ورد كاسوحة*لا يكفّ النظام الإيراني عن تذكيرنا بوجوده وجهوزيته على المستوى الداخلي. هو جاهز دائماً «لملء الفراغات» التي يخلّفها خصومه في المعارضة «الليبرالية» كلّما انكفأوا أكثر إلى الوراء (تحت وطأة القمع السلطوي طبعاً). لكن المشكلة في هذه الجهوزية هي انطواؤها على مكوّنات قسرية تنزع الشرعية سلفاً عن أي فعل تقدم عليه السلطة «لملء الفراغ». يصحّ هذا الأمر على مقاربة النظام للشأن السياسي كما على مقاربته لشؤون الاقتصاد والاجتماع والثقافة.

ونظراً الى حالة الإشباع التي وصلت إليها مقاربة الشأن السياسي الإيراني، دعونا نترك هذا الشأن جانباً، ونلقِ نظرة على الجانب الآخر من حياة الشعب الايراني، أي الثقافة والاجتماع. جانب قلّما حظي باهتمام وسائل الإعلام الغربية، والسبب في ذلك أنّ الغرب يتوق دوماً إلى تنميط الشعوب غير الخاضعة تماماً لسيطرته. تنميط يجرّد الثقافة الإيرانية من حيويتها ويجعل منها وقوداً لصراع الغرب المبتذل مع نظام الملالي.
ولأنّ الإعلام هو أداة أساسية من أدوات هذا الصراع، فإنّ توريطه في اختزال الثقافة الإيرانية يغدو تحصيل حاصل. وهذا يعني أنّ اهتمام الإعلام الغربي بتفحّص المشهد الثقافي الإيراني ليس مقطوع الصلة عن الأجندة السياسية التي يضعها ساسة الغرب، ويتولّى الإعلام التابع لهم تسويغها وإضفاء الشرعية عليها. هكذا يوظّف الغرب حساسيته الليبرالية المصطنعة في مواجهة حماقات النظام الإيراني ومضايقاته المستمرة للناشطين المعارضين. وهي مواجهة غير متكافئة نظراً الى طول باع الغرب في استخدام القوة الناعمة ضد خصومه التقليديين. وفي الحالة الإيرانية تحديداً، كادت هذه القوة أن تفعل فعلها بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة لولا استشراس النظام هناك في الدفاع عن نفسه بأسوأ الوسائل الممكنة. وعندما تغدو المعركة معركة وجود من عدمه لا يعود ارتداء الطرفين للأقنعة والقفازات مجدياً. فلا النظام في إيران هو نظام تعدّدي يسمح بهامش حقيقي للحراك الليبرالي المعارض (لا وجود لمعارضة ليبرالية ذات شأن في إيران، رغم كلّ التنظير الفارغ لليبرالية موسوي وخاتمي وكرّوبي) كما يشيع موالوه، ولا الغرب الذي يرطن ليل نهار ضد القمع في إيران يعبأ فعلاً بمصير أولئك الشباب الذين ملأوا الساحات حيوية (رغم الاعتراض على كثير من شعاراتهم الشوفينية الضيقة) بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
وسيادة قوانين الحرب على هذا النحو الفظّ تجعل من توسّل أحد الطرفين للرطانة الليبرالية أمراً أشبه بالنكتة السمجة. المنطق هنا هو منطق حرب وإن تكن إعلامية، لذا، فإنّ تناول المرء أدوات هذه الحرب من خارج المعطى الدعائي يجعل منه ساذجاً على أقل تقدير. إذ كيف يمكننا مثلاً أن نزعم بأنّنا نناضل ضد قمع النظام في إيران، في حين أنّنا نستخدم في نضالنا هذا وسائل إعلامية تملكها سلالات حاكمة تفوق في تسلّطها وفسادها نظام الملالي. وقد أتى مؤسّس موقع ويكيليكس جوليان أسانج أخيراً على ذكر إحدى هذه الوسائل من دون أن يسمّيها في حديثه الأخير إلى قناة «الجزيرة». وخلاصة الحديث (بالاستناد إلى وثائق أميركية طبعاً) تفيد بأنّ هذه الأذرع الإعلامية قد أنشئت لأغراض دعائية أميركية لا علاقة لها البتّة بحرية الإعلام وفضح القمع السلطوي. وفي عرف هذه الأدوات الدعائية، يخضع التسلّط لنسق معياري انتقائي وفريد من نوعه. نسق يقول أصحابه بأنّ ممارسة التسلّط في إيران تختلف عن مثيلاتها في السعودية أو في مصر أو في اليمن أو... ربما تكون الجغرافيا هي السبب في ذلك أو حتى الديموغرافيا أو طبيعة المناخ أو درجة الإذعان للسيد الأميركي. وأمام فضائح مماثلة يكفّ الفعل الليبرالي المسوّق غربياً عن العمل كما يجب. أما سردية «مقاومة القمع» فلا تعود مقنعة كثيراً، إلا لمن لم يشهد الفصل الأخير من «الحساسية الغربية المفرطة» تجاه بطش السلالات العربية الحاكمة (وغير العربية أيضاً)، أي تغاضي الغرب تماماً عن نتائج الانتخابات النيابية المصرية.
