ديفيد روثكوف*استناداً إلى استطلاع أجري في 2007، حازت الولايات المتحدة المرتبة الأولى في العالم في ملكية المسدسات: 90 مسدساً لكل 100 شخص. نحن أمّة فيها خمسة في المئة من سكان العالم، وبين 35 و50 في المئة من المسدسات التي يملكها مدنيون، حول العالم أيضاً، أي لدينا ما يقارب 270 مليون قطعة سلاح.

أظهرت الدراسات المتكررة أنّ الولايات المتحدة في المرتبة الأولى، وبفارق كبير، بين الدول المتقدمة، في موضوع العنف والموت باستخدام المسدسات. ليس هناك دولة متقدمة تقترب منها حتى. يموت أكثر من ثلاثين ألف أميركي كلّ عام، بسبب العنف بواسطة المسدسات. معظم حالات الموت هذه تعود إلى انتحار، لكن ما يزيد على 12000 منها هي جرائم قتل. كما يجرح حوالى مئتي ألف أميركي كلّ عام بواسطة المسدسات.
في 2009، كتب بوب هربرت، من صحيفة «نيويورك تايمز»، مقالاً مهمّاً ذكّر فيه أنّه منذ 11 أيلول 2001، توفي 120 ألف شخص نتيجة عنف ناتج من استخدام المسدسات في الولايات المتحدة. اليوم، أصبح الرقم يتجاوز الـ140 ألفاً.
لمن يدهشه ذلك، هناك تفسير مرافق لهذا الموضوع، يقدّمه المدافعون عن حق امتلاك السلاح، وهو أنّ ذلك مكفول بموجب الدستور. ينص التعديل الثاني من الدستور على أنّه «لن يُنتهك حقّ أيّ ميليشيا منظّمة، لكونها ضرورية لأمن الدولة الحرة، وكذلك حق الناس في الاحتفاظ بالسلاح وحمله».
لقد أصبح لهذه العبارة أهمية شبه ـــــ دينية، بالنسبة إلى البعض في الولايات المتحدة. وذلك رغم أنّها تتعرض، بكل وضوح، لسوء تفسير، من جانب الذين يؤمنون أنّها تعطي كلّ شخص الحق في امتلاك هذه الأسلحة، ومن ضمنها تلك المتقدمة، والأوتوماتيكية، ذات القدرة العالية على التدمير. يبدأ سوء التفسير مع التجاهل المتعمّد للنصف الأول من الجملة التي تربط الحق بالحاجة إلى «ميليشيا منظمة». هذا شرط مؤهّل، مرتبط مع ما يسمّى الحق في حمل الأسلحة، ولو لم يكن مهماً لما أُورِد في النص الشهير. إذا لم تكن الميليشيات موجودة، يمكن أن يستنتج المرء أنّه يجب إعادة النظر في هذا «الحق»، أو إلغاؤه.
إلى جانب ذلك، بالطبع، كانت هناك مواد كثيرة من الدستور، تطلّبت تعديلاً بسبب وجهات النظر، والقيم والظروف التي تغيّرت في الأمة منذ تأسيس البلاد. الغريب أنّ العديدين ممن يؤمنون بقدسية التعديل الثاني يساندون، بحماسة، هذه التعديلات اللاحقة
للنص.
كانت النائبة غيفوردز، ضحية هذا الاعتداء، من المساندين لـ«حقوق التعديل الثاني». هذه مفارقة مأسوية، لكنّها لا تفترض عدم إعادة فتح النقاش بشأن هذه القضية المهمّة. فكّروا في مطلق النار. هو شخص يتعاطى المخدّرات، ومن الواضح أنّه فاشل ومضطرب. وكان قد ردّ على طلب جامعته الحصول على تقويم نفسي نظراً إلى تصرفاته المضطربة، بشراء مسدس، بصورة شرعية، عوضاً عن الحصول على مساعدة.
يثير الاعتداء، عن وجه حق، أسئلة بشأن فحوى الخطاب السياسي في الولايات المتحدة. لم يكن ما حصل اعتداءً من جانب المتطرفين السياسيّين، ذوي الألسن السامة والمتهورين، ومروجي الحقد الذين أصبحوا منتشرين بكثرة في السنوات الماضية، لكن كان، بالتأكيد، نتيجة ثقافة عدم الاحترام والعنف التي أثاروها. مع قليل من الحظ، قد يدفع هذا الاعتداء، كلّ الأطراف إلى أن يكونوا أكثر وعياً، ويتمتعوا ببعض الأخلاق.
