الفكرة صعبة على السمع، لكن: لبنان وطن غير قابل للحياة. هو مثل الكيان الصهيوني: قام على فكرة غير جامعة تطلّبت فرض سيادة فريق طائفي على آخر، وهي لا تتعايش مع المساواة والعدالة والديموقراطيّة الحقّة. لا يمكن بلورة فكرة وطنيّة مُؤسّسة تحوز الإجماع، أو شبهه، بين الشعب المُتناحر. لهذا، فإن الكيان اللبناني والأردني والصهيوني لن تعمّر. ستذوب تلك الكيانات في إطار عربي أوسع وأرحب. الكيانات الثلاثة لا تتمتّع بمواصفات الاستدامة: هي مثل الكيانات التي أقامها الصليبيّون في ربوعنا (لو كان آل الحريري بينهم لفتحوا أذرعهم للصليبيّين كما رحبوا بغزو إسرائيل للبنان في 2006، وفي سنوات سبقت). تحوز حواشي فقط في كتب تاريخ المنطقة. ولكن لنتكلّم طائفيّاً: لبنان تأسّس بإرادة المستعمر الغربي الذي قسّم تركة الإمبراطوريّة العثمانيّة، كما أن فذلكة برنامج «عصبة الأمم» تضمّن «وعد بلفور» الذي تأسّس _ كما قال بلفور نفسه عشيّة إعلانه الوعد _ على أطروحة «استثناء تقرير المصير العددي»، فإن لبنان تأسّس على فرضيّة تفوّق عنصر (المسيحي) على آخر (المسلم).
وجرى تسويغ ذلك عبر أساليب متعدّدة تضمّنت، في ما تضمّنت، الاعتماد على مستوى تعلّم أرفع عند المسيحيّين (حاربت النخبة المارونيّة الحاكمة فكرة تأسيس جامعة وطنيّة غير خاصّة في لبنان، لأن الجامعة الأميركيّة والجامعة اليسوعيّة ساهمتا في ترسيخ تفوّق عنصر على آخر بمعيار نيل الشهادات، كما أن بيار الجميّل وفريقه حاربوا معادلة شهادات التوجيهيّة العربيّة بالشهادة اللبنانيّة لإبقاء المسلم في موقع دوني مطلق) وعلى سياسة تجنيس طائفيّة صريحة (أتقنها حكم كميل شمعون، كما أتقنها غيره ممن تبوّأ سدّة الرئاسة) وعلى حرمان مسلمين (من عرب وادي خالد وغيرهم من الذين واللواتي تزوّجوا فلسطينيّين، مثلاً) حق الجنسيّة. وقصّة أوّل وآخر إحصاء للطوائف في لبنان معروفة، وكان لزاما على الفئة الحاكمة ان تعتمد ذلك الإحصاء معياراً أبدياً حتى لا تنكشف حقيقة التغيير الديموغرافي السريع الحاصل في البنية السكّانيّة للبلد التعيس: لم تعلم النخبة الطائفيّة الحاكمة في لبنان، قبل الاستقلال وبعده، أنها ساهمت، من دون أن تعلم، في زيادة النسب الإسلاميّة في السكّان، لأن العلاقة بين الفقر والخصب هي علاقة مباشرة. إن إفقار المناطق الإسلاميّة لم يكن، تاريخيّاً، في مصلحة النخبة التي سوّغت حكمها على أساس أنها هي الأكثريّة بناءً على إحصاء 1932.
