بعد انتهاء حرب تحرير الكويت، تبنت الحركة الوطنية في البحرين توقيع عريضة نخبوية تطالب بعودة العمل بدستور ١٩٧٣، وانتخاب البرلمان المنحل منذ ١٩٧٥.سلمت العريضة إلى أمير البحرين الراحل عيسى بن سلمان آل خليفة منتصف تشرين الثاني 1992، من قبل ما عرف بـ«لجنة العريضة»، التي ضمت شخصيات إسلامية ويسارية، شيعية وسنية، من أبرزهم الراحل الشيخ عبد الأمير الجمري، والدكتور عبد اللطيف المحمود الذي يتزعم حاليا تجمع الوحدة الوطنية الذي يتخذ مواقف مناصرة للحكومة ومضادة لمطالب انتفاضة 14 فبراير (شباط) الأخيرة.

ورفض الأمير الاستجابة لطلب لجنة العريضة، بدعوى أنها لا تمثل الشعب، وأصدر في 20 كانون الأول 1992 أمرا بتعيين مجلس استشاري، مكون من 30 عضوا، مدته أربع سنوات.
في كانون الأول 1993، قررت «لجنة العريضة» تسليم الأمير الراحل عريضة شعبية، وقعها الآلاف، للتأكيد على أن إعادة العمل بدستور 1973 مطلب شعبي، لكن السلطات رفضت تسلمها.
ونتج عن تعاطي السلطات بعنف مع العرائض ومقدميها، انفجار الأوضاع في كانون الأول ١٩٩٤، تزامنا مع احتفالات العيد الوطني وعيد جلوس أمير البلاد، وانعقاد قمة مجلس التعاون الخليجي في المنامة، وكان للتوقيت دلالة خاصة، ووقع مؤثر داخليا وإقليميا.
سيطر الحل الأمني على تعامل السلطات مع الانتفاضة الشعبية ــ كما تسميها أدبيات المعارضة ــ وأدى ذلك إلى سقوط أكثر من 40 ضحية خلال سني الانتفاضة، وإبعاد ثلاثة من قادتها بمن فيهم الشيخ علي سلمان، الأمين العام الحالي لجمعية «الوفاق». كما تم سجن وتعذيب زعيم الحراك الشعبي الراحل الشيخ عبدالأمير الجمري، ورفيقيه حسن مشيمع وعبد الوهاب حسين، المعتقلين حاليا على خلفية أحداث 14 فبراير (2011)، وهما عضوان رئيسيان في تحالف الجمهورية الذي يدعو لاسقاط النظام، وقد كانا من دعاة إصلاح النظام والحركة الدستورية في التسعينيات.
وفي ذروة الاحتجاجات، أيلول 1996، أصدر الأمير الراحل أمرا بزيادة أعضاء مجلس الشورى إلى 40 عضوا، لكن صلاحياته بقيت شكلية، ورفضته المعارضة الداخلية وحركة أحرار البحرين، الواجهة الرئيسية للمعارضة في الخارج (لندن).
استمر التوتر المصحوب بالعنف حتى مجيء الملك حمد في 1999، حين اعتبرت القوى السياسية أن من المهم إعطاء الأمير الجديد فرصة للإصلاح، لكن الواقع أيضا أن الحركة الشعبية كانت في حالة ضمور.
وتشكّل آخر مجلس شورى مع غياب دستور 1973 في العام 2000 من قبل الأمير حمد (قبل أن يعلن نفسه ملكا في 2001)، وضم بين أعضائه شخصيات ذات نفس إصلاحي، لكن المعارضة رفضت هذا المجلس، وكررت مقولاتها التي أبلغتها للأمير الراحل بأن من حق السلطات تشكيل أي مجالس أو لجان شورية لكن ذلك لا يصح دستوريا أن يكون بديلا عن المجلس المنتخب.
إن تأسيس مجلس الشورى والإجراءات «الإصلاحية» التي اتخذتها الحكومة منذ 1992 لاحتواء الحراك المطلبي لم تحقق المرجو منها، بل إن الأوضاع السياسية تفاقمت بعد سنتين من ذلك، وعمقها الحل الأمني السائد، والذي ترافق مع جملة من المبادرات السياسية والحوارات مع القادة الشعبيين في داخل السجن وخارجه، والتي هدفت من خلالها الحكومة إلى كسر شوكة الحركة الدستورية، وضرب صدقية قيادتها الشعبية.
