بقلم كمال ديب*إذا كان الحياد مرفوضاً في الأزمة السورية الراهنة، فإنّ الموقف الأخلاقي يعني رفض المواقف المرتجلة والقوالب الجاهزة والانحياز إلى الشعب السوري التائق إلى الحرية ودولة الرعاية المدنية الديموقراطية. وثمّة شرطان لولوج الأزمة بعقلانية:
أولاً، عدم شخصنة الصراع: لا تُختصر أزمة سوريا برئيسها، لأنّ في هذا إهانة للعقل البشري ويقع ضمن الحرب النفسية التي تمارسها الدول الكبرى منذ مئة عام. تُسخّف أمور شديدة التعقيد وتُقدّم كليشيهات سهلة لإقناع الرأي العام داخل أي بلد مستهدف بأنّ ذهاب الرئيس هو نهاية المصيبة، وكل شيء سيكون على ما يرام بعد ذلك. وفي تجربة حروب لبنان، محاولات فاشلة عدّة لإزاحة رؤساء بالقوة، فصمد الرؤساء حتى نهاية فترتهم القانونية (كميل شمعون وسليمان فرنجية وإميل لحود).
ثانياً، «الدولة» لا «النظام»: نشدّد على استعمال مصطلح «الدولة السورية» لأنّ كلمة «نظام» régime تصبّ في غايات الحرب النفسية والبروباغندا، وتفسيرها أنّ تلك ليست دولة بل نظام مرحلي زائل. استعمَلَتها الولايات المتحدة بشكل يومي في حملتها ضد الكتلة الاشتراكية وخاصة عبر إذاعة أوروبا الحرّة من 1949 إلى 1990 وفي توصيف أي دولة تخالف سياسة واشنطن. فردّدها البعض في الدول العربية، إمّا عن وعي خبيث وإمّا عن جهل. وهدف هذا المصطلح إزالة أي قيمة قانونية لأي دولة واعتبارها نظاماً ديكتاتورياً غير شرعي يديره أشخاص مكروهون. ولذا، فلا رادع إخلاقياً عن محاربتها وإسقاطها.
وهنا نقدّم سيناريو يُثبت هشاشة منطق شخصنة الصراع ومصطلح «النظام»:
حل أزمة سوريا ليس مرتبطاً باستقالة الرئيس فتنتهي الحرب. ذلك أنّ مطلب رحيله هو أول خطوة لتدمير الدولة. إذ بعد استقالته سيقولون هذا غير كافٍ: يجب استقالة «رموز النظام» أيضاً. وإذا رحل هؤلاء، فسيقولون غير كافٍ: يجب فكفكة الأجهزة الأمنية. وإذا بدأت تلك الفكفكة، يطالبون بفكفكة الجيش ومحاكمة المسؤولين، الخ. ولا تنتهي السلسلة. ثم وبعد أن تهزل الدولة السورية إلى درجة الموت السريري، تأتي «الإرادة الدولية» على «بارد المستريح» _ كما يقول المثل اللبناني _ وتُدمّر ترسانة سوريا من الأسلحة الاستراتيجية، لتسيطر قوى أجنبية على البلاد وتفرض على شعبها ما تشاء، بعدما زالت دولتها. وبالتالي تنتهي سوريا إلى كيان جغرافي هشّ يشبه العراق ويوغوسلافيا والصومال.
يجب الكلام إذاً عن «الدولة السورية» وليس عن «نظام بشّار». ويجب الكلام عن «الجيش السوري» وليس عن «كتائب الأسد». وأي سوري محب لوطنه يعلم أنّ المطلوب إصلاح دولته التي بناها أهله وأجداده وليس تدميرها، وأنّ المطلوب الحفاظ على مؤسسة جيش الوطن وليس تدميرها. وليتذكّر دوماً أن الدولة اللبنانية انهارت عام 1976 عندما انهار الجيش.
أزمة سوريا منذ 2011 هي مثل أبواب دمشق السبعة، متشعّبة ومعقدة الأوجه:
1. أزمة سوريا حرب فضائيات: والحروب الإعلامية التي تدور على هامش الأزمة السورية تذكّرنا بالعراق، حيث شنّت أميركا وحلفاؤها العرب والغربيون حرباً نفسية ضد «نظام صدّام» ونعتت الرئيس العراقي صدام حسين بأقذر ما جاء في القاموس، حتى بات القاسي والداني يصدّق أنّها حرب ضد شخص واحد. وكانت النتيحة أنّ الدولة العراقية دُمّرت بكامل مؤسّساتها وجيشها وبرامجها الصحية والاجتماعية ومدارسها وجامعاتها وبنيتها التحتية ومحطاتها الكهربائية وطرقها ومطاراتها ومدنها واقتصادها. والحدث السوري مغلّف بأكبر حملة تضليل إعلامية وتشويه معلومات في التاريخ.
2. أزمة سوريا هي جزء من «الربيع العربي»: تزامنت الأزمة السورية مع انتفاضات تونس ومصر واليمن، ولكن تلك الانتفاضات اتخذت وجهاً إسلامياً. وما ذكره مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي قبل عامين أنّ «الربيع العربي» هو استمرار «للثورة الإسلامية في إيران» هو صحيح برأينا. ومن نوافل القول إنّ هذه الحركات الدينية، بما فيها النظام الإيراني، تصبّ في النهاية لغير صالح تقدّم المجتمعات وتطويرها وتنضح عن رجعية غير تنويرية.
3. أزمة سوريا صراع قديم بين البعث والإخوان: لقد كانت خطيئة البعث أنّه في صعوده إلى السلطة في سوريا قضى على الحزب الشيوعي السوري والحزب السوري القومي الاجتماعي، فبقيت جماعة الإخوان الدينية تناحر دولة البعث وتقضّ مضاجعها منذ 1964 وحالياً منذ مطلع 2011.
