الكتابة عن مصر الآن لا تشبه ما كنّا نكتبه عنها سابقاً. والفارق بين الكتابتين أتى كمحصلة طبيعية لسلسلة من الخيبات في ما يتعلّق بالشأن السوري تحديداً. ما عاد بالإمكان أن يقول المرء جملة واحدة مفيدة عن سوريا ووحلها الدموي. كلّ ما يقال وما يكتب وما يتداول بشأنه هنا خارج السياسة تماماً. والثورة هي سياسة قبل أن تكون أيّ شيء آخر، ما يعني أن امتناع إحداهما هو بالضرورة امتناع للأخرى وإقصاء لها من المشهد. طبعاً سيضع البعض هذا الكلام في خانة الهروب من الواقع، والاستعاضة عنه بآخر أقلّ تعقيداً لجهة السياسة والثورة معاً. ربما يكون ذلك صحيحاً، وربما لا يكون أيضاً. الأرجح كذلك أن من يتحدث عن الهروب لا يقدّر فعلاً حجم التحوّلات الحاصلة في مصر الآن، أو أن الأمر لا يعنيه إلا بمقدار ما يؤثر على تموضعه السياسوي داخل الحراك الحاصل في بلده (سوريا مثلاً). في الحالتين، نحن إزاء مقاربة سيدفع صاحبها لاحقاً ثمن اقتطاعها من صورة إجمالية لا يبدو أن هنالك استعداداً لمتابعتها جدّياً ولو على مستوى المواكبة الإعلامية البحتة. ولهذه الأخيرة قصّة تستحق أن تروى، على اعتبار أن تدخّل أفرادها في الثورة لم يكن بدافع الحماسة لها فحسب. فهي (أي المواكبة الإعلامية) كانت تشتغل طوال الفترة الماضية على صياغة ملوّنة للاحتجاجات تبقيها بعيدة ما أمكن عن العصف القاعدي الذي تلوح نذره في الأفق. ثمّة من يرى العكس أيضاً. ذلك أن الحماسة التي يبديها آل سعود وماكينتهم الدعائية لما يحصل في مصر حالياً لا تنبيء إلا بمزيد من التلفيق والتلوين الثوريين. الأمر محيّر طبعاً (بالنسبة إلى البعض فحسب) وبحاجة إلى نقاش تفصيلي. لكن الحيرة تلك تأتي اليوم مصحوبة بما يبدّدها ويحدّ من هيمنتها على النقاش. «سنفترض» بالفعل أن السعودية معنيّة بالتدخّل في حراك مناهض للإخوان في مصر، تماماً كما «افترضنا» سابقاً اهتمام قطر بالتدخّل ضدّ مبارك ونظامه. ماذا يعني ذلك؟ عملياً لا يعني الشيء الكثير، لأن التجربة التي خاضتها قطر منذ سنتين تلفظ أنفاسها اليوم. ولو جرّبت السعودية الآن تكرار المحاولة القطرية على نحو مقلوب، فستحصد الريح هي الأخرى. هكذا تكون الديناميات الشعبية عادة. كلّ المحاولات التي جرت للوصاية على المصريين والتدخّل في شؤونهم عبر رأس المال النفطي اصطدمت بها. ومن لم يفهم بعد هذه الحقيقة سيجري إفهامه إياها لاحقاً على دفعات مثلما جرى مع كثيرين داخل مصر: المجلس العسكري السابق، الإخوان، «الفلول»، السلفيون... الخ. لقد حاول كثيرون في الفترة الماضية التقليل من شأن الحفاظ على مؤسّسات الدولة بالتوازي مع الخوض بالشأن الثوري، فكانوا يرفضون التمييز بين عنف محمود يمارس ضدّ السلطة الإجرامية، وآخر وظيفي يخاض ضد الدولة ومؤسساتها بالوكالة عن المتدخّلين في «الثورة». وهذا نقاش يخصّ سوريا أكثر مما يخصّ غيرها، إلّا أنّه يحضر أحياناً في المشهد المصري من باب المناعة التي أبداها المصريون تجاه الخارج. صحيح أن الأرضية التي تتحرّك عليها الكتل المتصارعة هناك باتت هشّة بعض الشيء، إلا أنها هشاشة ناجمة عن صراع تخوضه قوى سياسية ضمن إطار الدولة ومؤسّساتها لا خارجهما.
