كيف لنا أن نستند إلى الشجاعة في الطرح لنتأكد بعد يومين أن النشطاء السياسيين ما زالوا معتقلين؟ هل أخطأنا في إيصال المعلومة نحن أيضاً حالنا حال الأجهزة الأمنية والحكومة؟ ومن كان حريصاً على صورة الملك من التدنيس بين أيدي الزعران في مسيرات الولاء، فليرفعها هو في مسيرات «المعارضة».
مارس هؤلاء المشاركون في اللقاء قفزاً كاريكاتورياً من تفاصيل بهذا الحجم إلى خلاصات أكثر وهماً وأكثر كاريكاتورية، ليس غريباً أن تتفتح شهية الناشطين السياسيين على شبكات التواصل الاجتماعي لممارسة السخرية.

ما العمل؟

النظام هو مجموعة من العناصر والعلاقات تشكل في النهاية مخرجاً نهائياً، بنية. وهذه البنية لها طبائعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. يشترك النظام والإخوان في مثلث التردي، الاقتصاد والسياسة والاجتماع، يشتركان في الاقتصاد التبعي، ويشتركان في استحالة الاستغناء عن الصديق الأميركي، ويشتركان في وجه التخلف الاجتماعي من الفن والثقافة والمسرح وحتى العلمانية. جلوس «الإخوان» على طاولة المفاوضات له معنى، وجلوس النظام كذلك له معنى، أما اليسار فعنصر شاذّ عن هذه المعادلة. لأي تغيير في المجتمعات منحيان، التغيير من أعلى لأسفل أو العكس، مدرسة الأعلى لأسفل تليق كثيراً بالإخوان. اليسار حاله مختلفة، فهو يمارس المغادرة النهائية للرائج والسائد والرجعي والمتخلف والمحافظ، وهذه المغادرة النهائية لها أشكال عديدة في مستويات متعددة. في الاقتصاد يغادر وهم البورصة والعملات إلى الامتناع عن سداد الدين، وفي السياسة يغادر حلف الملكية الفكرية إلى حلف «المقلد»، وفي الاجتماع يغادر حلف الرجعية إلى التحرر الإنساني...
ما جرى لم يكن لقاء المعارضة بالملك، لقد كان كالعادة لقاء الملك بالمعارضة، أشبه ما نكون في أول أيام عيد الفطر...
* صحافي، محرر مجلة «راديكال» الأردنية