قبل أيام قليلة، نشر الصديق الباحث حارث حسن مقالة مهمة تحت عنوان «الصراع على العرب السُنة في العراق / «العالم» البغدادية عدد 715» ناقش فيها برصانته المعهودة، واقع وآفاق مكون العرب السُنة في العراق والخيارات التي يواجهها في ضوء متغيرات الوضع الداخلي، ومنها التأزم الحاد بين حكومتي المركز وإقليم كردستان، وأيضا، في غمرة تطورات الحدث السوري. وقد خلص الزميل الكاتب إلى أنّ هذا المكون المجتمعي العراقي المهم وصاحب الدور الرائد في بناء الدولة العراقية الحديثة بعُجرها وبُجرها، صار موضوعا أو هدفاً  لثلاثة مشاريع تتنافس على ولائه السياسي وهي:- مشروع «كلنا عرب» الذي يرفعه نوري المالكي وائتلافه «دولة القانون» لأغراض انتخابية في ظروف مضغوطة باحتمالات «انهيار نظام بشار الأسد وسيطرة المليشيات السنية السورية المدعومة من قبل تركيا ودول الخليج». وقد سجل الباحث أنّ «اليقين الوحيد في ما يخص مستقبل سوريا هو صراع ربما يتصاعد الى مستوى التطهير الديموغرافي».
- مشروع «كُلنا سُنة» الذي يراهن على المضي بعملية التطييف حتى قيام تحالف انتخابي بين السنة العراقيين من العرب والأكراد.
- مشروع «نحن عرب سُنة عراقيون» وهو مشروع انكفاء على الذات تحركه، كما قال الباحث، الديناميات الداخلية لهذا المكون انسجاما مع رهانات إقليمية تؤكد على الهوية «العربية السُنية» المتمايزة. ويرجح الباحث أن «الساسة السُنة، الذين سيصلون الى قناعة تامة بأنّ من العسير تغيير معادلة الحكم الراهنة في بغداد أو الدخول في مواجهة مع كردستان، سيلجأون الى اعتماد هذا المشروع وترويجه بما يحقق قيام زعامة طائفية مناطقية تعزز رصيدهم ووزنهم السياسي في ظل نظام يقوم على تقاسم الريع النفطي وعلى العلاقات الزبائنية. سيكون هذا المشروع خطوة أخرى باتجاه تأكيد التعريف السائد أميركيا للعراق بوصفه كيانا من ثلاثة مكونات رئيسة لا بد ان تتوافق على نظام سياسي بلا رابح او خاسر».
يختم الباحث مقالته بالاستنتاج المكثّف التالي «سيخضع العرب السنة ولفترة قادمة من الزمن لتنافس حاد بين هذه المشاريع وسيكون للخيار الذي يختارونه اثر حاسم في تحديد اي عراق سنعرفه في المستقبل، وهو بأي حال من الأحوال لن يكون عراقاً قائماً على فكرة المواطنة بل خاضعا لنظام سياسي وتشكيلات صراعية تقوم على مركزية الولاءات الجزئية او العابرة للوطنية».
 سنحاول الآن، استكمالا للفائدة التحليلية، مقاربة هذا الموضوع، إنما من زاوية أخرى، مع تسجيل اتفاقنا المعياري العام مع الاستنتاجات التي انتهى إليها الباحث الذي نكن له تقديراً خاصاً لكونه من القِلّة التي تُفَرِّقُ جيدا بين النقد التحليلي والهجاء التشنيعي لهذه الظاهرة أو ذاك المسؤول حتى بات بالوسع اليوم العثور على كاتب متخصص في هجاء المالكي كشخص، وآخر في الترويج للخصخصة الاقتصادية أو المحاصصة الطائفية السياسية وهكذا دواليك. سنركز النظر في محاولتنا هذه على ماهية هذا المكون نفسه وتمظهرات الحراك السياسي للساسة المحسوبين عليه، آخذين بنظر الاعتبار تداعيات ما سمي «أزمة حماية العيساوي»، وزير المالية من كتلة «العراقية»، التي حدثت بعد نشر مقالة الباحث وصعدت بالخطاب السياسي لأول مرة إلى لغته الطائفية الصريحة، وصولا إلى استشراف ملامح التطورات الممكنة في المستقبل المنظور.