4. أزمة سوريا قضاء على الأقليات الدينية والعرقية: تضمّ سوريا جماعات دينية وإثنية ولغوية فبلغ عدد طوائفها 16، ومثّل السنّة زهاء 75 بالمئة من السكان، يليهم العلويون بنسبة 12 – 15 بالمئة، والمسيحيون بنسبة 12 بالمئة من السكان. وبلغ عدد الإثنيات خمساً، أكبرها العرب والأكراد (8 بالمئة) والأرمن (3 بالمئة). ليس ثمّة تفاؤل بالنسبة الى مستقبل الأقليات.
5. أزمة سوريا فصل من الصراع ضد إسرائيل: منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948، كانت سوريا الدولة العربية الأكثر التصاقاً بالقضية الفلسطينية، وقعت فيها انقلابات وخاضت حروباً وسخّرت قدرات. وبعد اتفاق كامب دافيد بين مصر وإسرائيل عام 1979، قرّرت سوريا أن تكون دولة مواجهة رئيسية بوجه المشروع الصهيوني في برّ الشام. فكانت جولات بين سوريا وإسرائيل في لبنان وفلسطين. وقامت إسرائيل بأذيّة سوريا وضربها من الداخل وتمويل المعارضين وتدبير تدخلات خارجية. وهدف الأزمة الحالية القضاء على سوريا دولة المواجهة الأم.
6. أزمة سوريا صراع دولي للقضاء على الدولة: أزمة سوريا هي صراع إقليمي دولي لا علاقة له بالديموقراطية. ومن يدفع الثمن هو الشعب السوري. فيتذوّق السوريون اليوم ما خبره اللبنانيون أنّ الحرب تعني أن يخرج الإنسان من بيته، يتهجّر، يموت ويتعرّض للأذيّة والإهانة جسدياً ومعنوياً، ويصبح سلعة للمساومة بين الدول، ويتدمر اقتصاده وتصبح مدنه قاعاً صفصفاً.
7. أزمة سوريا هي فشل ربيع دمشق: عاش الشعب السوري عقوداً في ظل حكم سلطوي غير ديموقراطي لا يسمح بتوسيع القاعدة الشعبية، يعشّش فيه الفساد ويقمع حقوق الإنسان. وجاءت فرصة بداية عهد بشّار الأسد عام 2000، حيث انطلق «ربيع دمشق» وبرزت قوى المجتمع المدني. وإذ بدأت الدولة بالانفتاح النسبي، تراجع هذا الربيع عام 2001 لأسباب عدّة. لذلك فإنّ أزمة سوريا سببها فشل الدولة في تلقّف فرصة ربيع دمشق.
في محاولة استشراف مسار الأزمة السورية، نخلص إلى النقاط التالية، مستندين إلى تقارير المجموعة الدولية للأزمات بآرائها المحافِظة:
أولاًً، أنّ الدولة السورية أصبحت أكثر تمترساً، ومن شبه المستحيل تدميرها. لكنها غير قادرة أيضاً على هزيمة أعدائها، ما يُدخل البلاد في ستاتيكو يشبه متاريس الحرب اللبنانية.
ثانياً، أنّ درجة المخاطر ستزداد إذا تلقّت الدولة السورية ضربة كبرى (غزو خارجي أو سقوط دمشق أو حلب)، فيتمخض سقوطها عن ظهور «ميليشيا هائلة القوة ومعها طائفة علوية خائفة على بقائها»، حسب تعبير المجموعة الدولية، وتنحلّ قوى المعارضة السورية «إلى تطرف مذهبي وصراع داخلي وعنف انتقامي».
ثالثاً، أنّ القتال في سوريا جذب أعداداً هائلة من الجهاديين وغذّى الأصولية الإسلامية وأطلق العنان للاغتيالات الطائفية وأعمال التفجير والقتل الجماعي الانتقامية.
رابعاً، أنّ المعارضة في سعيها إلى تدمير نظام الحكم كهدف وحيد جعلها تهمل وضع خطة تضمن مستقبل الأقليات كشركاء حقيقيين. وهذا الإهمال جعل اتساع دائرة الصراع حتمياً، ليشمل أقليات العلويين والأكراد والدروز والمسيحيين والإسماعيليين الذين قد يشعرون بأن دورهم قادم. فكان على المعارضة أن تطهّر أوساطها من الغلاة وتضع برنامجاً مدنياً يحفظ مؤسسات الدولة.
الحل الدبلوماسي للأزمة السورية آخذ بالتبلور دولياً منذ اجتماع جنيف في حزيران الماضي وجولات كوفي أنان سابقاً والأخضر الإبراهيمي اليوم. ويقضي هذا الحل بالسير في قرار دولي يفسح المجال لتحوّل ديموقراطي سلمي. فيكون العام 2013 للتهدئة وللترتيبات والتفاهمات ووضع حدّ للقتال، ويكون العام 2014 لاختيار رئيس جديد، مع نهاية عهد الرئيس الحالي، وبرلمان سوري انتقالي يضع دستوراً عصرياً ومدنياً يعكس طموحات الشعب السوري وكرامته الوطنية ويمهد لانتخابات برلمانية ورئاسية يشارك فيها الجميع معارضة وموالاة، بمن فيهم الرئيس الحالي وحزب البعث. وتكون النتيجة قيام دولة علمانية ديموقراطية تعدّدية.
وهذا الحل إذا احتضنه توافق دولي، فسيتمتّع بدعم وضمان الإرادة الدولية في مجلس الأمن.
* أستاذ جامعي لبناني ــــ كندا