رأس بوجه ذي ملامح آسيوية في مكان الحادث وسيارة صاحبها أجنبي. هكذا دفعت الأدلة في مكان الانفجار أمام كنيسة القدّيسين بالإسكندرية ليلة رأس السنة أصابع الاتهام إلى خارج البلاد. الفاعل غير مصري والجريمة مصدّرة من الخارج. يتفق ذلك أيضاً مع التوقعات التي انطلقت في الدقائق الأولى بعد الحادث لتوجه أصابع الاتهام إلى تنظيم القاعدة أو للموساد أو أي قوى خارجية.
الجريمة إذاً قادمة بالكامل من الخارج حسب مصلحة الأدلة الجنائية، أما في الداخل فـ«كلّه تمام» بحسب العبارة المشهورة. والدليل على أنّ «كلّه تمام»، خطابات الإنشاء والبلاغة التي انطلقت فور وقوع الانفجار. خطابات تغنّت بالوحدة الوطنية والتعايش ومتانة النسيج الوطني ووحدة عنصري الأمة، إلى آخر المصطلحات التي تفضح الأزمة أكثر مما تنجح في إخفائها. أمّا على أرض الواقع، فتختلف الأمور تماماً.
ربما تثبت التحقيقات بالفعل أنّ منفذي التفجير أجانب وأنّ جهة ما في الخارج هي المسؤولة، لكن هذا لن يعني بالمرة أنّ «كلّه تمام». ففي يوم الحادث نفسه، كانت هناك تظاهرة أمام مسجد بالإسكندرية من قبل مسلمين يطالبون بإطلاق سراح «الأسيرتين» وفاء وكاميليا من قبضة الكنيسة. وقبل أقل من شهرين كانت قوات الأمن تهاجم كنيسة بحيّ العمرانية لإزالة ما اعتبر مخالفات، ولقي شابّان قبطيّان مصرعهما وأصيب 23 واعتقل أكثر من 150. هذه الأحداث وقائمة طويلة غيرها تعني أنّ الأمور ليست «تمام». وحتى عندما تكون مصر مستهدفة، كما يردد الإعلام الرسمي، فمن الوارد أن تُستهدف السياحة للتأثير في الاقتصاد أو المسؤولون والمؤسسات الرسمية لهزّ هيبة الدولة. ولكن استهداف الأقباط في حد ذاته يدل على مدى التهاب هذا الملف والآثار التي قد تنجم عن الحادث. فما الذي يجعل الملف القبطي في مصر ملتهباً وحساساً إلى هذه الدرجة؟ بعيداً عن حديث «الاحتقان الطائفي»، وهو التعبير الشائع حالياً، يمكن الحديث مباشرة عن مظاهر التمييز ضد الأقباط والتي تعدّ السبب الرئيسي للتوتر الطائفي.
إنّ أول ملاحظة على أوضاع الأقباط في مصر هي أنّه ليس هناك إحصاء رسمي بأعدادهم. وتعامَل نسبة الأقباط من السكان كأحد أسرار الدولة رغم الإصرار على خانة الديانة في أوراق الهوية. ويوحي هذا الإخفاء بأنّ إعلان نسبة الأقباط من السكان يمكن أن تترتب عليه استحقاقات، كنسبة من التمثيل في المجالس النيابية أو مناصب الدولة أو إحساس الأقباط بقوتهم أو غير ذلك. ولكن تعداد الأقباط ليس كل ما يخفى، فالتاريخ القبطي في مصر أُهمل في المناهج الدراسية واختفى تماماً لفترة طويلة وظهر منذ سنوات قليلة، ولكن على استحياء، وباختصار شديد. وذلك رغم أنّ التاريخ القبطي ودخول المسيحية إلى مصر ومقاومة الأقباط للإمبراطورية الوثنية جزء هام من تاريخ مصر ويفوق في أهميته أموراً أخرى كثيرة تدرس في المدارس. إضافة إلى ذلك، فإنّ بعض المناهج، وخاصة اللغة العربية، تُفرض فيها نصوص إسلامية من القرآن والسنّة، وتُكتب على جدران المدارس الحكومية كلمات مأثورة أغلبها من النصوص الإسلامية. والحقيقة أنّ التاريخ القبطي لم يهمل فقط في المدارس، بل في الفن كالسينما والدراما أيضاً. تختفي تقريباً هذه الحقبة من التاريخ، ليبقى المعنى الشائع للأعمال الفنية التاريخية هو التاريخ الإسلامي. الإعلام، من ناحيته، يغفل تماماً وجود الأقباط. والمقصود إعلام الدولة الذي ينفق عليه من موازنة الدولة ويعدّ الجميع شركاء فيه. ومع ذلك فالبرامج الدينية في الإعلام الرسمي هي البرامج الإسلامية، ولا توجد مساحة للديانة المسيحية إلا خلال فترة الأعياد المسيحية فقط. إلى جانب ذلك، فإنّ نقد الديانة المسيحية والهجوم على ثوابتها أمر معتاد على المنابر وفي مكبرات الصوت. وإذا كنا قد تحدّثنا عن التعليم، فإنّ أقدم جامعة في مصر، التي يُنفَق عليها من موازنة الدولة، أي جامعة الأزهر، ممنوعة على الأقباط لأنّها جامعة إسلامية. وفي المقابل، لا تنفق الدولة على جامعة للأقباط. أليست هذه الأمور وغيرها مثل صعوبة بناء الكنائس وتقلد المسيحيين وظائف معينة في الدولة مظاهر تمييز ضد الأقباط؟
لا يمكن تلخيص قضية الأقباط في أنّ إرهابيين تسلّلوا ونفذوا عملية ضد كنيسة. وبالتالي، لا يكفي لعلاجها أبداً القبض على الفاعلين ومعاقبتهم رغم أهمية ذلك.