إن الاستراتيجية الحكومية المركبة: العنف المدعوم قضائيا وإعلاميا، والمتزامن مع متاهة الحوار الشكلي، ومبادرات الإصلاح الباهتة، إضافة إلى طول النفس الحكومي المدعوم خليجيا وغربيا، هذه الاستراتيجية تمكنت بعد نحو أربع سنوات من تحجيم الحراك الشعبي، لكنها لم تتمكن من خلق الاستقرار، فيما ظلت شرعية السلطة قائمة على مرتكزات القوة وحدها.
والآن، ماذا عن بنود الإصلاح من طرف واحد، وفرص نجاحها في أن تشكل جسر عبور إلى بر الأمان من الأزمة المستفحلة حاليا؟
إن فرضية الإصلاح من طرف واحد قائمة، ولعلها ــ إذ احدثت ــ تشمل الجوانب التالية:
أولا، تعديل الدوائر الانتخابية
لا أعتقد أن السلطات ستجري تغييرات مهمة لإصلاح النظام الانتخابي، ولعلها ستحصر بعض إجراءاتها في إصلاح الدوائر الانتخابية لتكون أكثر تعبيرا عن الثقل السكاني للمواطنين الشيعة.
وحاليا، فإن الدوائر الانتخابية تتسم بعدم العدالة، وهي موزعة وفق أسس طائفية، تضمن للمواطنين الشيعة انتخاب 18 عضوا، فازت بها الوفاق في الانتخابين 2006 و2010، وتمنح المواطنين السنة فرصة انتخاب 22 عضوا.
ويبدو الخلل واضحا في عدم تحقيق هذه الدوائر مبدأ «صوت لكل مواطن». فبحسب إحصاءات آخر انتخابات عامة أجريت في البحرين (٢٠١٠) تبلغ الكتلة الانتخابية في الدائرة الأولى في المحافظة الشمالية (تقطنها أغلبية شيعية) أكثر من 16000 ناخب، بينما تبلغ الكتلة الانتخابية في الدائرة السادسة في المحافظة الجنوبية (تقطنها أغلبية سنية) نحو 800 ناخب، وفي كلا الحالتين يتم انتخاب ممثل واحد عن كل دائرة.
لكن إصلاح الدوائر لا يعني إصلاح النظام الانتخابي الذي لا يتسم بالشفافية. وتهيمن السلطة التنفيذية على إدارة العملية الانتخابية برمتها، لذا فقد يتم طرح فكرة إنشاء هيئة مستقلة للانتخابات، على الطريقة الأردنية. ولعل وجود هيئة «مستقلة» يكون أنسب للسلطات من وجود دوائر عادلة، ذلك أن الهيئة لا يمكنها إلا العمل على تنفيذ القانون الساري، والتأكد من عدم التزوير في يوم الانتخابات، فيما نعلم أن الجزء الأكبر من التلاعب يتم قبل يوم الانتخاب عبر اللعب في الدوائر والمال السياسي وانحياز الإعلام والتسويق الديني.
ومع ذلك، فإن يوم الانتخاب يشهد تلاعبا مفضوحا، حين يتم الزج بالعسكريين لترجيح طرف على آخر، كما حصل حين أطيح الزعيم التاريخي لجمعية «وعد» والمرشح السابق المرحوم عبد الرحمن النعيمي في 2006، وكذا إطاحة وجهي المعارضة البارزين إبراهيم شريف ومنيرة فخرو في 2006 و2010، وكل ذلك يتم من خلال الدفع بالعسكريين والدواسر/ السعوديين المجنسين حديثا للتصويت لصالح المرشح المرغوب. ويتم التصويت هذا في مراكز انتخابية عامة خارج الدوائر الانتخابية مما يسهل على السلطات التزوير فيها. والخلاصة، قد تتخذ السلطات جملة من الإجراءات لتحسين نزاهة العملية الانتخابية، لكن ذلك لن يفقدها قدرتها على توجيه المخرج الانتخابي لصالح المرشحين المرغوبين حكوميا.
