في فهم مسطح للأحداث السورية، تلقفت وسائل الاعلام كلاماً نقل عن نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف قيل إنه أدلى به في جلسة خاصة في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا للمجلس الاجتماعي الروسي للتعاون الدولي والديبلوماسي. فحوى الكلام أن القيادة الروسية لا تسقط من حساباتها امكانية «هزيمة النظام في سوريا في معركته مع المعارضة المسلحة». هرعت الصحف كافة الى تصدير فقرة من كلامه على صفحاتها الأولى، وفي الأخبار التلفزيونية ذات صفة العاجل ليتأكد للعالم أن الإعلام هو سيد الموقف في العقد الأخير، وأنه هو الذي يحدد الأمور ويرسم المفاهيم، ويضع الحقائق بغض النظر إن كانت صحيحة أم لا. وعندما تظهر الحقائق، وينكشف الكم الاعلامي المزيف، يكون «الذي ضرب ضرب والذي هرب هرب»، وينسى الناس ترهات ما سمعوا لأنهم سيكونون مشغوفين بخبر آخر يضرب على وتر حساسيتهم المرهفة، والمشحوذة بالتعبئة الاعلامية والقصف الاعلامي المتواصلين دون هوادة.ومهما كانت نسبة الأخبار إلى بوغدانوف صحيحة أم لا (جرى تكذيبها لاحقاً ونأخذ كلامه كمثل)، فإن ما قيل عن لسانه يشير الى تسطيح للحقائق السورية، والى فهم بسيط لتطور الاحداث حتى حدود السذاجة. وليس الامر مستغرباً، ولو كان مسؤول في الصف الاول لدولة عظمى كروسيا هو الذي أدلى بتلك الأقوال، ذلك أن الكلام يتناول أحداث وتطورات سوريا المثيرة للجدل، والحيرة، والأكثر إشكالية، دون توافر جواب قطعي ومباشر عما يجري.
ذلك انه بدخول الأزمة شهرها الثاني والعشرين، لا تزال المعارك على حماوتها وحدتها، آكلة الأخضر واليابس، وعدد الضحايا تجاوز المئتي ألف على ما يتردد في مختلف وسائل الاعلام والمنظمات الدولية ذات الصلة. ويتركز الحديث عن معركة دمشق، وقرب حسمها من النظام أو من المعارضة، كما جرى الحديث عن قدرة القوات المعارضة على اختراق العاصمة، واحتلالها.
إلا أن جملة من المقارنات، والوقائع الميدانية، وبعيداً عما يقال في إعلام الطرفين، لا تتوافق بنتيجتها مع كلام بوغدانوف، فتثير الأمور تساؤلات عن مغزى كلامه في هذه الظروف. وليس المهم ما قاله بوغدانوف، بل الواقائع التي تتحدث عن حقيقة الوضع.


