سقط النظام التونسي بعد أقل من شهر على بدء الاحتجاجات الشعبية على جملة من الممارسات التي سادت تونس، خلال فترة حكم زين العابدين بن علي، منذ أكثر من عقدين. وبدأ العمل على تأليف حكومة وطنية، يشارك فيها الجميع. لكنّ رئيس الحكومة العتيدة، محمد الغنوشي، هو رئيس وزراء آخر حكومة تونسية، أي من رجال النظام السابق. كذلك يُعمل وفقاً للدستور الذي وضعه بن علي على مقاييسه. ومن هنا تبرز الدعوات إلى وضع دستور جديد، عبر انتخاب جمعية تأسيسية، ورفض الدستور القديم الذي سيبقي البيروقراطية القديمة نفسها، وسيعيد إنتاج حكام لا يختلفون عن بن علي، سوى بالاسم. هذا في تونس، أما في الجزائر المجاورة، فقد أجهضت النخب الجزائرية الانتفاضة الشعبية، ولم تساند الاحتجاجات ونأت بنفسها عنها 
انتفاضة الجزائر المجهضة: فتِّش عن النُخب

عثمان تزغارت *
لم تفضح حركة الاحتجاجات التي هزّت الجزائر، في الأسابيع الأخيرة، عجز الحكومة وإفلاس النظام فحسب، بل أسقطت ورقة التوت أيضاً عن النخب السياسية والثقافية والمجتمعية للبلاد.
دَعْ عنك نقد النظام المترهّل، ولا تُجهد نفسك في محاولة تقويم الأداء الحكومي. فما عساك تقول عن سلطة تمتلك، بين يديها، كنزاً من الفائض المالي المقدّر بـ150 مليار دولار، وتقف حائرة لا تعرف كيف يمكن أن تعيد إطلاق عجلة التنمية؟ لو أنّها جلست فوق هذا الكنز وحضنته كالدجاجة، لربما «باض» لها من الفوائد ما يغنيها عن رفع أسعار الخبز والزيت والحليب.
انظرْ، وأجرك على الله، إلى الحال المزرية للنخب التي يُفترض أن تمثّل طليعة المجتمع وبوْصلته ولسان حاله. اطرحْ جانباً تلك اليوتوبيا الجميلة، الموروثة عن الثورة الفرنسية، التي تحلم بـ«سلطة المثقف» ودوره الطليعي في صناعة الرأي العام. ففي ظل مدّ العولمة الزاحف، وسلطة المال التي سلّعت كل شيء، أصبح ذلك مجرد ذكرى من الماضي الجميل، حتى في بلد فولتير ذاته! اكتف بمدّ يدك إلى أقرب قاموس، للبحث عن أبسط تعريف لكلمة مثقف. خُذ مثلاً هذا التوصيف: المثقف هو من ينتج «المعنى». ما رأيك؟
إذا أسقطتَ هذا التوصيف على تجربة الانتفاضة التونسية الأخيرة، فستفهم كيف أمكن الشرارة، التي اشتعلت بإقدام الشاب محمد البوعزيزي على إحراق نفسه في حركة احتجاجية فردية ورمزية، أن تتحول إلى ثورة شعبية عارمة، انتهت بإطاحة النظام. من الذي «أنتج المعنى» هنا؟ ومن منح لهذه الحركة دلالاتها وأبعادها السياسية؟ إنّها النخب التونسية، متمثلة في النقابة العامة للشغل ورابطة حقوق الإنسان وتجمّع النساء الديموقراطيات، وغيرها من الفعاليات الاجتماعية والسياسية، على اختلاف انتماءاتها ومشاربها ومرجعياتها، بدءاً بالرعيل القديم من مناضلي اليسار الثوري، وفي مقدمتهم المناضل الطليعي الكبير حمّة الهمامي، وصولاً إلى شباب «الثورة الرقمية»، الذين احتضنوا النقمة الشعبية عبر صفحات الفايسبوك والمدوّنات وأغاني الرّاب، فأدى تكاتف كل ذلك إلى إسقاط حاجز الصمت وانتقال الخوف إلى المعسكر الآخر.