لنتخيّل مثلاً أن التمرين الذي جرى أمام قصر الاتحادية قبل فترة بين قوى المعارضة وشباب الإخوان قد تكرّر أكثر من مرّة، وغدا الأصل في صراع القوى هناك بدلاً من أن يكون الاستثناء ولمرة واحدة فقط. كان المرء وقتها ليتردّد قبل أن يبدي إعجابه بالكيفية التي يصعّد بها المصريون تجربتهم الثورية. التصعيد مطلوب دائماً في مواجهة القوى الرجعية التي تدفع إلى الارتكاس، وكذا العنف في حدوده الدنيا. سنكون سذّجاً لو صدّقنا خطاب المعارضة المصرية عن السلمية المطلقة في مواجهة «الإخوان». هؤلاء اليوم في موقع سلطة، والسلطة بطبيعتها تستقطب العنف ولا تحتكره بالضرورة خلافاً لما يقوله ماكس فيبر. فكيف الحال ونحن إزاء سلطة تعمّم حالة العنف على المجتمع بعدما استقطبته وشطرته إلى نصفين؟ المعارضة هنا بحرقها مقارّ «الإخوان» لا تفعل شيئاً إلّا الدفاع عن نفسها ضد من استخدم سلطة المجتمع في مواجهتها. وهذه الأخيرة تصبح غاشمة عندما تتحلّل من ضوابطها وتذعن لمشيئة تكوين طبقي مافيوي يشحن الفقراء باسم الدين والشريعة. هذا ما رأيناه أمام قصر الاتحادية، وما سيتكرّر لاحقاً فيما لو لاقت دينامية التحلّل الاجتماعي «على الطريقة السورية» أرضاً خصبة لها.
حتى الآن، لا يمكن قول ذلك عن مصر، واستدعاء منطق «الحرب الأهلية» من الجانبين بغرض إلباسها صراعاً موضوعه السياسة أوّلاً وأخيراً لا يعدو كونه حماقة في غير محلّها. ويعلو منسوب الحماقة أكثر كلّما مضى المصريون وخصوصاً المعارضون منهم في تفويت مزيد من الفرص. أمامهم اليوم فرصة لا تتكرّر لتصويب الصراع في المنطقة كلّها، لا في مصر وحدها. حتى لو لم يكترثوا لذلك، واكتفوا بالتركيز على البعد الداخلي للعملية، على اعتبار أنّ ما يحدث داخل مصر هو من شأن المصريين وحدهم (هذه الشوفينية موجودة لدى قطاعات وازنة داخل المعارضة)، سيبقى الامتداد الإقليمي لما يفعلونه قائماً. وهذه بدورها سياسة. ليست سياسة إقليمية، لكنها تغدو كذلك بمجرّد أن يحدث التفاعل بين الداخل والخارج. القطريون والسعوديون فهموا ذلك جيداً، ويحاولون اليوم أن يكونوا الخارج الذي يمتلك الداخل ولا يتفاعل معه فحسب. طبعاً من لا يعرف معنى الديالكتيك أو كيف تصاغ السياسات تجاه الخارج بمعيّة الرقابة الشعبية سيصعب عليه فهم الحقيقة التي تقول بأنّ نفوذه محدود رغم كلّ الجهد المبذول لإثبات العكس. على من يجلس في أحضان هؤلاء أن ينصحهم بمعاودة التفكير في اقتصاد الرّيع من أساسه. أحياناً يتدخّل التاريخ على نحو مثير في صياغة العلاقة بين رأس المال وأعدائه. فالمعركة ضد الرأسماليات وأطرافها تخاض اليوم بأدواتها لا بأدوات الماركسية ومنهجها! «الثورة» في مصر بدأت هكذا، والشباب الذين أتوا من صربيا بأدوات «صناعة الفوضى» ضد الديكتاتورية المتهالكة العميلة للغرب لم يكونوا أسطورة أبداً. لقد «استخدموا» كما استخدمت «جزيرة» قطر ضد مبارك، لكن أوان «استخدامهم» كان قد انتهى بمجرّد خروج مبارك من قصر الرئاسة. منذ ذلك اليوم، بدأ هؤلاء أنفسهم العمل على نزع القناع الملوّن لثورتهم. كان الأمر مجرّد التقاء عابر بين أطراف لم تلبث أن عادت إلى اصطفافاتها التاريخية. حركة 6 أبريل مثلاً، التي توضع في الخانة الليبرالية والتي يأتيها أحياناً تمويل من الخارج، ولدت من رحم الإضرابات العمّالية العارمة في المحلّة. أعضاؤها فهموا السياسة بداية على أنها انحياز إلى العمّال ضد أرباب العمل، قبل أن يعاد تعريفهم من جانب الغرب وإمّعاته على أنهم ناشطون ليبراليون. بعد ذلك (أو قبله) دخل الاشتراكيون الثوريون والشيوعيون الذين أسّسوا الحزب الاشتراكي المصري والتحالف الشعبي الاشتراكي و... الخ على الخطّ ليصبحوا اليوم أبرز الفاعلين، وأكثر المتشدّدين تجاه الجناح النفطي (القطري تحديداً) داخل الحراك. بالطبع