في هذا السياق تحديداً، يأتي اهتمام الإعلام الغربي والأوروبي خصوصاً بقضية المخرج السينمائي الإيراني البارز جعفر بناهي. فصاحب الأسد الذهبي في مهرجان البندقية عن فيلم «الدائرة» تحوّل في الفترة الماضية إلى أيقونة من أيقونات النضال ضد الديكتاتورية في إيران. وإذا كانت مثابرته على معارضة نتائج الانتخابات الأخيرة تستحقّ التقدير حقاً، فإنّ استخدام الغرب المتكرّر لهذه المثابرة قد جوّفها إلى حدّ كبير ونأى بها عن إطارها النبيل والمتفاني. لكن أخذ الرجل بجريرة التوظيف الغربي الخبيث لحراكه لا يساعد كثيراً في فهم التحولات التي تعتمل في بنية المجتمع الإيراني. تحوّلات تضع هذا المجتمع الفتي والحيوي على حدة بين جيرانه الأقربين والأبعدين. من الثورة الدستورية (1905 ــ 1911) إلى حركة مصدق التقدمية في عام 1953، إلى ثورة الخميني على حكم الشاه في عام 1979، إلى انتفاضة الطلبة في عام 1999، الى الاحتجاجات الأخيرة على نتائج الانتخابات الرئاسية (2009)، لا ينفكّ هذا المجتمع يتمايز عن محيطه العربي والآسيوي الخامل والمحكوم بسلالات جاهلة وفاسدة وضيقة الأفق. ومحنة جعفر بناهي بهذا المعنى هي ضرورة حتمية، حتى يستمر هذا التمايز ولا ينقطع فعل التحوّل في هذه البنية المجتمعية، وكي يستكمل هذا المنحى الأصيل في الاجتماع الإيراني المعاصر صيرورته التاريخية.
نحن إذاً إزاء حالة حقيقية وغير مفتعلة (حالة بناهي ورفاقه) من الثبات على الموقف ومعاندة العسف السلطوي. حالة تعرّضت للمصادرة مرّتين: مرّة حين جرّمها النظام واتهمها تعسّفاً بالعمل لتقويض سلطته، ومرّة أخرى حين تلقّفها الغرب واتخذ منها ذريعة للتصويب على نظام غير طيّع بما يكفي للسيطرة عليه.
ثمّة صعوبة في الجزم بالموقف الحقيقي لبناهي من هذه المصادرة المزدوجة لخياراته. والأرجح أنّه لن يرضخ لأيّ من الشقين، فكلا المصادرتين خاضعتان لشرط سلطوي ذرائعي وغير سويّ. وهذا المزيج من السلطوية والذرائعية وانعدام السويّة الأخلاقية كفيل بإخراج صاحب «تسلّل» (حاز عنه الدب الفضي في مهرجان برلين عام 2006) من هذه الحلقة المفرغة، ووضعه على سكّة أخرى تليق بإبداعه ونضاله من أجل وطن أكثر حرية وعدالة. سكّة لا تنافق الغرب ولا تستسلم في الآن ذاته لسردية النظام الأمنية.
