بإمكان الكتلة الاجتماعية المعارضة لحكم «الإخوان» في مصر أن تطمئنّ الآن. لن يدعوها أحد بعد اليوم إلى استقطاب المهمّشين في الأرياف والمدن إلى حراكها ضد السلطة. أصلاً ما عاد هؤلاء بحاجة إلى من يستقطبهم. لقد تكفّلت السلطة الإخوانية بذلك، ووفرت على المعارضة جهداً كان يفترض أن تقوم به منذ زمن. يا لحظّ أولئك اليساريين والليبراليين و«الفلوليين» في مصر. لو توافر للنخب الإخوانية التي تحكم تونس والمغرب وليبيا جزء بسيط فحسب من الدهاء الذي أبداه أشقّاؤهم في مصر لما بقي لمعارضيهم أرض يتحرّكون فوقها. فعلاً لا يجوز أن يأخذ المرء ما يقوله المصريون اليوم عن إحراق مقارّ الإخوان المسلمين في عشرات المحافظات على محمل الجدّ أبداً. هم يتهكمون كعادتهم، لا أكثر ولا أقلّ. ليس في الأمر من قراءة سياسية على الإطلاق. عندما يقولون مثلاً إننا انتظرنا ثلاثين عاماً حتى نحرق مقارّ الحزب الوطني، فيما لم يستغرق منّا الأمر أربعة أشهر حتى نحرق مقارّ الإخوان لا يكونون في صدد مقاربة سياسية كما أسلفت. كلّ ما في الأمر أنهم ضاقوا ذرعاً بالإخوان. وهذه ليست سياسة كما حاول أن يخبرنا كلّ من المرشد محمد بديع ونائبه خيرت الشاطر. الاثنان كانا متفقين على أن ممارسة السياسة شيء والإجرام والبلطجة شيء آخر. حسناً.
لن أناقش ذلك الآن لأنه ليس موضوعنا، وسأكتفي من التمرين أعلاه حول دهاء الإخوان من عدمه بفكرة واحدة فحسب. فكرة يتمحور حولها الجزء الأكبر من الصراع حالياً حتى لو لم تكن مناسبة لما يعتقد المرء أنها «الثورة الاجتماعية»: نقمة كتلة كبيرة من المصريين على الإخوان، وتعامل «الجماعة» مع الأمر كما لو كان هؤلاء يمثّلون النخبة فحسب. لا شكّ في أن من بين المنتفضين كثراً ممن يمكن اعتبارهم نخبة، إلا أنها نخبة مؤثرة وقادرة فعلاً على الحشد بخلاف ما يعتقد الإخوان. وافتراضهم أنّها هامشية (رغم هيمنتها على منابر إعلامية واسعة الانتشار وذات صدقية) قادهم إلى ارتكاب المزيد من الأخطاء. هم لم يكتفوا بمعاداة هذه الشريحة فحسب، بل استعدوا أيضاً طبقة لم تكن يوماً محسوبة عليهم، ولم تهيّئ نفسها أيضاً لاستقبال خطاب «الثورة». نتحدّث طبعاً عن الطبقة الوسطى المصرية التي بقيت إلى حين قريب خارج الاستقطاب الحاد بين الثوريين و«الفلول».
اليوم، ومع تغيّر بنية الاستقطاب السياسي وانتقالها من ضفّة «فلول» ـــــ ثوار إلى ضفّة علمانيين ـــــ اسلامويين، بات بإمكان الطبقة تلك أن تحسم أمرها. هي لم تفعل حتى الأمس، لأنها لم تكن تشعر بأن الصراع بين الكتل السياسية قد وصل إلى حدود المساس بمكتسباتها. وما فعله محمّد مرسي حينما أصدر إعلانه الدستوري الأول هو أنه أعاد تذكير الطبقة الوسطى بأنّ لها حقوقاً لا يمكن أن تنتزع بسهولة، ما لم تنزل إلى الميدان وتفهم من في السلطة حالياً أنها لم تعد تكتفي بالجلوس على الكنبة. ربّما لم يفهم «الإخوان» بعد ماذا يعني أن تكون السلطة في مواجهة طبقة تقود عادة المجتمع وتشهد من موقعها المهيمن على تحوّلاته المختلفة. ولأنهم كذلك، سيستمرون في خسارة المزيد من المساحات لمصلحة معارضة ليست منّظمة مثلهم، لكنها تصدر عن حساسية مجتمعية تصلح لأن تكون تعبيراً عن مزاج المصريين العابر تاريخياً للطبقات والطوائف والمناطق (يسمّونها في مصر النجوع). حتّى وهي تخسر اليوم معركتها ضدّ إجراء الاستفتاء على الدستور الإخواني، لا يظهر عليها أنّها في موقع ضعف، أو أنّها في صدد فقدان المواقع التي كسبتها في الجولة الأخيرة ضدّ «الإخوان» وهيمنتهم، بل على العكس من ذلك؛ كلّما تقدمنا في الزمن ازدادت الكتلة المعارضة تصلّباً، وازداد إصرار جمهورها على منازلة السلطة الإخوانية، حتى في عقر دارها.