مناسبة هذا الكلام هي السجال السياسي الحاصل حول الضرورة المُلحّة لمنح المغتربين حق الاقتراع. وهذا الموضوع انبثق من البطريركيّة المارونيّة أيّام البطريرك صفير، صاحب الشعار التقسيمي الشهير («فلينتخب المسلمون النوّاب المسلمين، ولينتخب المسيحيّون النواب المسيحيّين»، والشعار هو في صلب ما يُسمّى «المشروع الأرثوذكسي»، الذي يعكس العقيدة التقسيميّة لبشير الجميّل، والذي يروّج له بحماسة منقطعة النظير العروبي، إيلي فرزلي، الذي ذكّر الرجل الأبيض في حديث مع لجنة التحقيق الدوليّة أن له جدّاً درس في جامعة شيكاغو، أوّاه). والبطريرك صفير من هؤلاء المتخمين بالعقليّة الطائفيّة التي تأسّس الكيان اللبناني عليها، والتي صيغت على قاعدة أن الأكثريّة المسيحيّة هي أكثريّة أبديّة، وإذا ما استحال ذلك يمكن الاستعانة بأطروحة «وعد بلفور» حول «استثناء حق تقرير المصير العددي»، وهذا ما عناه جبران غسان تويني وبيار الجميّل الحفيد في الكلام على «النوعيّة» وعلى «الغَنَم». هؤلاء يريدون إنقاذ مشروع الغلبة الطائفيّة عبر الترويج لنظريّة الإمبراطوريّة اللبنانيّة حول العالم.
وفي تعداد البطريرك صفير، وتعداد أتباعه من ذوي العقليّة الطائفيّة التي تعتبر ان المساواة _ أو الديموقراطيّة غير الزائفة _ لا تليق بالعنصر الطائفي المتفوّق في لبنان (على طريقة معارضة الصهيونيّة التاريخيّة للمساواة في فلسطين)، فإن لبنان المهاجر يفوق الـ15 مليوناً بالتمام والكمال. الإحصاء السكّاني، للداخل والخارج، لم يجرِ ولن يجري أبداً: ضرورات العيش الطائفي لا تسمح به. الطريف في النظام اللبناني أنه مبني على حسابات طائفيّة دقيقة (نظريّاً، أو متخيّلاً) وأرقام لكنه ينفر من إجراء إحصاء علمي لتبيان النسب المختلفة للمجموعات السكّانيّة المُتناحرة في جسم مسخ الوطن المتفجّر، لكن المبالغة في تعداد المهاجرين (وفي أهميّتهم وأهميّة دورهم، يكفي أن كارلوس سليم واحد منه. ألم يزر لبنان مرّة واحدة ويأكل الكبّة؟) ضروري للتقليل من وقع التناقص في عدد المسيحيّين في لبنان (والتناقص يعود لأسباب مختلفة، أهمّها _ وهذا العامل قلّما يجري التطرّق إليه _ سياسة التسامح الطائفي مع الوافدين المسيحيّين من الشرق الأوسط، وهي سياسة مُتبعة في معظم الدول الغربيّة على مرّ التاريخ، ولا تزال مُتبّعة في الولايات المتحدة، بوسائل وذرائع شتّى).
والمبالغات الخياليّة في أعداد اللبنانيّين في المهجر تُستخدم لأغراض الضغط الداخلي، وقد تحوّلت إلى جزء من معادلة للشلل السياسي أو الإصلاحي: كأن يُقال إن أي مطالبة بإجراء إحصاء شامل للسكّان في لبنان تواجه بإعطاء حق الاقتراع للمغتربين. بكلام آخر لا يجرؤ الساسة الطائفيّون على المجاهرة به، فحوى الكلام هو: مقابل كل مسلم مقيم نأتي بمسيحي مغترب حتى لا تصبح الغلبة العدديّة في لبنان رافعة لتحوّل جذري في طبيعة النظام السياسي اللبناني، وحتى لا نستثني من تركيبة النظام معادلة بلفور عن تفوّق عنصر النوع على الكمّ.