* كاتب سوري


كاميرا ترعب متشدّدي إيران



أحمد محسن*
فيلم «الدائرة»، المشهد الأول. تنساب أسماء المشاركين في الفيلم، ترافقها صرخات امرأة تلد. تنتهي الأسماء، وتنقل الممرضة خبر ولادة فتاة. تخرج الجدة وهي تكرر «مسكينة ابنتي». وتتوالى الأحداث التي تتناول صعوبة عيش المرأة الإيرانية.
فيلم «تسلل»، المشهد الأخير. جمهور إيران الفائزة على البحرين، يزدحم في شوارع طهران، منشداً النشيد الوطني القديم. النشيد الذي استُخدم في إيران في الفترة ما بين مغادرة الشاه البلاد عام 1979 وقبل إعداد نشيد وطني جديد للجمهورية الإسلامية. وسبق ذلك المشهد، صراع طويل لإحدى المراهقات، كي تتمكن من الدخول إلى الستاد الدولي لمشاهدة كرة القدم. في «تسلل»، يصدم المشاهد بأنّ المرأة ممنوعة من دخول ملاعب كرة القدم، كما يصدم في «الدائرة» بأنّ الفتاة ممنوعة من ركوب الحافلة بمفردها.
في نظر النظام، توّج المخرج جعفر بناهي، هذه السلسلة من الهجوم على السلطة، بقراءة الفاتحة في «مقبرة الشهداء»، وارتداء «الشال الأخضر» في مهرجان مونتريال السينمائي. لكن، رغم كلّ شيء، فإنّ قراراً بسجن مخرج إيراني، لستّ سنوات، ليس سوى إشارة واضحة من السلطة الى رغبتها في إنهاء «ذيول» الثورة الخضراء نهائياً. ربما لن يمر القرار مرور الكرام بالنسبة إلى الشارع الإيراني. الشارع الذي يتنفس التجاذبات النائمة، منذ انتصار الثورة عام 1979، التي تستيقظ حيناً، في تظاهرات الطلاب، أو تنفجر حيناً آخر في شوارع طهران، وطبعاً، السينما التي تفضح العيوب.

الجذور الأيديولوجيّة للاعتقال

ثمة طبيعة حديدية للنظام. لا جدال في ذلك. وثمة أيضاً أصول للبحث في أسباب ارتفاع الأصوات ضد المتشددين أخيراً. وبعيداً عن نظرية المؤامرة التي لا ينفك النظام يروّج لها، في تشابه غريب مع حالات الطوارئ التي تعلنها الأنظمة العربية، فإنّ هناك جذوراً للخلاف حول طبيعة النظام. وإن كان تعاطف مخرجين كستيفن سبيلبرغ، ومارتن سكورسيزي، مع بناهي مفهوماً، فبصورة عامة، إنّ أي استغلال عربي لقضية بناهي وتسليطها كسيف طاعن في موضوع ديموقراطية النظام الإيراني، سيبدو مضحكاً إلى حدٍ بعيد. في الواقع، تخوض إيران صراعاً فعلياً مع الغرب، لكن بناهي قصة أخرى. المخرج الذي وصف بلاده على أنّها «جحيم المرأة» خلال مقابلة له مع صحيفة «لا ريبوبليكا» الإيطالية، عام 2000، ليس سوى ناقل أمين لصور يومية من الأزقة الإيرانية التي يوغل فيها الفقر، وتجتر الشعار مجبرةً على حساب التغيير الحقيقي. لم يساوم النظام، فرد له الأخير الجميل مرتين. في المرة الأولى، حين منع أفلامه ومنحه صيتاً ذهبياً في الخارج، كان يستحقه في بلاده لو كان النظام ديموقراطياً فعلاً، وفي المرة الثانية، كانت قبل أيام، حين قرر سجنه ومنعه عن العيش، أي صناعة الأفلام. ومن زاوية سينمائية صرفة، لا يمكن التشكيك بصدقية بناهي، أو اتهامه بالعبثية، هو تحديداً. ذلك أنّه من مدرسة المخرج الإيراني الآخر، عباس كيروستامي، التي تلحّ على استعمال «كاميرا اليد» في كثير من الأحيان، من أجل نقل الصور الواقعية، لإحداث صدى تغييري سريع، لا يحتمل السجالات.