آليتان متناقضتان

أول نموذج تعتمده المعارضة المسلحة هو تحقيق انتصار سريع، بغض النظر عن اهميته، لتأمين مادة تعبئة إعلامية تستفيد منها مع من يمولها ويدعمها في حروبه مع الاخرين على المستوى الاقليمي والدولي. والدليل الأخبار التي لا تحمل اي معنى عسكري أو استراتيجي، بالاعداد الكبرى من المقاتلين؛ فمثلاً شنوا هجوماً بمئات المقاتلين، على مستوصف حكومي خال، وفي المواجهات، تكبدوا العشرات من القتلى، ليسيطروا على المبنى الذي لا قيمة له. تفسير واحد للأثمان الغالية التي تدفعها المعارضة وهو انها تهدف إلى تحقيق اي نصر توظفه ماكينتها الاعلامية في الحملات التي تسوقها منذ بدء الاحداث.
وفي احدى المعارك التي شنتها المعارضة المسلحة للسيطرة على طريق مطار دمشق، زجت بالاف المسلحين للمعركة، الذين تكبدوا خسائر فادحة قبل أن يعدّ الجيش السوري هجوماً مضاداً ابعدهم فيه الى عمق الريف الدمشقي. ولوحظ في هذه المعركة ان اعداد القتلى كبيرة، وانه دفعت اثمان غالية بالارواح من اجل جر بعض جثث القتلى وسحبها من المعركة.
اتسمت آلية عمل المعارضة المسلحة، بحسب تقديرات ومعلومات المتابعين، بالتمدد السريع، والقفز من مكان إلى آخر في محاولة لإرباك الجيش النظامي. ولا يخفى أنها تمكنت من اختراق معظم المناطق، والمدن ومنازلة الجيش السوري في عقر داره. ومع تطور اوضاع المسلحين، وحصولهم على اسلحة نوعية، وقدرتهم على تدمير الدبابات واسقاط الطائرات، وجب ان تتقدم اوضاعهم على حساب النظام، الذي كان ينتظر أن يبدأ بالتفكك والانهيار.
منطقياً هذا صحيح. من المتعارف عليه انه عندما تصل المعارك الى العاصمة، تكون الامور قد انتهت، وخاصة عندما تجري الاشتباكات قرب المقارّ العسكرية والامنية، وقيادة الاركان العامة، وبالتزامن مع مقتل وزير الدفاع، ورئيس الاركان، ونائب رئيس الاركان، ورئيس الأمن القومي، وانشقاق رئيس الحكومة، وكذلك قيادي من مستوى مناف طلاس، وسقوط مناطق حدودية.
لكن لماذا لم يسقط النظام، ولا يزال مستمراً، والدولة تعمل بكل مؤسساتها، واداراتها، ولا تزال تدفع رواتب مليون وستمئة وثلاثين الف مواطن يغطون نفقات حياة ما يزيد على 15 مليون نسمة تمثل قاعدة صلبة للدفاع عن النظام، إضافة، فإن مؤسسات الدولة لا تزال تمارس مهمّاتها، وجيشها يقاتل بروح عالية جداً، بالرغم من سقوط 20 الف جندي؟
لا شك أنّ من الصعب فهم ما يجري بالتفصيل، لكن من الممكن تصور سيناريو يحاكي الى حد ما عقل النظام، وآليات عمله، وتفكيره، وكيف يفهم الحسم، وعلى أية طريقة.
إن الآلية التي يعتمدها النظام تختلف عن آلية المسلحين. الحسم عنده يختلف عن مفاهيم المدارس العسكرية التقليدية، والاستنتاجات عن الحسم السريع، وتطهير المناطق والمكوث فيها على طريقة الجيوش النظامية التقليدية، لا ينسجم مع عقيدة النظام وأداء آليته العسكرية. فهو معروف بالنفس الطويل، والأسلوب البطيء، وهو خبير في المماطلة والتسويف، وإنهاك الخصم، وداعميه، باطالة عمر الازمة، واستنزاف العدو. هو ملاكم عجوز مخضرم، يعرف كيف يربح بالنقاط بدلاً من الضربة القاضية، وقد علمته السنون كيف يحصد النقاط ولا يستعجل. وهو منذ اليوم الاول كان يدرك ان هذه المعركة طويلة وتحتاج الى صبر، ورباطة جأش، وبراغماتية عالية، وتعدد تقنياته وآليات عمله نابع من الخبرة الطويلة. ومعركة بعد معركة، تكتسب آلته المزيد من الخبرات، والقدرة على الالتفاف والتراجع، والتقدم عند الضرورة، لذلك لم يزج في معركته الا بالجزء اليسير من جيشه، وراح يعتمد عليه بالمحاصرة لوقت طويل، الى حدود الملل كما فعل في ثكنة الفياضية، التي حاصرها اسابيع واسابيع، وحاصر طرابلس سنوات ولم يمل. وهذا ما يفعله في حمص منذ عشرين شهراً.