لكن فكرة حق الاقتراع للمغتربين فكرة باطلة، إذ ليس هناك ما يمنع المغترب (أو المغتربة) من الاقتراع في لبنان لو أراد المغتربون، ولو احتفظوا بالجنسيّة اللبنانيّة. لا بل إن القانون اللبناني متساهل أكثر من غيره من قوانين الدول بالنسبة إلى حق الاقتراع حتى لو تخلّى اللبناني عن جنسيّة بلاده، وحتى لو تخلّى عن جواز سفره، وحتى لو خدم في جيش لحد أو الجيش الأميركي. يستطيع اللبناني استخلاص إخراج قيد أو هويّة من أجل ممارسة حق الاقتراع لخيرة ممثّلي الشعب، من أمثال نقولا فتّوش وخالد ضاهر وعلي عسيران وسائر الشلّة. من منع المُغترب من ممارسة حق الاقتراع في لبنان؟
لكن هناك ما هو متعلّق بشأن الطائفيّة، التي تخشى عواقب التغيير الديموغرافي الذي قلب الميزان لمصلحة المسلمين، وهناك شأن آخر يتعلّق بالواقع السياسي الراهن. لم يعد الانشطار السياسي في لبنان بين مسلمين ومسيحيّين: هذه ملهاة. الانشطار هو اليوم بين سنّة وشيعة، والطوائف المسيحيّية مهمّشة والمسموح لها به هو فقط أداء دور «الأحزاب الثالثة» في بعض الديموقراطيّات الغربيّة (ما يُسمّى في لبنان «بيضة القبّان» _ والقبّان هو القسطاس عند العرب). والطائفيّة السنيّة تتنازع هي والطائفيّة الشيعيّة من أجل السيطرة على مقدّرات البلاد بعد أفول سيطرة الطائفيّة المارونيّة. وهذا التنازع يجري على أرض لبنان وخارجها. وقد تكون الانتخابات النيابيّة الأخيرة (وهي أسوأ انتخابات في تاريخ لبنان قاطبة وأكثرها فساداً وأكثرها تأثراً بالمال السعودي (وكان هناك مال إماراتي وأميركي وإيراني أيضاً، لكن بنسب أقلّ) قد حُسمت عبر استقدام مهاجرين لبنانيّين من قارّات خمس). والنسبة المُتقاربة بين السنّة والشيعة تزيد من الحاجة إلى عامل مُقرّر، خارجي أو داخلي (نقل النفوس وحده لا يكفي لأن هناك إمكاناً للتلاعب به من قبل الطرفيْن الطائفيّين).
لكن هناك ما يزيد من سخرية الموقف. تتنطّح وسائل إعلام 14 آذار، وخصوصاً الـ«إم.تي.في»، التي لها في كل عرس طائفي قرص كبير، للزعم بأن هناك مؤامرة طائفيّة (من الشيعة) لحرمان المُغتربين (وفي عقليّة الطائفيّة المسيحيّة المُغترب هو مسيحي، مع ان النسبة الأكبر من الذين يُرجّح مشاركتهم في الانتخابات سيكونون من المُغتربين الجدد، الذين غادروا بعد الحرب الأهليّة، وهؤلاء متنوّعون طائفيّاً) من حق الاقتراع. وعبثاً يشرح لهم عدنان منصور أن عدد الذي يتسجّلون في السفارات اللبنانيّة للاقتراع قليل جدّاً. هذا هو العناد الطائفي. كارلوس سليم لم يكترث لأمر لبنان، ولم يكترث لأصله اللبناني، لكن وسائل الإعلام اللبنانيّة الغبيّة روّجت أن الـ«سنيور» سليم عاد إلى الوطن من أجل أن يقترع في الانتخابات البلديّة. وبلديّة جزيّن جُنت عن بكرة أبيها احتفاءً بالضيف المذهول لأنها ظنّت ان سليم سيوزّع الليرة العثمانيّة الذهبيّة على كل مقترع ومقترعة حبّاً بالمأكول اللبناني. ولماذا يكترث المُغترب من عقود أو قرون في المهجر للانتخابات النيابيّة في لبنان وهو (وهي) منخرط في شأن انتخابات أقلّ فساداً في بلدان أخرى.
لكن هناك ما هو أسوأً: يريد أصحاب حنين سيادة الطائفيّة الغابرة (التي اُبدلت بسيادة طائفيّة متناحرة) أن يسوّقوا لفكرة العودة إلى ماض لن يعود. كيف يمكن تسويغ اقتراع من أقام في المكسيك أو البرازيل لعقود من الزمن ومن لا يتابع أخبار البلاد؟ ماذا يعرف المُغترب عن المشاكل الحياتيّة للشعب اللبناني؟ وهناك من يزايد على خصومه الطائفيّين عبر الترويج لفكرة رصد عدد من المقاعد النيابيّة للمغتربين. هي محاولة لتغيير واقع ديموغرافي لن يتغيّر، وفكرة يُراد منها التهويل على من تسوّل له نفسه الإخلال بمعادلة «الطائف» الكاذبة.