إنّ سياسة التمييز المستمرة على المستوى الرسمي امتدت لتخلق مشاعر سلبية متبادلة على المستوى الشعبي، وخاصة مع تفشي التدين الظاهري الذي تتزايد فيه معدلات الحجاب، جنباً إلى جنب مع تزايد معدلات التحرش الجنسي. وأصبح التنافس بين بناء المساجد والكنائس وتزايد النزعات الطائفية نتاجاً طبيعياً لسياسة التمييز التي تدفع بالضرورة الأقباط إلى الانعزال والتعامل كأقلية.
لكن، لماذا يضطر النظام إلى التمييز ضد الأقباط، خالقاً أزمة مزمنة وقضية ملتهبة؟ يتصل الأمر بأهمية المؤسسة الدينية لنظام الحكم. فالنظام الاستبدادي الذي لم يحرز تقدماً على المستوى الاجتماعي أو السياسي الخارجي والداخلي، يحتاج الى دعم المؤسسة الدينية بما لها من ثقل لدى الجماهير. يجيز الخطاب الديني الرسمي بناء الجدار الفولاذي ويحرم مقاطعة الانتخابات ويعتبرها كتماً للشهادة. كما يسمح عموماً بالفتاوى السياسية التي تبرر سياسات السلطة والتي تصل في بعض الأحيان الى تحريم الإضرابات والتظاهرات. هذه كلّها من الأمور التي يحتاج إليها النظام، بينما تغيب المنجزات الحقيقية التي يشعر بها الناس. ولكن هذه الفائدة لا تتحقق إلا بتقوية المؤسسة الدينية الرسمية نفسها وتدعيم دورها، واستخدام الخطاب الديني في كلّ مناسبة وحتى دون مناسبة. هكذا تتزايد مشاعر التعصب الديني وسيطرة المؤسسة الدينية.
وبالإضافة إلى احتياج النظام للمؤسسة الدينية الرسمية، فإنّ القضية الطائفية تختلف عن باقي القضايا والأزمات التي يواجهها المجتمع. فالنظام يتحول من خصم في القضايا الاجتماعية والديموقراطية إلى حكم في القضايا الطائفية على الرغم من السياسات الرسمية التي يتبعها هو نفسه. فعندما تتفجر أزمة طائفية يصبح النظام لكل المصريين وحكماً بين المتعصبين من الطرفين وتتراجع باقي المطالب الديموقراطية والاجتماعية حتى تهدأ الأجواء. ربما يفسر ذلك عدم تسامح النظام مع المبادرات الشعبية من المسلمين لحماية الكنائس في عيد الميلاد واعتداؤه على المتظاهرين تضامناً مع الأقباط والقبض على ثمانية من الشباب المسلمين في تظاهرة تضامنية في شبرا واحتجاز العشرات في وسط القاهرة. وفي الوقت نفسه، دعم الأمن تظاهرات الحزب الحاكم واتحادات الطلاب الرسمية وتحركاتهم تحت شعار الوحدة الوطنية. ينبغي أن تكون تهدئة الفتنة مهمة النظام، لا سواه، وإلا سيتوحد الجميع للمطالبة بمحاسبة المقصرين مثلما ارتفع شعار إقالة وزير الداخلية في بداية الأحداث. هكذا تسهم السياسة الأمنية للنظام في تأجيج المشاعر السلبية بين المسلمين والأقباط بدلاً من تهدئتها، وخاصة عندما يلقى شاب من الجماعة السلفية، التي لم يعرف عنها استخدام العنف أبداً، مصرعه من التعذيب أثناء التحقيق معه في حادث الإسكندرية. في القضايا الديموقراطية، يتهم النظام بالاستبداد. وفي القضايا الاجتماعية، يتهم النظام بالاستغلال. أما في القضايا الطائفية، فإنّ الغضب يوجه إلى الناس لا ضد النظام.
