هل كان البعض ممّن رفع شعار «السينين»، يظنّ فعلاً، أنّ الجهود السعودية ــ السوية ستفضي حقّاً إلى إلغاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وقرارها الظني، أو على الأقل، «تمويت» هذه المحكمة وتأجيل قرارها الاتهامي إلى ما شاء الله؟هذا السؤال المطروح برسم فريق الثامن من آذار قبل سواه، لا يلغي، بالمقابل، أسئلة أخرى، قد تُطرح على الفريق الآخر. أسئلة من نوع: هل المراهنون على التسوية السعودية ـــــ السورية، كانوا يعتقدون فعلاً بأنّ تحويل التهمة باغتيال الرئيس رفيق الحريري وآخرين، عن سوريا إلى «حزب الله»، سيؤدّي إلى تحييد دمشق، وإلى إضعاف التحالف الإيراني ـــــ السوري، وإلى وقف القيادة السورية دعم «حزب الله»؟
يعنينا هنا، السؤال الأوّل، أي ذلك الجانب من التطوّرات التي تسارعت منذ أسبوع، وجعلت فريق الثامن من آذار أكثر المفاجئين بفشل التسوية السعودية ـــــ السورية، نتيجة ما أدّت إليه محادثات واشنطن ونيويورك ولقاءاتهما في الأيام القليلة الماضية، وتحت تأثير حاسم للموقف الأميركي.
يتّجه السبب الأوّل، في هذا التساؤل، إلى سبر مدى القدرة على صوغ التقدير الملائم بشأن الوضع الملموس الذي يعيشه لبنان في مجرى تناقضاته وصراعاته، وفي مجرى التناقضات والصراعات الإقليمية التي يتفاعل معها بما يفوق مثيله في أيّ مرحلة سابقة. عنصر الخلل أو الخطأ في ما بُني من آمال أو أوهام، هو، في سوء تقدير فعل عدد من العوامل أو المعطيات أو التوازنات وتأثيرها. وفي نطاق ذلك، يمكن الجزم، دون تردّد، بالمبالغة في التعويل على الضعف الذي لحق الإدارة الأميركية بسبب العثرات التي أصابت مشروعها الشرق أوسطي.
وثاني أشكال سوء التقدير هو ذلك الذي انطلق من قدرة لدى القيادة السعودية (الملك وفريقه تحديداً)، على التفلّت من التأثير الأميركي، ثمّ اعتماد سياسات مستقلّة نسبياً حيال الصراعين الإقليمي من جهة، واللبناني ـــــ اللبناني، من جهة ثانية. وثالث أشكال سوء التقدير، هو ما تعلّق بالعلاقة السورية ـــــ السعودية نفسها. فقد كاد البعض من حلفاء دمشق في لبنان ينسب لهذه الأخيرة قدرات عجائبية في التأثير على المملكة وعلى ملكها وفريقه. أو هو كاد في مدائحه للموقف السعودي، يضع «خادم الحرمين الشريفين» في قلب محور «الممانعة» ويغدق عليه، كلّ ساعة، من أشكال المدائح والإشادة ما يدعو بالفعل إلى أفظع الاستغراب. وكان طبيعياً، في امتداد ذلك، التقليل من علامات وعناصر مهمة من نوع الرفض المصري للمبادرة، ومن نوع اعتراض فريق سعودي مؤثر عليها، حتى في المستوى الداخلي، فقد جرى التقليل من مدى قدرة الرئيس سعد الحريري وحلفائه، على «الصمود» وعلى المناورة، وعلى ممارسة لعبة كسب الوقت، وعلى التحرّك والاتصال وحشد التأييد... وصولاً إلى الاستفادة من مرض الملك. فأمسك الفريق السعودي الأكثر ارتباطاً بالسياسة الأميركية، بزمام المبادرة والقرار، فيما الملك نفسه بين يدي «العناية» الصحية الأميركية يخضع للجراحة والعلاج، ومعهما مجموعة مؤثرات أخرى ذات «نكهة» أميركية، هي الأخرى.
قد يُقال إنّ ما اعتُمد إنما كان تكتيكاً ضرورياً لإفراغ المحكمة من صدقيتها ومن شحنتها الناسفة على حدّ سواء. هذا التوجّه قد ينطبق فقط على عدد قليل من أطراف الثامن من آذار. أما أكثرية هذا الفريق، فقد انخرطت في لعبة «السينين» حتى المباهاة والتفاخر، وفي المراهنة عليها إلى حدود سوريالية، سواء في وهم التحوّل في الموقف السعودي، أو حتى في الموقف السوري نفسه (لجهة تحييد هذا الموقف بدايةً لتحوّل أعمق وأوسع حيال قضايا الصراع عموماً).
