بعيداً عن التحريض والتهويل، وبعيداً عن ركوب الأحداث واستغلالها، وبعيداً عن الأخذ بالخاطر والمجاملات والوقوع تحت طائلة التضليل والتدجيل، يجب أن نعترف بأنّ البلاد في أزمة خانقة متعدّدة الأبعاد وعميقة الجذور. أزمة لا علاج لها إلا باستئصال أسس الفساد المالي والإداري والقطع مع الاحتكار السياسي والتضليل الإعلامي والاستبداد بالرأي وإنهاء فلسفة الوصاية. كذلك يجب فكّ ارتهان الدولة لنظام سياسي قدّم الكثير واستنفد ما عنده من حلول ووعود، وأصبح هذا النظام يدور في فراغ وتكلّست دواليبه وتخشّب خطابه حتى فقد هيبته وقدرته على استعادة ثقة الشعب فيه. وهذه نتيجة حتمية لكل نظام شمولي لا يسمع إلا نفسه ولا يرى ولا يقرر إلا ما يريد... فخوفاً على الوطن ورغبة في إنقاذه، ومعالجة للداء الذي استشرى، لا بد من تغيير الطبيب والدواء معاً. إنّ علاج الأزمة يتطلب استئصال أسبابها وهي كثيرة، منها الاختلال التربوي والقيَمي والتعليمي، انتشار الرشوة والمحسوبية والانتهازية، غياب المتابعة والرقابة على المال العام، غياب الشفافية في التنمية والاستثمار وفي التشغيل وفي تنفيذ القوانين وتطبيق تراتببة الأداء والضرائب، التضليل الإعلامي ومحاصرة حرية التعبير والنقد، إقصاء الرأي المخالف واحتكار سلطة القرار والتنفيذ... تؤلّف جميع هذه النواقص والمثالب والعيوب، مهما كانت محدودة، منظومة من أسباب الفشل العام. وإن من لا يستطيع معالجة مثل هذه المساوئ، وهي قليلة مثلما يدّعون، فإنّه، بالنتيجة، عاجز عن معالجة الأزمة التي انساقت إليها البلاد. فلا أحد ينكر فشل التنمية المنتجة وارتفاع وتيرة الاستهلاك وتنامي الفقر والبطالة ونسبة الطلاق والعنوسة ونسبة الجريمة والسرقة والغش. صحيح أنّ هذه الظواهر موجودة في كلّ المجتمعات، لكن في حدود معيّنة. وما لدينا تجاوز الحدود المقبولة، ليصبح الشعب مهدداً في كرامته وحريته وفي أمنه الثقافي والسياسي والاقتصادي وفي مستقبل أبنائه.
نحن في أزمة عميقة الجذور، والمسؤول عن هذه الأزمة لم يعد بإمكانه الخروج منها ولا الاعتراف بمسؤوليته عنها. وكالعادة سيلجأ إلى الحلول الظرفية والتذكير بالإنجازات والتركيز على الوعود وفتح الآفاق، بينما الأزمة أعمق من ذلك وأشد خطورة على المجتمع برمّته.
الأزمة سياسية واجتماعية واقتصادية. هي أزمة مركّبة ومعقدة، ويستدعي الخروج منها تغييراً جذرياً لنظام الحكم وأساليبه المستنفدة. يجب أن يدرك المسؤولون أنّ هناك فجوة عميقة بين النظام الحاكم (بأجهزته المختلفة وخطابه السياسي) والشعب وتطلعاته ورغباته. لقد ملّ الناس الخطاب الأجوف المتكرر وفقدوا القناعة بقدرة النظام على التعافي مما أصابه من أمراض، حتى صار البعض يتصرف بنزعة من الانتقام والتمرد على كلّ ما يتصل بالنظام، وأصبح الجميع يشتكي من كل شيء.
كذلك حزب السلطة عاجز عن مقاومة الترهل والانتهازية والصراعات على الامتيازات والمناصب والتكتلات داخله، مما أفقده شعبيته ودوره التأطيري للمجتمع، وبات حزباً تنهشه المصالح الفئوية والشخصية ولا تعنيه المصلحة الوطنية إلا في حدود ما يجنيه من مناصب للوجاهة ومكاسب مادية خاصة، حتى أصبح عبئاً على الدولة والمجتمع معاً. والسلطة عاجزة عن إدارة شؤون البلاد بكلّ شفافية واقتدار في ظل هيمنة الحزب الواحد، كما هي عاجزة عن ردع الأيادي المخرّبة والمستفيدة من الفساد المالي والإداري.
فالبعض يتحدث عن عصابات الحزب وعصابات السلطة وعن الرئيس الرهينة والدولة المخطوفة وعن البرلمان المدجّن والمعارضة المأجورة. والشعب يستغفر ويطلب اللطف والستر، وفقد الشباب الثقة والأمل وتاهت به السبل، فلم يعد يكترث بالقيم ولا بالثقافة ولا بالسياسة، وهذا أمر خطير ينحرف بالبلاد نحو المجهول. فالغش في الدراسة أصبح مهارة مكتسبة، والغش في التجارة وسيلة للكسب، والرشوة أضحت السبيل الأنجع لقضاء المآرب، والسرقة المنظمة مهنة للفاشلين وللراغبين في الكسب السهل، والتحايل والتزوير والخداع أمور لا غنى عنها لتدبير شؤون الحياة. والسجن بات محطة استراحة للمتعبين، والقوانين فقدت اعتبارها. فأين نحن؟ ألسنا في حالة اختمار وانكسار وانهيار؟
لا يمكن النظر إلى كل ما قيل ويقال على أنها تحريض أو تهويل، لأنّ الناس يعيشون بالفعل واقعاً مفضوح الحقائق ويدركون أنّ تكذيب ذلك يعد نفاقاً وتضليلاً وتدجيلاً. لكن من يجرؤ على التضحية؟ لا سيما أنّه لا قوة وطنية يمكن أن يلتفّ حولها الواعون والمدركون والشرفاء والأحرار والحريصون على مصلحة الوطن ومصير الأجيال الصاعدة. إنّ البلاد في حاجة إلى جبهة وطنية لإنقاذها وتخليصها من قبضة الفساد والاستبداد والمصير المجهول.