لكن، لا يمكن أيضاً تجاهل موقف المعارضة المصرية لقضايا الأقباط طوال الوقت وتذكرها فقط في الأزمات. والواقع أنّ ما يطلق من آن لآخر من أنّ كل المصريين مضطهدون في ظل الاستبداد، لا الأقباط فقط، أمر أقرب إلى الهزل منه إلى الجد. فالتمييز ضد الأقباط يضاف إلى كل ما يعانون منه كمصريين تحت قانون الطوارئ والاستبداد وسياسة الإفقار ولا يمكن أن يبرر الاضطهاد بعضه بعضاً في كل الأحوال. كما أنّ الاستشهاد ببعض الشركاء في السلطة والثروة من رموز الأقباط لا يعدو كونه قبولاً بآليات الخداع التي يتبعها النظام عندما يضع بعض الأقباط في مناصب رسمية أو يمنح احتكار خدمة الهاتف المحمول لنجيب ساويرس، وذلك على خلفية أحداث طائفية دون أن يعني أي تغيير حقيقي في أوضاع جموع الأقباط. كما أنّ النظر الى المسألة القبطية من خلال التجمعات القبطية التي تدعو الى التدخل الخارجي وتعميم ذلك على الأقباط، هو قصور في الفهم. فما يعطي أهمية ودوراً لمثل هذه التجمعات هو غياب أي دور جدي لقوى المعارضة في تبني قضايا الأقباط والتفاعل الجاد معها.
لقد خلت حركة المعارضة المصرية بمختلف اتجاهاتها من مبادرات حقيقية تجاه الأقباط واكتفت بالأعمال الرمزية والشكلية. لكن على مستوى آخر، كانت طروحات البعض تساعد في الاتجاه العكسي. مثال على ذلك حديث سليم العوا، أحد كبار المفكرين الإسلاميين، عن إخفاء أسلحة في الكنائس. ولكن الأكثر غرابة حديث حسن نافعة، أحد رموز حركة الإصلاح الديموقراطي، في مقال بـ«المصري اليوم» بعد تفجير الإسكندرية، عن التطرف القبطي واحتمال قيام متطرفين أقباط بالتفجير. والملاحظ أنّ أسلمة السياسة عموماً دفعت الأقباط إلى مزيد من التخندق في الكنيسة. ذلك أنّ أكبر فاعل سياسي في الساحة، أي جماعة الإخوان المسلمين، ستظل جماعة ذات مرجعيات إسلامية، وجزء من انضمام الأعضاء إليها يتم على أساس ديني، مهما أبدت من حسن نية تجاه الأقباط. والمفارقة الحقيقية أنّ القضايا الوطنية ومواجهة الاستعمار، التي طرح فيها شعار الهلال والصليب لأول مرة في تاريخ مصر في ثورة 1919 وظل حتى اليوم شعار الوحدة الوطنية، اتخذت أيضاً طابعاً إسلامياً. وذلك بعدما أصبحت المقاومة في أغلبها سواء في فلسطين أو لبنان أو العراق مقاومة إسلامية، وأصبحت الحروب الاستعمارية حروباً على الإسلام. هكذا أصبح ما كان يجمع سابقاً هو بالذات ما قد يفرّق اليوم. قضية الأقباط تتجاوز تفجير الإسكندرية رغم هول الحدث. ومن قبيل الانتهازية أنّ من يشعرون بالظلم والتمييز ضد الأقليات المسلمة في أوروبا عند منع الحجاب أو المآذن أو الإساءة للعقيدة الإسلامية لا يستطيعون فهم مشاعر الأقباط إزاء سياسات تمييز ضدهم. فمن يقبل التمييز هنا لا ينبغي أن يرفضه هناك. لقد انطلقت تصريحات أوروبية وأميركية عقب الحادث تدعو الى حماية المسيحيين في الشرق الأوسط، بما تخفيه تلك التصريحات من مصالح استعمارية. وجاء الرد معتبراً تلك التصريحات «صيداً في الماء العكر». وإذا كان من الضروري مقاومة صيادي الماء العكر ومصالحهم الاستعمارية، فإنّ ذلك يستدعي حتماً مقاومة من يجعل الماء عكراً بما يكفي لجلب كلّ الصيادين.
* صحافي مصري