ونريد من هذا المدخل أن نَعْبُرَ إلى المسألة الثانية. والمسألة هذه تتمثّل، في امتداد الآمال ـــــ الأوهام، التي كانت معلّقة على نجاح المسعى السوري ـــــ السعودي، في عدم اعتماد سياسة مواجهة شاملة، ذلك خصوصاً على المستوى اللبناني، للتآمر الأميركي ـــــ الصهيوني على لبنان وعلى المقاومة، سواء عبر المحكمة أو عبر عدوان إسرائيلي على لبنان، أو عبر أشكال من الفتن المذهبية أو الطائفية.
قد يُقال: فمن يواجه إذن؟ وكيف تكون هذه المواجهة؟ لا نريد إعفاء أحد من تقصيره أو من عدم مشاركته أو من تفاقم التقصير أو ضعف المشاركة. لكنّ ذلك لا يكفي لتبرير مجموعة من السياسات والتوجّهات والعلاقات التي تبيّن في كلّ مناسبة أو منعطف، أنّ المعارضة السابقة وحلفاءها المحليين لا يزالون يواصلون تقريباً، السياسات التقليدية السابقة نفسها. برز ذلك في كلّ المناسبات: من تأليف الحكومة إلى بيانها الوزاري. وقبل ذلك، من اتفاق الدوحة نفسه إلى الانتخابات النيابية. المقصود بذلك، عدم اعتماد توجّه منهجي لإضعاف، بل لإسقاط، أداة الفتنة الأساسية، وهي الانقسام المذهبي وتأجيج هذا الانقسام بسبب المحكمة أو حتى بسبب مباراة رياضية. إنّ هذا الأمر لا يُعالج بإطلاق خطب الدعوة إلى تأليف الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية. بل يجب اعتماد سياسة متكاملة لإفراغ العامل المذهبي من شحنته التفجيرية. ويبدأ ذلك أوّلاً، بإعطاء المثل الذاتي عن الرغبة في اعتماد التوجهات الوطنية، وعن بدء ترجمة ذلك فعلياً في الحقول كلها: السياسية والإدارية والتربوية.
في مجال ثان، لم يُبرّأ معظم المعارضة السابقة أيضاً، من الإمعان في الارتباط الخارجي، وفي التنافس مع الفريق الآخر، على التعويل على مبادراته وحلوله وتسوياته. ومثلما أشرنا سابقاً، فإنّ هذا التعويل يتخذ أحياناً كثيرة صيغاً غير مقبولة، سواء في إظهار الولاء أو في تجسيد العجز.
ولا يخفى أنّ الحرص على عدم مغادرة أساليب العمل التقليدية في العلاقات الداخلية والخارجية، هو الذي يمعن في إضعاف الدور اللبناني، رغم كلّ ما أحرزه اللبنانيون من انتصارات ومن إنجازات في أكثر من حقل. ولا ينبغي أن يكون الكلام الذي قاله العماد ميشال عون مخصصاً للاستهلاك أو لرفع العتب. فقد وضع رئيس «التيار الوطني الحر» يديه على الجرح حين قال: «الفشل لبناني. نحن اللبنانيين نتحمّل كل المسؤولية. لن ننفرد. لدينا أفكارنا ونريد أن نطرحها داخل الحكومة، كنت أقول لهم فتّشوا عن حلّ لبناني...». هذه وجهة سليمة، وبموجبها يجب أن يعمل رئيس الجمهورية، فيبادر إلى عقد اللقاءات الثنائية، أو الثلاثية، أو دعوة مؤتمر الحوار، أو الدعوة إلى مؤتمر وطني. كلّ ذلك من منطلق عدم التسليم بالعجز وعدم الذهاب إلى الفتنة، سواء كان الذهاب إليها طوعياً أو إكراهياً.
ويجب القول، في امتداد كلّ ذلك، إنّ على اللبنانيين، وخصوصاً عبر تكتلاتهم الأساسية، الأخذ بمبدأ الاستعداد للتفاعل وللتبادل وللتنازل. هذا أمر أساسي لاحتواء الأزمة ولتنظيم الصراع، فلا يبقى مفتوحاً على أسوأ الاحتمالات فحسب.
إنّه اختبار جديد، يجب ألّا يفشل فيه الأطراف كما كان يحصل دائماً في تاريخنا المعاصر. وهو اختبار يرتقي اليوم إلى مستوى أهلية الانتماء إلى وطن، بالحفاظ عليه، لا بتعميق الانقسامات، حتى الفتن والاقتتال، بين أبنائه. هذه ليست شعارات يسهل ترديدها، بل هي إشارات يجب تجسيدها لممارسة دور لا يزال يبحث عن بطل، ولإنقاذ شعب من فشل نظامه الطائفي ومن استمرار أخطاء حكّامه!

* كاتب وسياسي لبناني