فاجأنا الأستاذ جان عزيز بمقال له («الأخبار»، عدد 1306، 4/1/2011) بعنوان «ماذا عن مسؤولية الإسلام؟». أقدّر جرأة الأستاذ عزيز في طروحاته فيما ينقصنا الكثير من الجرأة لمواجهة الأسباب المؤدية إلى فشل جميع البلدان على اتساع رقعة الوطن العربي. بل أؤيّد أن يكون هناك القليل والقليل جداً (إن وُجِد) من الخطوط الحمراء في مناقشة أي قضية، أياً تكن، وبلا أي استثناء.من هذا المنطلق، أحيّي الأستاذ عزيز على مقاربته لموضوع حسّاس في مقاله في معرض حديثه عن التفجير الإرهابي الذي هز كنيسة الإسكندرية ليلة رأس السنة وأحزن المسلمين سواء بسواء مع المسيحيين، إخوان الوطن والمصير. لكنّي ألوم الأستاذ عزيز كثيراً على الطريقة التي قارب فيها الموضوع، وعدم توفيقه أبداً في النتائج التي وصل إليها في نهاية المقال. ولا أدري إن كان هذا نتيجة قصور في دراية بالمسلمين والإسلام وأحوالهم (وأستبعد هذا عن إعلامي مطّلع بوزن جان عزيز)، أم هو خروج عن الحيادية والموضوعية في العرض، أم سوء توفيق في استخدام المفردات. وأرجّح، وأتمنى، أن يكون السبب الأخير هو الذي أدى إلى طريقة المقاربة هذه وظهورها بهذا الشكل.
إنّ سرد الأستاذ عزيز التحليلي لأسباب الخطاب «التبريري التنصّلي» ـــــ كما أحب أن يسمّيه، من دون أن يوفّق في التعبير ـــــ أو خطاب «المؤازرة على أساس الإخاء والعيش المشترك»، كما أحب أن أسميه أنا لأنّه التوصيف الأدق لرد فعل المسلمين على جريمة الإسكندرية، كان منطقياً. وكان السرد مقبولاً إلى أن وصل إلى تساؤلاته في الثلث الأخير من المقال مستفسراً عن مسؤولية ثلاثة عناصر في جريمة الإسكندرية وغيرها: الإسلام، والفكر السياسي الإسلامي، والمؤسسة الدينية الرسمية الإسلامية. وهنا يكمن عدم التوفيق التام في طريقة العرض وانتقاء الكلمات، وخصوصاً بعض ضربه لأمثلة الأزمات الإسلامية في الفيليبين والصين والبلقان، موحياً بنحو أو بآخر أنّ أزمات المسلمين ناتجة من خلل / قصور في الإسلام نفسه، وبالتالي محمّلاً الإسلام، بوصفه ديناً، مسؤولية هذه الأزمات. وعلى هذه القاعدة يمكننا الاستنتاج أنّه حيث يكون هناك إسلام يكون هناك أزمات! ولا يمكن تفسير الكلام الوارد في المقال بغير هذا السياق مع تأكيد الأستاذ عزيز «أنّ ثمّة عوامل أخرى مكوّنة لقوس الأزمات تلك. عوامل أكثر ذاتية وبنيوية»، وطبعاً المقصود ذاتية الإسلام وبنيويته.
إنّ التجاهلات العميقة التي بنى عليها الأستاذ عزيز مقاله هي التي أدت إلى الاستنتاجات هذه، وختمه المقال بأنّه «آن الأوان للفكر السياسي الإسلامي، عبر مؤسسته الرسمية المركزية، أن يثبت خطأ هذه المعادلة، وأن يتحمّل مسؤولية إثبات العكس، قولاً وفعلاً، لا بخلفية كليشيهات «العيش المشترك» و«حوار الأديان»، بل على قاعدة قدسيّة الإنسان وكرامته أولاً». عن أي مؤسسة رسمية إسلامية مركزية يتحدث الأستاذ عزيز؟ من يسمع هذا الكلام يعتقده صادراً عن مستشرق غربي غير عالم بكيفية سير الأمور في عالمنا العربي والإسلامي، وليس عن إعلامي لبناني مرموق على دراية بغياب أي مؤسسة إسلامية مركزية على الإطلاق، على الأقل لدى أتباع المذهب السني. و«المؤسسة الإسلامية المركزية» في العصر الحالي هي مفهوم شيعي، سواء تمثّل ذلك في قم في إيران أو النجف في العراق. والخلط بين المذهبين السني والشيعي وتصنيفهما في خانة واحدة في سياق نقاش «الفكر الإسلامي» هو مشكلة كبيرة تدحض كثيراً من الأسس التي بُنِي عليها المقال. فكرة «الشيطان الأكبر» مثلاً (التي استشهد بها الأستاذ عزيز في بداية المقال) صادرة عن المرجعيات الشيعية في إيران، ولا أعتقد أنّ المرجعيات السنية تبنّتها.