نسجل بدءاً، أننا لا ننظر إلى المكون العربي السني، أو إلى أي مكون مجتمعي عراقي آخر ذي طبيعة طائفية دينية، ككيان مندمج ومنتهي الصياغة وذي استقلالية بنيوية ناجزة، بل هو حالة اجتماعية لها تعبيرات سياسية مختلفة شديدة التنوع والاختلاف ضمن سياق تاريخي محدد. وعلى هذا، لا يمكننا النظر إلى هذا المكون إلا بوصفه ساحة لقوى وإرادات وأهداف سياسية واجتماعية مختلفة يعبر عنها مجموع الناشطين المنتسبين إليه. بمعنى أننا لا يمكن أنْ نقول إن العرب السنة يريدون تحقيق هذا الهدف أو ذاك، أو إن مصلحتهم الحقيقية هي في هذا التعبير السياسي أو ذاك، إنما يمكن القول إنّ هناك سياسيين من العرب السنة يريدون تحقيق هذا الهدف أو أنّ مصلحتهم في هذا التعبير السياسي.
عمليا، نجد اليوم عددا من الساسة المحسوبين على هذا المكون، يتصرفون على أساس قناعاتهم الوطنية والمناوئة للطائفية، إلى جانب ساسة آخرين تماهوا تماما مع الطائفة فأعطوا ولاءهم الأول لها، وهذا ينطبق تماما على جميع المكونات المجتمعية العراقية. وعلى هذا نعتقد، أن الخيارات الثلاثة التي فصّل فيها الباحث إنما هي خيارات لشخصيات وقوى سياسية جزئية داخل المكون، أيّ مكون. إنّ خيار التحالف مع «دولة القانون» على أساس الانتماء القومي العروبي، أو التحالف مع «الكردستاني» على أساس الانتساب الطائفي السني، أو الأقلمة إنما هي ثلاثة خيارات مختلفة شكلا ومتطابقة جوهرا ومضمونا  داخل المكون ذاته لسبب بسيط هو أنّ هذه الخيارات تتوافق وتنسجم مع واقع الحال السياسي الاجتماعي القائم اليوم ونظام الحكم المحاصصاتي الذي أوجده الاحتلال. وطالما ظلت هذه الخيارات تحت سقف هذا الواقع وهذا النظام فهي لن تعبّر إلا عن خيار واحد لا يخرج مضمونه عن الجوهر الطائفي الذي يأخذ به فريق واحد في كل مكون، يراهن على العملية السياسية الأميركية ولا يريد الخروج منها أو عليها لأسباب ذاتية.
لكننا، حتى داخل هذه الخيارات، يمكن أنْ نرى بوضوح الاختلافات البيِّنة رغم ثانويتها. فقد يفسر بعضُ الراغبين بالتحالف مع دولة القانون بكونه الخيار الأكثر واقعية والأقرب للتعبير عن الموقف المواطني «القائم على أساس المواطنة الحديثة» ولأنه يريد خرق سقف الدائرة الطائفية. غير أنّ هذا التبرير يبقى قاصرا ومنقوصا، فهو يقفز على غياب ممثلي المكونات العراقية الأخرى غير العربية كالأكراد والتركمان والكلدان والآشوريين.. الخ، وهو يضع تحالفه على الأثافي الطائفية ذاتها التي يؤمن بها حلفاؤه في الجهة المقابلة، وبهذا لا نكون قد اقتربنا من الموقف المواطني بل كرسنا الموقف الطائفي ولكن على شكل تحالف ثنائي. هذا النقد يوجه أيضا لأصحاب خيار التحالف العربي الكردي «السني». أما خيار الأقلمة فهو الخيار الأكثر انعزالية وإضراراً بالعراق ككل وبالعرب السُنة قبل غيرهم لأنه خيار انكفاء وانسحاب من الصيرورة الوطنية الاندماجية، إضافة إلى أنه سينتهي ــ بفعل الديناميات الداخلية للمكونات المجتمعية ــ الى مآلات كارثية كالهجرة الجماعية أو الاقتتال المفتوح، أو الانصهار الإجباري، إضافة إلى احتمال دفع الطرف المجتمعي المقابل «العرب الشيعة» إلى الانكفاء والانعزال بدوره في إقليمه الخاص بما يدمر علمية الاندماج المجتمعي ويحوّل العراق الى مجموعة دويلات انعزالية متنافرة وتلك هي عتبة التفتت الاجتماعي و«الجغراسياسي» الشامل للبلاد ككل.
تقدم لنا حادثة اعتقال قائد فوج حماية وزير المالية وتسعة من أفراده وردود الأفعال عليها مثالا نادرا على المدى الذي بلغه التأزم والانحطاط السياسي المجتمعي الذي قادت إليه العملية السياسية الأميركية. لا يهمنا المستوى الحدثي لهذه الواقعة وتفاصيلها الجزئية، بل سنهتم بالدلالات الرمزية لردود الأفعال عليها.
