مقدار ما يُستغرب منطقيّاً تفاهم التيّار الوطني الحر، المدني والعلماني بحسب أدبيّاته، وحزب الله الديني وفق أدبياته أيضاً، يُستغرب تحالف تيّار المستقبل الليبرالي، ولا سيما اقتصادياً، مع «وجهاء» 14 آذار والعديد من تشكيلاتها السياسية، الذين فيما ينطقون بخطاب وطني ينظرون إلى لبنان واللبنانيين جغرافيّاً وديموغرافيّاً كمجموعات، وتغلب في نظرتهم الإيديولوجية هذه الأسطورة التاريخية. استباقاً لأي اتّهام سياسي أو عقائدي لهذا الرأي، فلنذهب إلى التعليل المنطقي وشروحه الواقعية والتاريخيّة.
ولهذا الغرض المنهجي، فلنتجاوز الظروف السياسية الراهنة التي خرج بها بطرس حرب بمشروع قانون إلى المجلس النيابي والأمّة اللبنانيّة لمنع بيع الأراضي بين المذاهب، وهي ظروف تبدأ باستهداف «الأصوليين السنّة» المسيحيين في العراق ولا تنتهي في شبح الفتنة الطائفيّة في مصر، وطبعاً، مروراً بتسلّح حزب الله بأراضي المسيحيين، وفق «الأسباب الموجبة» التي دفعت عضو طاولة الحوار الوطني في شأن الاستراتيجية الدفاعية، بطرس حرب، إلى مشروعه ذاك. والدعوة المنهجية إلى تجاوز الظروف السياسية للابتعاد عن القول إن بطرس حرب بادر إلى حركته الاشتراعيّة تلك لتغطية استهداف «الأصوليين السنّة» للمسيحيين من خلال التخويف بالشيعة الذين، وفق النظرة المذهبيّة والبيع والشراء بالجملة، يشترون الأراضي ويتسلّحون بها لفرض قوّتهم وربما لتهجير المسيحيين. تجنّباً لهذا، فلنقل إن توقيت مشروع بطرس حرب، رغم إلحاحه ميدانياً، سيّئ سياسياً.
إذاً، لنبقَ في الموضوع الأساس، ألا وهو الغرابة في تحالف المستقبل وحرب ورفاقه الذين نشأت زعاماتهم على إرث إقطاعي مناطقي وغذّوا ويغذّون ذلك بالارتباط بالمشاريع الدوليّة وبالعزف على الوتر المذهبي دائماً. هؤلاء نظرتهم إلى لبنان تختلف عن نظرة المستقبل. فالمستقبل ابن الطائف الذي عدّل في تركيبة لبنان 1943 ولبنان الكبير 1920. وهو، أي المستقبل، يتعامل مع لبنان بطوائفه وفئاته كافة ومناطقه كلها، كمعطى متكامل، وإذ ورث عن صيغة لبنان 1943 وعن 1920 مناطق ومواطنين هامشيين، لا سيّما في الشمال (البعيد)، فإنه يحاول، ولو مذهبيّاً وعصبيّاً، ربط تلك المناطق وأولئك المواطنين بمركزه، المذهب، وبمركز لبنان، العاصمة. في المقابل، تبدو النظرة الديموغرافية والجغرافيّة وبالتالي المذهبيّة لحلفائه إلى لبنان، كأنها تنتمي إلى ما قبل إعلان لبنان الكبير (1920).
هذا ليس مسّاً بالوطنيّة المسيّجة بحدود 10452 كليومتراً مربعاً. الكلام على مستوى الأفكار التي تُخفى، ومن الحق تحليلها علميّاً، من دون علاقتها بالأشخاص أو المس بهم.
فأيديولوجيّة المذهبيّين من حلفاء المستقبل تنتمي إلى ما قبل لبنان 1943 و1920، تنظر إلى لبنان المقاطعتين، جبل لبنان وبيروت، أي من دون الشمال والبقاع والجنوب، تلك المناطق التي «ضُمّتْ» إلى لبنان الكبير بعد الحرب العالمية الأولى منهكة اقتصادياً واجتماعيّاً. وإذ سعت تلك الأيديولوجية إلى استيعاب ضمّها تحت وطأة الأمر الواقع والمبرّرات البراغماتيّة التجارية والزراعيّة إلا أنّها لم تستوعبها مذهبيّاً، لا سيما أن معظم أبناء تلك المناطق من الطائفة الأخرى، ما يرجّح وفق حسابات المقاطعجيّين كفة الآخر، الذي منه المستقبل. لقد أخفق المقاطعجيون، في تلك اللحظة التأسيسية للبنان، في تجاوز النظرة إلى تلك المناطق كأحراج وحقول ومخازن موسمية لجبل لبنان، بل إنهم، من دون ثقافة، وقعوا فريسة العنصرية تجاه أبناء تلك المناطق... الملحقة بلبنانهم.
هذا ما يُفسر تحالف أصحاب تلك الإيديولوجية مع المستقبل. وأمّا أهليته للحصول على هذا الامتياز فهي في تمركزه في إحدى المقاطعتين. وهذا أيضاً ما يُفسر تفاهم التيار الوطني الحر، ابن لحظة لبنان 1989 المتململة من حروب المليشيات والزعامات الإقطاعية، مع حزب الله ابن لحظة لبنان 1982 المنتفضة على استبعادها تاريخياً من "الوطن"، حتّى عقارياً. فتفاهم الوطني الحر ـــــ حزب الله، هو في العمق، لقاء مذهبي لاستبعادين: استبعاد ابن صيغة الطائف المسلم (المستقبل) لمسيحي لبنان 1989، واستبعاد ابن لبنان 1920 وما قبل، المسيحي (المقاطعجيون) لمسلم تلك اللحظة التاريخية، أي الشمالي والبقاعي والجنوبي.
صراع شكسبيري درامي دامي، وأحياناً هزلي، لأبناء لبنان.
ليس هذا البعد الاسطوري ما يظهر الاختلاف بين المستقبل وحلفائه المقاطعجيين، هناك أيضاً البعد الاقتصادي، فثمة فارق شاسع بين النظرة الليبرالية للمستقبل والتي تحرّر الرأسمال من أي "قيود" أسطورية مذهبيّة أو مناطقية، وبين النظرة الإقطاعية التابعة والطفيلية رأسمالياً، التي يتحلّى بها المقاطعجيون. وإذا كان الواقع والزمن فرضا معطيات رأسمالية مذهبيّة (تمدّد الشيعة وشراؤهم الأراضي، وفق مشروع قانون حرب) لا تستوعبها إيديولوجية المقاطعجيين، فإن ذلك في المفهوم الليبرالي المحكوم مذهبيّاً (المستقبل) أقرب إلى المنافسة التي تطرح تعديلاً في جدول أعمال السوق. وهذا ما يحصل اليوم: منافسة المستقبل (العربي) وحزب الله (الفارسي) على أراضي المقاطعتين. لكن المشكلة كعادة إقطاعيي جبل لبنان منذ "صخرة طانيوس" (لأمين معلوف) وحتى قبلها، إلى اليوم، هي أنهم ينظرون إلى "الغريب" بعين واحدة والعين الثانية على أراضي "رعيتهم" ونسائهم.