لكن من منظور أشمل، يجب أن نسأل بأكبر قدر ممكن من النزاهة: ماذا تقول هذه الأحداث عن الثقافة الأميركية، وما هي نتائجها على قدرة أميركا على القيادة؟ سيقول العديدون، غريزياً، إنّ مجتمعات أخرى لديها أوجه قصور مشابهة. هذه هي القضية، بلا شك، لكن يجب ألّا يتجاهل مجتمع يعدّ نفسه مثالاً للعالم، بوقاحة، ما هي بوضوح، عيوب وطنية كبيرة، وخصوصاً في ما يتعلق بولعنا بالمسدسات واحتفالنا بسياسات الحقد. الكوارث المشابهة لما حدث في أريزونا نهاية الأسبوع الماضي، لا تؤذي الضحايا فقط، لكن أيضاً، قدرة أميركا على أن تقود وعلى أن تدفع قدماً بمصالحنا وقيمنا حول العالم. تخيّلوا، حتى نأخذ مثلاً واحداً، كيف سيكون وقع أحداث كهذه والأنماط والتاريخ الذي يفضحها، على قدرة أميركا على الدفع قدماً بأجندة حقوق الإنسان على مستوى دولي، كما ستفعل من دون شك، خلال زيارة الرئيس إلى الصين الأسبوع
المقبل.
المشكلة هي أنّنا لا نتحدث عن تصرف مريع لمطلق نار وحيد. على العكس، يجب أن نرى أننا نناقش أوجه التخلف في المجتمع الأميركي. جوانب يجب أن نغيّرها، ليس لأنها تجعلنا نتراجع إلى ما دون القواعد الدولية، لكن لأنّنا نتخلف عن فعل الصحيح، الأخلاقي، والمعقول.
* عن مجلة «فورين بوليسي»


مناخ من الكراهية



بول كروغمان*
هل تفاجأتم تماماً حين سمعتم الأخبار السيّئة من أريزونا؟ أم كنتم تتوقعون، إلى درجة معينة، حصول مثل هذه الفظاعات؟
أنا أنتمي إلى الفئة الثانية. تنتابني مشاعر سيّئة منذ المراحل الأخيرة من حملة 2008 الانتخابية. تذكرت التصاعد المفاجئ في الضغينة السياسية بعد انتخاب بيل كلينتون في 1992. ضغينة وصلت إلى ذروتها في التفجير الذي وقع في مدينة أوكلاهوما. وتستطيعون أن تروا، فقط عبر مشاهدة الجموع في مهرجانات ماكين ـــــ بالين، أنّ ذلك كان سيحصل مجدداً. توصلت وزارة الأمن القومي إلى النتيجة نفسها. فحذّر تقرير صادر في نيسان 2009 من الزيادة في التطرف اليميني، الذي ينحو نحو العنف.
أدان المحافظون هذا التقرير. لكن، في الحقيقة، كانت هناك موجة متزايدة من التهديدات والتخريب الموجهة إلى مسؤولين منتخبين، ومن ضمنهم القاضي جون رول الذي قتل السبت، والنائبة غابريل غيفوردز. كان مقدراً أن ينقل أحد الأشخاص الأمر إلى المستوى التالي، في يوم من الأيام. وقد فعل أحدهم ذلك.
صحيح أنّه يبدو أنّ مطلق النار في أريزونا مضطرب نفسياً، لكن لا يعني ذلك أنّه يمكن أو يجب التعاطي مع فعلته هذه، كحادثة معزولة، لا ترتبط بالمناخ العام. في الربيع الماضي، نشرت «بوليتيكو» تقريراً عن تصاعد التهديدات ضد أعضاء الكونغرس، التي وصلت إلى نسبة 300 في المئة. كان لعدد من الأشخاص الذين قاموا بهذه التهديدات، تاريخ مع الأمراض النفسية. لكن ثمّة أمر معيّن في الوضع الأميركي الحالي يدفع عدداً أكبر من المضطربين إلى التعبير عن مرضهم عبر التهديد، أو التورط فعلياً بعنف سياسي. ولا شك في ما تغيّر. فكما قال رئيس الشرطة الذي تعامل مع الجريمة في أريزونا، كلارنس دوبنيك: «إنّه ذلك الخطاب اللاذع الذي نسمعه يومياً من الناس على الراديو وبعض المذيعين على التلفاز». معظم من يستمعون إلى هذا الخطاب السام يمتنعون عن العنف، لكن بعضهم، يعبُر، حتمياً، هذا الخط الفاصل.