ثانيا، ابتكار شرعية شعبية لمجلس الشورى
حتى مع مضي السلطات نحو تعديل الدوائر الانتخابية لتكون أكثر عدالة، فإن تشكيلة المؤسسة التشريعية تظل ترجح رأي السلطة التنفيذية مع وجود مجلس الشورى المعين إلى جانب مجلس النواب المنتخب، وكلاهما يحظيان بنفس المهام التشريعية. بمعنى أنه على فرض إجراء انتخابات نيابية نزيهة تماما، وتمكنت المعارضة من حيازة الأغلبية في المجلس المنتخب، فإن المجلس المعين يمكنه إجهاض أي تشريعات لا تريدها الحكومة.
وفي ظل تمسك السلطات بمنح مجلس الشورى صلاحيات تشريعية مساوية للمجلس المنتخب، فإنه يمكن للسلطات أن تقترح صيغة لانتخاب غير مباشر لجزء من المجلس المعين، في محاولة لمنحة شرعية شعبية. لكن السلطات ستواجه تحديا لابتكار مصطلح بديل لـ«التعيين»، ذلك أن آليات «الانتخاب غير المباشر» أو ابتكار «معايير للتعيين» ستظل تمنح الملك اليد الطولى في اختيار أعضاء المجلس المعين.
إلى ذلك، فإن تمسك السلطات بأن يكون عدد الأعضاء المعينين في البرلمان مساويا للمنتخبين يبدو تعنتا سياسيا، فضلا عن كونه إجراءً مناقضاً للديموقراطية بمفهومها العالمي، ذلك أن التجربة الأردنية التي تسيطر فيها المؤسسة الحاكمة على القرار التشريعي والسياسي يتكون فيها مجلس الأعيان المعين من نصف عدد أعضاء المجلس المنتخب، ولم يغير ذلك إطلاقا من توازنات القوة التي تستمر عند الأسرة الهاشمية الحاكمة.. لذلك فإن القيام بخطوة شبيهة يظل وارداً.
ثالثا، تحسين تمثيل الوجوه الشعبية في مجلس الوزراء إن خطوة كهذه لا تكلف شيئا من الناحية الدستورية. كما لا تغير من ميزان القوة في مؤسسة القرار، لذلك سيظل ينظر إلى خطوة كهذه على أنها إجراء تجميلي، مقارنة بالقيام بإصلاح النظام الانتخابي، أو اتخاذ إجراء جاد لمنح مجلس الشورى شرعية شعبية، فكلتا الخطوتين الأخيرتين تعتبر إجراء قابلا للترويج وتحويله مركزا للبروباغندا. ويمكن تعداد جملة من إجراءات أخرى قد تتخذها السلطات من جانب واحد. لكنها إجمالا يصعب أن تحقق مطالب المعارضة في حكومة وبرلمان منتخبين، وقضاء مستقل، ودوائر انتخابية عادلة، ومؤسسات أمنية تمثل الجميع.
ومع ذلك، قد تزيد هذه الإجراءات الإصلاحية الضغط الغربي على المعارضة، وقد تزيد من مساحة المتسربين من تحت أجنحتها، وتقلل الداعمين في بعض أوساط النخبة، التي يريد بعضها أن تخرج من عنق زجاجة وجدت نفسها عالقة بها؛ فهي لم تكن جزءا من انتفاضة ١٤ فبراير (شباط)، لكنها وجدتها فرصة للتنفيس عن مكبوتها. وتوقعت انتصارها، وهذه الفئة تنشد الفرصة لتغير مسارها، ولعل خطوات إصلاحية وإن كانت محدودة تساعدها في ذلك. بيد أن تجربة التسعينيات تؤكد أن أي إصلاح من جانب واحد، ولا تسهم المعارضة في الترويج له، سيظل عبئا على الوطن، أكثر منه إصلاحا. لكن المعارضة، بما في ذلك الجهات الراديكالية/ الممانعة/ الثورية ترى في عدم الحوار مع السلطة الخيار الأنسب، وتعتبر إجراءاتها الإصلاحية الشكلية مكسبا للجمهور، لكنها لا تستحق العناء للدخول في تسوية.
* صحافي وكاتب من البحرين مقيم في لندن (المقال جزء من تقرير موسع ينشره قريباً مركز البحرين للدراسات في لندن www.bcsl.org.uk ، وتنشر «الأخبار» التقرير على مدى الأسابيع المقبلة)