أهل السنة، الذين يقصدهم الأستاذ عزيز بنقده بنحو رئيسي، يعانون حقيقة غياب المؤسسة الإسلامية المركزية. وإن كان المقصود بالمقال هو المؤسسة الدينية في السعودية، فسُلْطَتُها لا يأخذ بها إلا متّبعو التيار السلفي المتشدد (الوهابي) وهم أقلية في الفضاء الإسلامي الواسع. وإن كان يقصد مؤسسة الأزهر، فلا أعتقد أنّ للأزهر نفوذاً واسعاً يتجاوز المساحة الجغرافية في مصر. ولست على اطلاع على أي «مؤسسة إسلامية مركزية» غير هاتين، وكلتاهما لا يمكن اعتبارهما مركزيتين إلا على أنصارهما وهم أقلية قليلة جداً في العالم الإسلامي. إذاً أي مؤسسة إسلامية مركزية هي تلك التي يتكلّم عنها الأستاذ عزيز؟ ألا يعلم أنّ أي رجل ملتح في عالمنا الإسلامي يستطيع أن يفتي بما يشاء؟!
أما الفكر الإسلامي السياسي الذي تكلّم عنه، فإنّه غائب في عالمنا العربي الإسلامي (على الصعيد السني) بنحو يتجاوز الأفراد والمفكّرين والمثقفّين ليكوّن حالة تنظيمية إلا من خلال ثلاث جماعات رئيسية: جماعة الإخوان المسلمين، وحزب التحرير، وتنظيم القاعدة. أما الإخوان المسلمون، فالتنظيم بشتى أفرعه (المصري والسوري والأردني والفلسطيني بنحو رئيسي والكويتي والعراقي أقل) في الوقت الحالي ينبذ العنف.
وأدانت هذه الأفرع العمل ولا يحرّض الإخوان على «قتل المسيحيين» في أدبياتها، فضلاً أصلاً عن أنّهم مهمّشون غير فاعلين في مختلف البلدان.
أما حزب التحرير، فأيضاً هو حزب سلمي ينبذ العنف ويرفض قتل المسيحيين، وأتباع الحزب أقل بكثير من أن يكوّنوا حالة عامة في العالم الإسلامي. وأما تنظيم القاعدة، فصحيح أنّ عداوته معلنة تجاه «النصارى» بل والمسلمين من المذاهب الأخرى أيضاً (حتى السنة الذين يخالفونه بالتوجهات)، لكن كم هم أتباع هذا الفكر؟ وهل يمثّل حالة عامة؟ وهل يعدّ هذا الفكر أسّاً فكرياً إسلامياً أم نشازاً عن الأصل؟ وهل أصلاً يمكن الحوار والنقاش مع أشخاص يتبنّون فكراً كفكر القاعدة؟ وما الضامن أنّ تنظيم القاعدة لا ينفّذ في حقيقة الأمر أجندات أجنبية بهوية إسلامية مزيفة؟
ونأتي إلى الإسلام نفسه بما هو دين، وهو دين عظيم كامل متكامل يصلح لكل زمان ومكان وليس فيه أي نواقص ذاتية بنيوية تدعو إلى مراجعة أو وقفة اعتذار. والإسلام قدّس الإنسان وكرامته، أيّ إنسان بغضّ النظر عن الدين والعرق، أيما تقدير. ولن أسرد كل آيات القرآن وأحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) التي تأتي في هذا الصدد، لكنّي سأكتفي بهذه الآيات:
«ولقد كرّمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيّبات، وفضّلناهم على كثير مما خلقنا تفضيلاً» (الإسراء ـــــ الآية 70). و«يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، إنّ الله عليم خبير» (سورة الحجرات ـــــ الآية 13). و«من قتل نفساً بغير نفس، أو فساد في الأرض، فكأنّما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعاً» (سورة المائدة ـــــ الآية 32).