لكن في إيران، السجالات موجودة أصلاً. ووفقاً للباحث السعودي، متروك الفالح، في كتابه «نظريات العنف والثورة: دراسة تحليلية تقويمية»، فإنّ التحالف المكوّن من عدد من القوى السياسية المختلفة على المستوى الأيديولوجي، وعلى تحديد الهدف من الثورة، يواجه مشاكل فجة بعد انتصار الثورة. وبمراجعة المشهد العام، الذي واكب تطوّر الثورة الإيرانية، حتى انتصارها، يخلص المتابع إلى إمكان إسقاط هذه الفرضية على الواقع الإيراني، بلا تشذيب. حتى الكتّاب الإيرانيون الموالون للطابع الإسلامي للثورة، يعترفون بفعالية التيارات غير الإسلامية المشاركة في إسقاط الثورة، وأهمهما اثنان: الماركسي ـــ اللينيني، الذي كان يدور في فلك الاتحاد السوفياتي السابق من جهة، والتيار الليبرالي الذي يتهمه الإسلاميون بالإفراط في القومية على حساب الإسلامي ـــ الأممي من جهة أخرى. وهنا، تحضر صورة جعفر بناهي، المثقف الليبرالي، الذي تتطابق الاتهامات الموجهة إليه مع الاتهامات التي كانت سبباً في ترسيخ الطابع الإسلامي على الثورة أساساً. ففي كتابه «الثورة الإسلامية في إيران مقارنة بالثورتين الفرنسية والروسية»، يخلص الكاتب منوجهر محمدي، إلى أنّ الليبراليين الإيرانيين تأثروا بالثقافة والحضارة الغربية بشدّة، واقتبسوا الكثير من آرائهم وتصوراتهم منها. كانت تلك ذريعة الإسلاميين الرئيسية، التي تظهر ملامحها بوضوح في القرار القضائي المستخدم ضد بناهي. العامل الإضافي في الموضوع، أنّ نقاد بناهي، والحالة التي يمثلها، لا يزالون حتى اليوم، ينظرون إلى قضايا حقوق الإنسان الأساسية بوصفها تشبهاً بالغرب. وفيما يضع بناهي فيلمه الممنوع، «الدائرة»، في خانة «الكشف عن الاضطهاد الذي تتعرض له المرأة الإيرانية التي تعيش في سجن كبير»، لا تتوقف مؤسسات الدعاية الإيرانية الرسمية عن بث صور لنساء في الباسدران، أو في الباسيج، بالثياب الشرعية الواسعة السوداء، لتأكيد مشاركة المرأة الإيرانية في صناعة المجتمع. طبعاً، الخلاف أيديولوجي صرف، بين تيارين، أحدهما متشدد، وآخرهما ليبرالي. وفي المنتصف، يمكن إيجاد بعض الثقوب، التي تحاول عصرنة الثورة، كي لا تأكل أبناءها الذين بلا شك، يصح وصف بناهي بأحدهم.