من الأهمية بمكان أن نكون واضحين بشأن طبيعة مرضنا. ليس الأمر افتقاداً عاماً لـ«الأخلاق»، العبارة الأحبّ على قلب المنتقدين الذين يريدون تجاهل الخلافات الأساسية في السياسة. فقد يكون التهذيب فضيلة، لكن هناك فرق كبير بين الأخلاق السيئة والدعوات، الصريحة أو الضمنية، إلى العنف. الشتائم ليست مشابهة للتحريض.
الأساس هنا هو أنّ ثمة مكاناً في الديموقراطيات للناس الذين يسخرون ممن يختلفون معهم ويرشقونهم بالاتهامات. لكن لا مكان للخطاب الإقصائي، وللاقتراحات التي تقول إنّه يجب التخلص من الأشخاص الموجودين على الطرف الآخر من النقاش، بأي وسيلة ممكنة.
كذلك، فإنّ التخمة في الخطاب السياسي، وخصوصاً على موجات الأثير، مع الخطاب الإقصائي، هي التي تقف وراء ارتفاع موجة العنف. من أين يأتي هذا الخطاب السام؟ دعونا لا نطلق ادعاءً كاذباً بالتوازن: إنّه يأتي، على نحو ساحق، من اليمين. من الصعب تخيّل عضو ديموقراطي من الكونغرس يحث ناخبيه على أن يكونوا «مسلّحين وخطرين»، من دون أن يتعرض للنبذ. لكن النائبة ميشال باكمان، التي فعلت ذلك أخيراً، هي من النجوم الصاعدين في الحزب الجمهوري. وهناك تضاد كبير في الإعلام. استمعوا لرايتشل مادو وكيث أولبرمان، تجدوا الكثير من الملاحظات اللاذعة، والسخرية الموجهة إلى الجمهوريين. لكن لن تقعوا على نكات عن إطلاق النار على مسؤولين حكوميين أو قطع رأس صحافي في «واشنطن بوست». استمعوا لغلين بيك وبيل أورايلي فتجدوا ذلك.
بالطبع، إنّ أمثال بيك وأورايلي يستجيبون للمطالب الشعبية. قد يندهش مواطنو ديموقراطيات أخرى، من الروح الأميركية، ومن الطريقة التي تقابل فيها جهود رؤساء، أقل ما يقال عنهم أنّهم ليبراليون، لتوسيع التغطية الصحية. فنسمع صرخات تندد بالطغيان وتدعو إلى المقاومة المسلحة. وهذا ما يحصل حين يكون هناك ديموقراطي في البيت الأبيض، وسوق تستقبل أي شخص مستعد لأن يغذّي هذا الغضب. لكن حتى لو أنّ الغضب هو ما يريد البعض أن يسمعوه، لا عذر لمن يعملون قوادين لهذه الرغبة. يجب نبذهم من كلّ الأشخاص النزهاء.
للأسف، لم تحصل الأمور بهذه الطريقة. جرى التعامل باحترام مع مروّجي الحقد، وحتى بنوع من الإذعان، من مؤسسة الحزب الجمهوري. وكما قال ديفيد فرام، الكاتب السابق لخطابات الرئيس بوش: «ظنّ الجمهوريون بداية أنّ (محطة) فوكس تعمل لدينا، واكتشفنا الآن أنّنا نعمل لدى فوكس». إذاً، هل ستجعل مذبحة أريزونا خطابنا أقل سمّاً؟ في الحقيقة، يعود الأمر إلى قيادة الجمهوريين. هل سيتقبلون حقيقة ما يحصل لأميركا، ويتخذون موقفاً من الخطاب الإقصائي؟ أم هل سيحاولون أن يعدّوا المذبحة مجرد فعل من شخص مضطرب، واستمرار الأمور على ما كانت عليه؟
إذا روّجت أحداث أريزونا لعملية بحث جدية عن الذات، فستكون نقطة تحوّل. إذا لم تفعل، فستكون فظاعات السبت مجرّد بداية.
* عن جريدة «نيويورك تايمز»