لقد شاهدنا ولا نزال، أنّ أصغر أمر يمكن أن يُدخل البلاد في محرقة مع اقتناعنا بأنّ ما حدث لم يكن أمراً هيّناً. فهو التعبير الصادق عن الأزمة الكامنة، التي حوّلت المجتمع إلى مرجل والشباب إلى قنبلة موقوتة. ولن تكون الحلول الأمنية إلا عاملاً لعزلة النظام داخلياً وخارجياً ولتعميق الفجوة والجفوة بين الحاكم والمحكوم. إنّ الغازات المسيلة للدموع والرصاص وجميع الأجهزة الأمنية والقمعية، لن تقضي على الفقر والبطالة، بل تزيد القهر قسوة والظلم مرارة وترفع من عدد الضحايا والشهداء وتقنع من لم يقتنع بعد بأنّ الاستبداد والفساد يؤولان حتماً بالبلاد إلى الانهيار والدمار.
فمن يقدر على تبرير فشل النظام في إدارة التنمية والتصرف في المال العام وثروات البلاد وكفاءاتها؟ ومن يستطيع أن يبرر فشله في معالجة الأزمة بروح المسؤولية الوطنية وبالأسلوب العقلاني والديموقراطي؟ وهو ما انفك يؤكد أنّه المؤتمن على مصير البلاد وأنّه ضمانة الحاضر والمستقبل وراعي الشباب وتواصل الأجيال. إنّ الأسلوب الأمني دلالة على العجز السياسي، واستخدام القوة ضد الشعب خروج على المسؤولية الوطنية ودستور البلاد وقوانينه التي تحمّل النظام حماية الشعب لا قهره ونهبه وتجويعه وترويعه وقتل أبنائه بالرصاص بعد قتلهم بالإحباط.
ما فائدة الحديث عن التنمية المستدامة إذا كانت نسبة البطالة متصاعدة وجيوب الناس فارغة والديون الفردية والأسرية متنامية؟ ما فائدة انتشار أجهزة الأمن وعيونه إذا كان المواطن غير آمن على حقوقه وأمواله وممتلكاته الخاصة وحتى أطفاله؟ ما فائدة التدريس الإجباري والشامل والتعليم المتعدد والمُطوّل إذا كانت القيم الأخلاقية والثقافية والمهنية متهاوية وباب التشغيل مسدوداً والمستقبل مجهولاً؟
لا يمكن إلقاء مسؤولية ما آلت إليه البلاد وتفجّر الأوضاع على شخص أو جهة، بل على النظام بأسره، سلطة وحزباً. وتغيير مسؤول هنا وآخر هناك وبعث مشروع هنا ووعود كثيرة بأخرى هناك قد تهدّئ الوضع مؤقتاً، لكن لن تحل الأزمة إطلاقاً ولن تقضي على أسبابها التي إذا استمرت، تبقينا في مفترق الطرق على فوهة بركان. يجب أن يصبح المواطن شريكاً فاعلاً ومسؤولاً، رقيباً ومحاسباً، وتصبح السلطة في خدمته وليست جهازاً لحرمانه وتضليله. وهذا يعني بالضرورة أنّ قيام جبهة وطنية هو الحل الأمثل للخلاص والإنقاذ والإصلاح لحماية الوطن ونصرة الشعب وإخراجه من محنته وتجنيبه المصير المجهول.
وعلى أساس ما تقدم، يصبح الحل الأول والأخير، لمصلحة الجميع ولمستقبل تونس وأجيالها هو تأكيد المواقف الآتية:
* كفّ يد سلطة الحزب الواحد والحزب القائد والمؤتمن، والدولة الحزبية وسياسة الرأي الواحد.
* منع الوصاية والاحتكار والنظام المؤبد الذي يفضي حتماً إلى الانفجار والانهيار.
* رحيل النظام القائم، القديم ــ الجديد، الذي أوقع البلاد في مآزق عدّة وفي انتفاضات دامية على امتداد العقود الماضية.
* بناء نظام بديل أساسه تداول السلطة والمراقبة والمحاسبة والشفافية في إدارة شؤون الدولة.
* تأسيس جبهة وطنية واسعة ممثلة لكافة القوى الشعبية الحقيقية لإنقاذ البلاد من الضياع.
من المنطقي أنّ مثل هذا الحل يتطلب وقتاً، لكن يجب أن ندرك أنّ الأزمة التي نعيشها ليست مجرد أزمة ظرفية أدت إلى انفجار طارئ أو احتجاج عابر للرد على حادث قابل للحل. إنّ ما نعيشه من أحداث هو مقدمة دامية للكشف عن حقيقة الأزمة العميقة المدمية التي تأسست وتخللت جميع مفاصل الحياة وبيّنت في النهاية إفلاس السياسة المعتمدة والجهات الفاشلة التي تسهر على تنفيذها. لن يكون علاج هذه الأزمة حلّاً ارتجالياً ولا جزئياً، بل حلّاً جذرياً، بعضه عاجل وبعضه يتطلب وقتاً وتفكيراً وتخطيطاً رصيناً لإعادة بناء السلطة الوطنية القادرة على حماية الدولة والرقي بالمواطنة والتنمية العادلة والمستدامة.

* ناشط تونسي