ماذا يعني مثلاً أن يحاصر ناشطون معارضون طيلة أيام عديدة منزل محمد مرسي في الزقازيق في محافظة الشرقية، ويفرضوا وجودهم على ذاك النحو في مكان كان على الدوام قلعة للإخوان المسلمين وخزّاناً بشرياً لهم؟ وبالمناسبة، أولئك الشباب ينتمون في معظمهم إلى الطبقة الوسطى، وإن بدا أنهم منفصلون عنها طبقياً (على مستوى الوعي لا الانتماء). ولهذا الأمر دلالة كبيرة في ما خصّ العلاقة بين السلطة الإخوانية وعموم المجتمع. فعندما تبدأ الطبقة الوسطى، المعروف عنها تاريخياً «تصالحها مع السلطة»، ممارسة الحصار على «من يفترض أنه حليفها»، فهذا يعني أنّ المجتمع قد بدأ في مزاولة أنماط من المقاومة لم يسبق له أن زاولها من قبل. حتى عندما تصدر عنه دعوات راديكالية وغير قابلة للتطبيق عملياً (إعلان استقلال المحلة وانفصالها عن الدولة الإخوانية)، فإنه يبقى على استعداد لمنازلة السلطة وتحدّيها في ما تعتبره «تهويشاً سياسياً» غير قابل للصّرف، كما قال محافظ الغربية لدى سؤاله عن الدعوات التي أطلقت لاستقلال المحلة وطنطا عن الجمهورية. تقريباً، يمكن العثور على مفردة «تهويش» التي صدرت عن المحافظ في كلّ ردود الإخوان على منتقديهم داخل الحراك الحالي. بالنسبة إلى «الجماعة»، ما عادت المحاججة العقلية ممكنة مع خصوم يستطيعون بكلّ سهولة ملء الفراغات الدولتية وتحويلها إلى عناوين يومية للصراع والاستحواذ على الأرض. وهذا هو التفسير الوحيد الممكن لوقوعهم في ما اتهموا به خصومهم الشجعان: التهويش. ليس بوسع السلطة الإخوانية اليوم في ظلّ انكسار هيبتها وتقهقرها على الأرض فعل شيء آخر. لقد أرغمت على ذلك، ومن أرغمها يعلم أنّ رصيدها صفري أصلاً، وإذا حدث وملئ قليلاً، فبفضل التشبيك الإقليمي المياوم (مع تركيا وقطر ومن ورائهما الإمبرياليات الغربية) لا أكثر .
وعادةً ما تلجأ السلطة لدى تآكل «شرعيتها الخارجية» (كيف تكون شرعية إذا كانت مبنية على اعتراف الخارج!) إلى قاعدتها في الداخل، فكيف إذا كانت كما في حالة الإخوان المسلمين سلطة «تمتلك الداخل»، ولا تلجأ إليه فحسب. المأزق هنا كبير بلا شكّ، و«الإخوان» مرشّحون للخروج منه بمزيد من الجروح لو لم يتواضعوا قليلاً في ما يطلبونه من قواعدهم. لقد سبق لهم أن استقووا بتنظيمهم الدولي وعلاقاتهم الشبكية العابرة للحدود على الداخل المصري ولم ينفع الأمر. وها هم يعيدون الكرّة الآن حين يستخفّون بقدرة الطبقة الوسطى المنتفضة ضدّهم على تحجيم دورهم الداخلي. الاستخفاف هنا نابع من قناعة راسخة لديهم تفيد بأن منطق الكتل هو الذي سيفرض نفسه في النهاية. وعندما يجري الحديث عن الكتل، نصبح أمام معادلة جديدة اسمها القدرة على الحشد بمعزل عن استطاعة هذا الأخير صياغة جملة مفيدة من عدمها. طبعاً الحشود في طبعتها الإخوانية عاجزة عن ذلك، لكنها غير مكترثة بهذا العجز، فمن يستغلّ حرمانها يزيّن لها الأمر على نحو مغاير «لكلام النخب والإعلام المأجور» (بعضه أكثر من مأجور).