السينما بوصفها عاملاً انفتاحياً على الغرب

هكذا، لا يمكن الفصل بين طبيعة الاتهامات الموجهة إلى المخرج الإيراني، والصراع الثقافي الحاد الدائر في البلاد، الذي يتمحور حول العلاقة مع الغرب. حتى لو صحت اتهامات النظام لبناهي من الناحية النظرية، باعتبار أفلامه الممنوعة («الدائرة»، «الذهب القرمزي»، و»تسلل») تتضمن انتقادات للنظام الحالي، لا مفر من الالتفات إلى انزعاج السلطات الإيرانية من تضاعف شهرة بناهي خارجاً. في الغرب تحديداً، يتعاملون مع قضيته كورقة ضغط سياسية ضد الأوليغارشية الدينية التي تسيطر على النظام الإيراني بالدرجة الأولى، وثانياً كرد فعل على التصرف القمعي بحد ذاته. وكان الرئيس الإيراني السابق، محمد خاتمي، أول دعاة عقلنة النظرة إلى الغرب، لإنقاذ الثورة من الدوغمائية. في كتابه «ثورتنا ومستقبل الإسلام» (ص 155)، دعا الرئيس الإصلاحي إلى عدم التعامل «مع الغرب على أنّه كتلة واحدة، فهناك فرق بين الغرب السياسي، الذي يحاول فرض سيطرته وقيمه على العالم الشرقي، وبين الغرب الفكري الذي هو نظام فكر وقيم لا بد من معرفتها، والتعامل معها بمنطق الندية». لكن، حتى هذا النوع من الاعتدال مرفوض من النظام الحالي. ومع إحكام المتشددين سيطرتهم، استفحل رفض أي محاولة لتنظيم العلاقة مع الغرب، وخصوصاً بعد أحداث «الثورة الخضراء» التي لم تكن سوى محصلة لأعمال مثقفين لامعين من نوع جعفر بناهي. وفي هذه الحال، يصح السؤال مجدداً عن جذور الصراع المستمر تزامناً مع تقدم الثورة في السن. فخلال هذا المد والجزر، وفي خلال سنوات الحرب الإيرانية ـــ العراقية، تم إبعاد الرئيس خاتمي، في بداية تسعينيات القرن الماضي، إثر توليه مهام وزارة الثقافة والإرشاد. أما الأسباب، فتبعاً للكاتبة الإيرانية المقيمة في الولايات المتحدة الأميركية، نيكي جيدى، في كتابها «إيران العصرية: جذور ونتائج الثورة»، فهي محاولة خاتمي تقليل الرقابة المفروضة على وسائل الإعلام، وتحقيق مزيد من الانفتاح على العالم الخارجي، الأمر الذي أدى إلى الهجوم عليه من جانب أعضاء البرلمان، ثم استقال من وزارة الثقافة تحت الضغط. ورغم وصول خاتمي إلى رئاسة الجمهورية، نجح التيار الديني في لملمة صفوفه، بسبب ما سمح به أسلوب خاتمي من حريات، نتيجة أدائه الإصلاحي المحدود. وعاد المتشددون إلى نغمة اتهام المثقفين بتهديد النظام والولاء للغرب. وليس دفاعاً عن محمد خاتمي، لكن من الإنصاف القول إنّ الانتماء الاجتماعي للمشارب الثقافية الإيرانية مؤثر جداً.
لقد حورب خاتمي من طبقة نافذة في صفوف رجال الدين، ينتمون إلى الطبقات الفقيرة والمحرومة في المجتمع، وكثير منهم ذوو أصول قروية، وعلى معرفة قوية جداً بمعاناة المجتمع وآلامه. في المقابل، تشكل شرائح المتعلمين والمتنورين الإيرانيين الذين قادوا النضال الوطني في كثير من التحركات السياسية ـــ الاجتماعية طبقة ممتازة لها ثقافة عصرية (لا يزال التمييز بين العصري والغربي عصيّاً على بعض أطياف المجتمع الإيراني المتشددة دينياً)، وتتميز بفواصل تبعدها عن عامة الناس الفقراء. رجال الدين هم في الضفة المناسبة، ولذلك تمركزت أحداث الثورة الخضراء في طهران دون غيرها، بحكم واقع ديموغرافي قديم، يعد فيه رجال الدين الإيرانيون أبناء المجتمع الملتصقين به. ظل الواقع هكذا، وازداد تقلصاً مع نمو الثورة. وبعد ظهور الإنترنت كعامل حيوي ويومي في الوصول إلى الشرائح الاجتماعية جميعها، وتقدم دور السينما، متسلحة برموز قوية متصلة بالمجتمع اتصالاً حقيقياً، كعباس كيروستامي، وجعفر بناهي أخيراً، دق التيار الديني ناقوس الخطر مجدداً. المشكلة للنظام ليست في الصرخات المتتالية ضد إعدام عشرات المثليين سنوياً، ولا في تنميط حياة المرأة اليومية بأساليب لا تخلو من القمع. المشكلة الآن هي في نقل الصورة كما هي على شاشات عملاقة إلى خارج الحدود.
* من أسرة «الأخبار»