لذلك، لا يجوز أبداً الحديث عن مطالبة الإسلام بمراجعة ذاتية بنيوية وكأنما القصور فيه وليس في العقول المتطرفة لأقلية قليلة جداً من المسلمين انحرفوا عن جادة الصواب. إنّ مطالبة كهذه تماثل المطالبة بمراجعة الديانة المسيحية وبنيتها بسبب الحملات الصليبية التي شُنّت باسم الصليب لكنّها كانت مدعومة حقاً من «المؤسسة المركزية المسيحية» في ذاك الوقت، أو كالمطالبة بمراجعة المسيحية وبنيتها نتيجة الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان، أو حقبة الاستعمار الأوروبية للمنطقة الإسلامية.
أستاذ جان عزيز، لا دين في هذا العالم أكثر تسامحاً مع أبناء الديانات الأخرى كالدين الإسلامي، ووجود المسيحيين وكنائسهم ومقدساتهم بين أظهر المسلمين إلى يومنا هذا هو أكبر دليل على تسامح الإسلام والمسلمين مع أبناء الديانات الأخرى، في وقت لم تستطع فيه أوروبا تقبّل فكرة وجود غير المسيحي فيها إلا في القرن الماضي ولا تزال تواجه صعوبات في تقبل وجود المسلمين وثقافتهم ومقدساتهم في بلدانها. هؤلاء هم من يحتاج إلى مراجعة بنيوية وذاتية.
كان الأحرى بك أستاذ جان أن تكتب عن الأسباب الحقيقية التي دفعت إلى حدوث الجريمة الإرهابية في الإسكندرية. وهي ليست بشكل من الأشكال مشكلة في الإسلام أو تعاليمه أو حتى في الفكر السياسي الإسلامي، بل الأسباب التي تؤدي إلى إفراز العنف، ومنها الديكتاتورية وغياب الحريات ومفهوم المواطنة والتجييش الطائفي الذي يتحمله المتطرفون من الديانتين. وخذ القانون الطائفي الذي اقترحه الوزير بطرس حرب قبل أيام (حظر بيع أراضي المسيحيين لغير المسيحيين)، على سبيل المثال، ليتبيّن لك من هو حقاً الذي بحاجة إلى مراجعة بنيوية وذاتية ليتقبّل الآخر ويتعايش معه على أساس وطني إنساني بعيد عن الطائفية المقيتة. المسلمون ـــــ على اتساع الرقعة العربية ـــــ أدانوا التفجير الإرهابي في الاسكندرية لأنّ الإسلام يقدّر الإنسان وكرامته ويحرص على التعايش بين مختلف الطوائف. نعم، هناك خلل لدى بعض رجال الدين أو وسائل الإعلام أو حتى بعض الهيئات الدينية، لكنّها تبقى حالات شاذة لا تمثّل حقيقة الإسلام وفكره السياسي.
لذا فالمسلمون لا يحتاجون إلى الاعتذار ولن يعتذروا عن هذا التفجير لأنّهم ببساطة لا يتحمّلون مسؤوليته ولا الإسلام يتحمّل مسؤوليته. ومن يبحث عن اعتذار إسلامي فليشرب من ماء البحر.
أما إن كان الأستاذ عزيز يقصد من مقاله كلّه انتقاد المؤسسة الدينية السعودية، فليسمّها باسمها دونما الخوض في تعميمات لا صلة لها بالواقع، فإنّ المؤسسة الدينية السعودية (التي تتبع بوصلة النظام السعودي على كلّ) فاشلة في بسط سلطتها على السعوديين أنفسهم، فضلاً عن أن يمتد نفوذها إلى باقي المسلمين. أما إذا كان مقاله رسالة سياسية داخلية، فليسمِّ الجهات التي يعنيها بدلاً من إهانة مشاعر مسلمين كثر يقرأون له باستمرار.
* ناشط وكاتب عربي