لقد ركز الفريق المستهدف بالحادثة، أي وزير المالية رافع العيساوي وحلفاؤه في قائمة «العراقية» ومن بينهم صالح المطلك، الذي خشي، كما يبدو، على قاعدته الانتخابية من التآكل، فانكفأ مرة أخرى من الموقف المواطني المعروف عنه الى موقف التضامن الطائفي، وكان عليه في الأقل ان يبدي شيئاً من الحيادية، ركز  على التالي:  إنّ الاعتقال هو استهداف واضح للعرب السُنة من قبل الحاكم الشيعي. وإنّ من قاموا بالاعتقال هم ميليشيات طائفية لم تقدم حتى مذكرة اعتقال رسمية. وإن الرد سيكون بالنزول الجماهيري الى الشوارع والساحات وقد يتم اللجوء لخيارات أخرى.
أما رد فعل المالكي ومستشاريه ونوابه فلم يخرج عن سقف الحالة الطائفية إذْ ورد فيه: إنّ من قاموا بالاعتقال ينتمون الى الشرطة الاتحادية ولديهم مذكرة اعتقال وقعها 10 قضاة أغلبهم من السُنة (صورة مذكرة الاعتقال التي سربت إلى الإعلام تحمل سبعة تواقيع خطّية من دون أسماء). وإن عشرين عائلة من محافظة الأنبار، ذات الغالبية العربية السنية الساحقة، قدموا دعاوى قضائية ضد المتهمين المعتقلين. وإن الذين لم يتصرفوا بمهنية من قوة الشرطة التي قامت بعملية الاعتقال تم احتجازهم وسيحاسبون على عدم مهنيتهم. وإنّ الطرف المقابل قام بتحريض طائفي خطير ويريد العودة بالعراق الى سنوات التقاتل.
نلاحظ أنّ الخطاب الذي يعتمده المالكي وأنصاره يتعكز تارة على التحذير الذي لا يخلو من ملامح التهديد، وتارة أخرى على تسجيل إنجازات شكلية كمحاسبة رجال شرطته لأنهم لم يتصرفوا بمهنية، وعدم المهنية لا تعريف له في هذا السياق سوى «النزوع الطائفي»،  بمعنى أنّ إدارة المالكي تريد من قوات شكلتها هي، ومن منطق الغلبة الطائفية، وضمن قواعد لعبة المحاصصة التي قبل بها الطرف المقابل، أنْ تكون مهنية وحيادية، وهذا مجرد عبث لا طائل تحته. فالمهنية والحياد القضائي وغيره تتأتى من مؤسسات دولة مواطنة حديثة، لا من تشكيلة قوى طائفية وعرقية تتقاسم مفردات الحكم بموجب «خريطة المتاهة» التي تركها لها الغزاة الأجانب.
لقد أكدت هذه الحادثة أنّ الخيارات السياسية المطروحة، بما فيها الخيارات الثلاثة التي تعرض لها زميلنا الباحث، وأكدها أيضا الخيار الذي يصر على اعتماده ممثلو أو زاعمو تمثيل المكون العربي الشيعي، أن هذه الخيارات مجتمعة لا تشكل خروجا من «وعلى» الحالة السياسية والاجتماعية السلبية، بل هي دوران في الحلقة المفرغة التي ستنتج وتعيد انتاج الدمار والخراب ودورات التقاتل المذهبي والطائفي. إنّ حسم الصراع داخل مكوِّن العرب السنة لصالح تيار المواطنة الحديثة على التيارات الانعزالية هو ما سيحسم الوضع على المستوى الوطني لصالح جميع المكونات ولكن، ولكي يتم ذلك، لا بد من تغلب تيار المواطنة الحديثة داخل مكون العرب الشيعة على التيارات الانعزالية الأخرى فيه. ويمكن الأمل بأن شيئاً كهذا سيحدث في المكونات المجتمعة العراقية الإثنية الأخرى، رغم صعوبته الأقرب إلى الاستحالة بسبب خصوصية وضع القضية الكردية وتعقيداتها.
يبقى السؤال الحاسم وهو: هل سيتمكن أنصار دولة المواطنة والمساواة اللاطائفية من الانتصار في صراعهم مع الانعزاليين الطائفيين إذا خاضوا معاركهم كلٌّ داخل مكونه المجتمعي أم أنّ الضرورة المحتمة  تقتضي التحرك على المستوى الوطني وضمن خطة عامة لكيان سياسي، أو اكثر من كيان، يرفع راية «المواطنية» في وجه القوى الطائفية التي انتحلت زوراً راية «الوطنية»؟. الإجابة على هذا السؤال عمليا هي التي ستحدد آفاق الوضع العراقي برمته وتجعلنا نستشرف الجهة التي يمضي إليها العراق وشعبه: إلى دولة المواطنة الديموقراطية الاتحادية الموحدة القوية أم إلى دويلات الطوائف والعرقيات المتذابحة على عوائد الريع النفطي وقيادة المؤسسات القمعية؟
* كاتب عراقي