التفاف واحتواء

وإذا كانت استراتيجية المعارضة المسلحة هي القيام بسلسلة هجمات في انحاء مختلفة لارباك الجيش وانهاكه، فإن الاستراتيجية عينها يعتمدها النظام احياناً، لكن بشروط وتكتيكات افضل، مستفيداً من اخطاء شائعة وواضحة، وتأهيل عالي المستوى لقواته المقاتلة مما مكّنه من الاعتماد على شن غارات وهجمات متعددة في آن واحد، وضد مناطق ريفية ومدنية تحتاج مهماتها الى قوات محترفة (فدائية) كومندوس، لا مجموعات مجمعة تجميعاً من كل حدب وصوب، ولا يجمع بينها أي هدف.
واذا كان من السهولة مهاجمة اي نقطة عسكرية، فقد ظهرت من وقائع هجومات المعارضة، صعوبة السيطرة، والتموضع فيها، وخاصة انها لم تنطلق من قاعدة ثابتة ـ صلبة، مع عدم وجود تنسيق بين مجموعاتها المهاجمة، فأتاحت للمدافع احتواء الهجومات والمبادرة وتكبيد المهاجم خسائر كبيرة، وهذا ما يحصل.
بغياب الاستراتيجية يصبح العمل ارتجالياً، وسرعان ما يبخر تضحيات المقاتلين، ويسبب خسارة سريعة لمناطقهم. اما استراتيجية النظام، فهي الهجوم دائماً من الثبات من دون الاجتياح السريع والتطويق المحكم. فالحسم عند النظام السوري مغاير تماماً لفهمنا، وربما لفهم المدارس العسكرية. هو يركز على الصمود والاحتواء، ويدرك حجم الهجمة الكبيرة من بداية الأزمة، والدعم العالمي، ووفرة المال والسلاح، واستقدام المقاتلين من الخارج. لذا عمد في الفترة الأخيرة إلى سحب وحداته العسكرية من المناطق، واعتمد على سلاح الطيران والمدفعية وبوتيرة بطيئة جداً، بمعدل طائرة لكل منطقة (الغوطة الشرقية) للمشاغلة والاستنزاف، لا للحسم. فالنظام يخوض حرباً استثنائية، لذا لا يخضع واقعه للمنطق، ومعاييره مختلفة تناسب عقله وأسلوبه المضجر.
لا شك في أنه قد تكون خطط المعارضة المسلحة باستنزاف وإنهاك الجيش السوري، عبر فتح جبهات متعددة على شكل المروحة فكرة جيدة وصحيحة، لكن عيبها أنها تعتمد على الخارج لرفد المعارضة المسلحة بمقاتلين من الخارج؛ فمعارك الاستنزاف وإطالة المعركة تحتاج إلى أبناء البلد، أما الوافدون، فيتناقصون يومياً، وعدم الربح السريع يدفعهم إلى الفرار واليأس. لقد عايشنا كيف أن الفيتناميين خاضوا حرباً طويلة الأمد، لكن بقيادة ثورية ووطنية بأجندة فيتنامية. كذلك فإذا كانت استراتيجية المعارضة نشر مقاتليها بغية توسيع رقعة القتال الجغرافية بهدف إنهاك قوى النظام العسكرية، فهذا ينعكس أيضاً على قواها العسكرية؛ فالانتشار يرهقها أيضاً ويجعل قواها تستنزف، وخصوصاً أنها لا تملك مقومات الصمود والتسلح والتدريب والتجهيز التي يملكها النظام.

تطويق وتطويق مضاد

وفي ظل الحديث عن قرب معركة دمشق الثانية باعتبارها مفصلية وحاسمة، حشدت المعارضة ستين ألف مقاتل، وجرى تحديد الساعة الصفر بعدما راجت معلومات عن تطويق العاصمة من ريفها، وبعدما كان الجيش النظامي يطوقها، فكان طوق بعد طوق.
كان النظام على علم بالخطة، فعمل على الاستدراج والاحتواء، وقام بتطويق الطوق الثاني وعزل كامل المجموعات عن أي دعم بعدما ارتكبت المعارضة المسلحة خطأً فادحاً بحشد قواتها من كل المحافظات إلى دمشق، مراهنةً على حسم سريع ونهائي. وهذا يفسر تراجع الاشتباكات في باقي المحافظات. ربما لم يعد أمامها الوقت الكافي للمماطلة، فالمطلوب منها نصر كبير مهما كلّف من أثمان قبل بدء المفاوضات حول التسوية السورية على المستوى العالمي، التي تفعّلت خطواتها عقب الانتهاء من استحقاق الانتخابات الرئاسية الأميركية.
وقام النظام بشن هجومات لا تزال مستمرة، يعمل بها على إبعاد مقاتلي المعارضة لمسافات أبعد من مرمى الأهداف المفصلية التي يحتفظ بها النظام في دمشق، فيقيها من احتمالات القصف إنْ بالمدفعية أو بالصواريخ، كما بدأ بعملية التدرّج الناري واستكمال الطوق الثالث، وعند إنجازه سيطبّق خطته كالأخطبوط أو كما عرّفه ماو بالكمين الصيني، أو ما فعله كازاروف مع جيوش نابليون في روسيا.
لا شك، لقد نجح النظام في إطالة الأزمة واحتوى التداعيات الخارجية والاحتجاجات الداخلية واستوعب الفئات المترددة وبات جاهزاً لحسم معركة دمشق الثانية، التي جمعت لها قطر وتركيا والسعودية الآلاف من كل أصقاع الأرض، وعندئذ ربما يجري الحديث عن تسوية، فشروط التسوية سيفرضها المنتصرون على المهزومين.
وللتأكد من معرفة حقيقة المسار الذي تسير سوريا به، يكفي أن ننقل تعليقاً لرئيس جمهورية سوريا بشار الأسد، عندما سئل عن الكلام الذي قاله بوغدانوف، فرد بقوله: «أنا ممسك بالأرض، ومن يستطع انتزاعها مني يمكنه فرض شروطه علي».
* كاتب لبناني