ويبرز عامل التوتّر الطائفي عند تجّار الطائفيّة المسيحيّة في التعامل المضطرب مع الواقع الديموغرافي المتغيّر، لغير مصلحة الطائفيّة المسيحيّة. الأب كميل مبارك (وهو ضيف عزيز على المحطة العونيّة)، يزايد أكثر ويقول مُعنّفاً محاوره على «إو.تي.في» ان كل ما يُقال عن تناقص في نسب المسيحيّين هو أكذوبة. ويضيف الأب مبارك ان لديه إحصاءات تثبت ان المسيحيّين لا يزالون بنسبة 50% أو أكثر. وعندما سأله المحاور المندهش عن مصادر معلوماته، اجاب واثقاً بانه حصل عليها من «الإنترنت» (يتعامل بعض اللبنانيّين مع «الإنترنت» على أساس أنه مجلّة أو مركز أبحاث واحد) وأنه موجود على حاسوبه. من الممكن ان يقلب حاسوب الأب مبارك موازين القوى الطائفيّة في
لبنان.
فكرة المساواة الطائفيّة في تقدير التعداد الطائفي، أو في طمسه، في النظام الطائفي لا يمكنها أن تستمرّ إذا قُدّر للنظام السياسي اللبناني ان يتطوّر. ماذا إذا استمرّ التناقص في عدد المسيحيّين؟ هذا يُقلّل من قيمة صوت مقترع على حساب آخر. طبعاً، الحلّ لا يكون بتغيير تلك المعادلات الطائفيّة المُغرضة بل بنسفها من أساسها وبتطبيق علمنة شاملة تزيل الإشارات (وبقوّة القانون الموضوع على طريقة النظام في رواندا: هل يريد اللبنانيّون جولة من الحرب الوحشيّة للاقتناع بجدوى العلمنة؟) الطائفيّة من كل القوانين. شعار إلغاء الطائفيّة السياسيّة لا يكفي، لا بل إنه شعار طائفي يُراد منه تعزيز موقع طائفة على حساب أخرى. والحسابات الطائفيّة لا تنطبق فقط على المواجهة بين المسلمين والمسيحيّين، بل تتطوّر بصورة أكثر خطورة بين الشيعة والسنّة. وسيصبح تعداد كلا الطرفيْن من الألاعيب السياسيّة، وسيحاول كل فريق استخدام وسائله لإثبات التفوّق العددي، كما أن مقولة النوعيّة (وهي جذّابة عند آل الحريري، الذين اعتنقوا منذ بدأ رفيق الحريري حياته السياسيّة كل عناصر العقيدة الكتائبيّة) ستسري أيضاً في الصراع المذهبي المستعر.
المُغتربون (وأنا منهم) رحلوا عن لبنان بقرار ذاتي لا تحت الضغط والإكراه. إن محاولة الاستعانة بالمغتربين لتعزيز المواقع الطائفيّة المحليّة لن تفي بالغرض. الحافز الطائفي والمذهبي عند المغتربين ليس بقوّة الحافز عند المقيمين. وفكرة الإمبراطوريّة اللبنانيّة حول العالم هي من خيال من ابتدع فكرة الحضارة اللبنانيّة حول التاريخ: أي إنها لا تمتّ بصلة إلى الواقع أو الحقائق أو العلم، لكن تجّار الطائفيّة في لبنان قلقون: ولن ينقذهم المغتربون من قلقهم. وقلق هؤلاء مزمن، وهو سمة من الحياة السياسيّة في لبنان، كما أن الحياة السياسيّة في لبنان تنفّر المقيمين (والمقيمات)، فما بالك بالمغتربين؟
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)