بإمكان التحليل الطبقي هنا أن يفعل الكثير. حتماً لا يحبّذ الكثيرون اليوم الاستعانة به لأنّه سيتعامل مع القاعدة الاخوانية على قاعدة مغايرة لتعامل الطبقة الوسطى المنتفضة (وكذا نخبها) الآن معها. ومن جملة ما يقوله التحليل أعلاه: كلّ الكلام عن الانتفاضة ضدّ السلطة الإخوانية سيغدو نافلا ما لم تسارع المعارضة ومن ورائها الكتلة الشعبية العريضة التي تؤيّدها إلى توضيح الالتباس الآتي: أن تكون ضدّ السلطة شيء، وأن تكون ضدّ جمهورها شيء آخر تماما؛ فالقاعدة العريضة للإخوان المسلمين والسلفيين ليست كتلة صمّاء يصعب اختراقها أو تفكيكها، والاستمرار في التعامل معها كما لو كانت كذلك سيفضي إلى مزيد من الاستقطاب على أساس الهوية. وهذا يعني ببساطة أن مصر تتجه إلى سيناريو قريب ممّا يحدث في سوريا اليوم من تحلّل اجتماعي وظيفي. حين يشير المرء مثلاً إلى ناشطي «الإخوان» (اقرأ: ميليشيات) الذين استعملوا في تعذيب المتظاهرين أمام قصر الاتحادية بوصفهم «ضحايا» هم أيضا، لا يجوز أن تقابل هذه الإشارة بالاستنكار من جانب الكتلة المعارضة الفعلية. سبق لكثيرين أن عبّروا عن موقف مماثل تجاه المجنّدين في الجيش السوري، الذين يُقتلون على الحواجز، أو تجاه المسلحين المعارضين الذين يُقصفون بالطائرات من دون أن يواجَه هؤلاء باتهامات تخصّ اصطفافهم الواضح إلى جانب الضحية ضدّ جلادها. وإذا كان المزاج المحافظ واليميني عموما الذي تصدر عنه البورجوازية المدينية لا يحتمل قراءة كهذه، فذلك لا يعني أن يرضخ المرء لمزاج مماثل، حتى لو كان يلتقي معه موضعياً في مواجهته المشرّفة حالياً ضدّ اليمين الإخواني.
ثمّة «حكمة» في مكان ما من الوصف الدؤوب للإخوان بأنهم يمينيون ومعادون لمكتسبات الطبقات الشعبية والمفقرة؛ فبدون الدأب ذاك، سيبدو الأمر كما لو كان إجازة للمعارضة كي تفعل ما تشاء بعد الانتهاء من المعركة الائتلافية ضدّ اليمين الاخواني. لا تنسوا أن في المعارضة أيضاً يمينيين، وما يبشّرون به اقتصاديا لا يقلّ سوءاً عما يفعله «الإخوان» اليوم بحقّ الاقتصاد المصري. كان ممكناً مثلا أن نناقش هؤلاء في ما يريدونه من التحاقهم بصفوف المعارضة لو أبدوا رأيهم على الأقلّ في التعديلات الأخيرة على قانون الضرائب قبل أن يتراجع عنها مرسي تحت الضغط الشعبي (ليعيد إقرارها لاحقاً بعد تمرير الاستفتاء على الدستور). غير أنّهم أحجموا عن ذلك. وهذا أمر مفهوم نظراً إلى تموضعهم الطبقي المنحاز ضد الفقراء. لكن من غير المفهوم أن يتغاضى الجناح اليساري داخل المعارضة (التيار الشعبي، التحالف الشعبي الاشتراكي، الحزب الديموقراطي الاجتماعي، بعض المنتمين إلى حزب «مصر القوية .....الخ) عن الأصوات القاعدية المتعاظمة التي تطالب بعزل هؤلاء، والانتهاء من فكرة التفاهمات المؤقّتة معهم. هذه الحساسية تكاد تكون غائبة عن الميادين المنتفضة ضدّ «الإخوان»، وغيابها يغلّب البعد الديني لسياساتهم على نظيره الطبقي. طبعاً الإخوان يوظّفون الأول في خدمة الثاني لا العكس، ويستفيدون من ارتياح قطاعات عريضة داخل المعارضة للتوظيف ذاك أيّما استفادة. يكفي أنّهم يستعملون الأمر كتكتيك خبيث في جرّ الانتفاضة إلى ملعبهم وتوريطها في تلاعبهم الدنيء بالهويّة المصرية. هم ينزفون يومياً بلا شك، إلا أنّهم يتقدمون على المعارضة أحياناً. ولا سبيل لفرملة التقدم ذاك إلا بتوسيع الانتفاضة وإدماج شرائح أوسع في نشاطاتها حتى لو لم يكن هؤلاء من هواة النوع. تمرين المحلّة يقول ذلك، وكذا هتافات أهل الشهيد الحسيني أبو ضيف ضدّ «الإخوان» ومرشدهم في سوهاج ....الصعيدية.
* كاتب سوري