هذه الصيرورة ستستمر، وفي ضوء استمرارها سيتأكّد الفرز بين جناحي الحراك: الرجعي والتقدمي. ولحسن حظّنا أن الرجعيين قد باتوا في السلطة وإلى جانبهم قطر وتركيا والإمبرياليات الغربية جميعها. من هنا مثلاً يمكن تفسير النّقمة التي تبديها قطاعات عريضة داخل الشباب المصري المعارض تجاه أداء «الجزيرة» الأخير. بدأت القصّة مع إحراق مكتب فرعها للبثّ المباشر، ثم انتقلت إلى ضرب مراسلها أمام قصر الاتحادية أثناء الاشتباكات بين المعارضين والموالين، وأخيراً سمعنا عن الهتافات التي كيلت ضدّها في جامعة المنوفية (كانت تستطلع آراء طلاب الجامعة حول الاستفتاء ونسبة التصويت في المرحلة الثانية). الأمر هنا لا يتعلق بسوء تقدير، بل بالعجز عن فهم الدينامية التي تحرّك الكتل الشعبية، وتنقلها عند الضرورة من ضفّة إلى أخرى. وهذا بالتحديد ما قصدته من الحديث عن خوض المعركة ضدّ الإمبرياليات وريعها النفطي بأدواتها وداخل ملعبها. سيقول البعض إن الانتقال ذاك لم يبارح الضفّة الملونة، بدليل انتقال الشعلة من قطر إلى السعودية، ومحاولة هذه الأخيرة وراثة الدور القطري «المتهالك» داخل مصر. ثمّة إصرار من هؤلاء وغيرهم على استعمال أدوات في التحليل لم تعد مناسبة للسياق الحالي. فالأصل في أيّ حراك، حتى لو كان ملوّناً ومموّلاً من الخارج، هو الداخل. ودور الخارج يتحدّد في ضوء التحوّلات التي تطرأ على موازين القوى الداخلية لا العكس. وهذا ما لم تفهمه سلالة آل ثاني إلى الآن. والأرجح أنّ آل سعود يسيرون على الدرب نفسه. بالفعل باتت هذه السلالات عالة حتى على من يخدّم عليها ويعتاش من ريعها. ولو ظلّوا على هذه الحال، سيجدون أنفسهم غداً وحدهم في مواجهة كتل تعاود الانتفاض كلّما أحسّت بأنها تساق إلى جنّة الثورة بالسلاسل لا بغيرها.
لنلق نظرة على المشهد المصري اليوم، ولنفكّر للحظة في المصلحة التي يمكن أن تعود على سلالات النفط من إسناد خليط متفجّر كهذا: ثورة ملوّنة نزعت قناعها النيوليبرالي، طبقات مفقرة تمهل الجميع قبل أن تنهض في مواجهتهم، طبقة وسطى استيقظت من رقادها لتحافظ على مكتسباتها ونمط عيشها المهدّد، تكوينات طبقية مهيمنة داخل السلطة والمعارضة تخوض حرباً حقيقية للحفاظ على امتيازاتها، كتلة ثورية راديكالية في طريقها إلى تجذير خطابها وممارستها بعدما اكتشفت أن «الإخوان» و«الفلول» يد واحدة، معارضة تقليدية تظنّ أنها تمارس التكتيك عندما تتحالف مرّة مع «الإخوان» وأخرى مع الفلول... الخ. على من يريد لمستعمرات الخليج أن تبقى كما هي أن ينصحها بعدم التدخّل في الشأن المصري؛ فالتدخّل الآن لم يعد نزهة كما كانت عليه الحال أيّام مبارك. لكن ثمّة أيضاً من يريد العكس، وهؤلاء خبثاء حقّاً. يريدون للخليج أن يتدخّل كي يتورّط. والتورّط في مصر ليس كنظيره في سوريا. فهناك لم تتبلور بعد اتجاهات واضحة لثني أولئك عن مسعاهم الدؤوب في تفكيك الداخل واستلحاقه بهم. ربّما يشاهد السوريون ما يحصل في مصر حالياً، وكيف تردّ الكتلة المنتفضة الاعتبار للداخل، وتغلّب حراكه على سواه. فهو الأساس دائماً، وهو من سيحدّد في النهاية وجهة المعركة. أما الخارج فله أن ينصاع فحسب مهما بذل من أموال في سبيل شراء هذا أو ذاك من النّخب أو التيارات السياسية. غير أنّ ما يصعّب تلقّف السوريين للدرس المصري والبناء عليه هو بالضبط امتناع السياسة، وصيرورة الصراع بين الأطراف عسكرياً فحسب. «السياسة» هنا خلافاً لتجارب أخرى من الاقتتال الأهلي (إيرلندا الشمالية مثلاً) توظّف في خدمة القتال والعنف الوظيفي لا العكس. والى أن تعود السياسة إلينا ويعود الأمل باحتمال ترويضها للميليشيات المحتربة (ميليشيات النظام وميليشيات المعارضة) سنبقى نتابع المشهد المصري بمزيد من الشغف والدهشة ...والأمل.
* كاتب سوري