في المقابل، لماذا أُجهضت الانتفاضة الشبابية التي اندلعت في الوقت ذاته في الجزائر؟ وما موقع النخب الجزائرية من ذلك؟
حين التهبت البلاد بانتفاضة الشباب الناقم على تردّي أوضاع المعيشة وانسداد آفاق المستقبل، سمعت الدكتور سعيد سعدي، الزعيم المعارض ـــــ الحداثي ـــــ العلماني، يتحدث على «فرانس تلفزيون». لم أدر هل يجب أن أجهش بالبكاء أم أستلقي على ظهري من الضحك؟ فهو كرّر في تعليقه على الاحتجاجات الأخيرة الخطاب الراديكالي ذاته، الذي أطلقه غداة انتفاضة الشباب الأولى في تشرين الأول/ أكتوبر 1988، مستنكراً فساد النظام وتسلطه. كأن هذا «المعارض الأزلي» لم يخض حتى الركب في مستنقع الفساد والتسلط ذاته، ولم يكن على الدوام، منذ ما يقارب عشرين عاماً، طرفاً فاعلاً ومتنفّذاً في مؤامرات حبك وتزوير نتائج انتخابات الرئاسة ومجالس النواب، وفق «الكوتات» المفصّلة على هوى المؤسسة العسكرية ومقاسها.
انظرْ اليوم إلى ما آلت إليه أحوال النخب السياسية «المعارضة» في الجزائر، إسلامية كانت أو علمانية، وطنية أو أممية أو جهوية. تجدها أشبه بتلك الطيور المسكينة التي نشاهدها على شاشات التلفزيون، كلما حدث تلوّث بترولي، وقد تلطّخت أجنحتها بالنفط، فتعجز عن الحركة أو الطيران. فماكينة الفساد الجهنمية التي أطبقت على أنفاس البلاد منذ عشرين عاماً، التهمت كل ألوان الطيف السياسي، وأصبحت أشبه بالغول الأسطوري الذي تروي حكايات جدّاتنا أنّه ذو «كرش» رهيبة تعيش وتتصارع فيها كائنات من مختلف الأصناف والأجناس.
اذهبْ إلى المحميات الأمنية في الضاحية الغربية للعاصمة، إذا عثرتَ على شفيع يمنحك إذناً، «Laisser passer»، لدخولها، وقل لي بربك أليست مثل «كرش» الغول الأسطوري؟ هناك في تلك المجمّعات التي تنعم بحماية النظام، تتعايش بمنتهى الأخوّة والتناغم مختلف «النخب السياسية» للبلاد، العلمانية منها والإسلامية، المعرّبة والفرانكوفونية والأمازيغية. لا تصدِّق ما تقرأه في الصحف أو تسمعه في التجمعات السياسية أو على شاشات الفضائيات أو مقاعد البرلمان عن خلافات سياسية أو فكرية في ما بينها. لا يغرّنك الأمر، فتلك مجرد لعبة مسرحية موجهة للاستهلاك الشعبي. في نهاية المطاف، الجميع يأتمر بمرجعية عليا واحدة اسمها الريع النفطي.
إذا تركتَ الساسة جانباً، والتفتَّ إلى «القوى الحيّة» للمجتمع، فستكون صدمتك أشدّ. وحدها حفنة قليلة من الصحافيين تحاول أن تجذّف عكس التيار، وتقاتل لإسماع نبرة مغايرة. كأنّ قدر الصحافة في الجزائر أن تؤدي على الدوام دور المعارضة، وأن تحلّ محلّ الأحزاب والنقابات ورابطات حقوق الإنسان وتنظيمات المجتمع المدني.
عدا عن ذلك، هل سمعتَ عن مبادرة أطلقتها نقابةٌ أو جمعيةٌ نسوية أو شبابية أو نادى بها مثقفون أو فنانون أو أكاديميون؟ لا شيء على الإطلاق. اللهم سوى تلك الحملة التي فاحت منها رائحة الأجهزة الأمنية، والمتمثلة في علم وطني كُتبت عليه عبارة «نعم للاحتجاج، لا للتخريب»، وتحوّلت بسرعة إلى شعار تلقّفه الجميع على الإنترنت، كُتّاباً ونقابيين ورجال سياسة وناشطين اجتماعيين. حتى زعيم «جبهة الإنقاذ» المحظورة، الشيخ علي بلحاج، الذي كان في طليعة الانتفاضة الشبابية في تشرين الأول/ أكتوبر 1988، أصابته العدوى، فنزل إلى الشوارع ـــــ كما قيل ـــــ لدعوة الشباب إلى تفادي التخريب.
النخب التونسية احتضنت الحركة الاحتجاجية، وعملت على تأطيرها ودعمها، بما أدى إلى ولادة ثورة شعبية. أما نُخب الجزائر المفلسة، فلم تجد من «معنى» تمنحه لانتفاضة الشباب سوى «التخريب». عجباً لنُخب كهذه، تواطأت على مدى عشرين عاماً في نهب وتبديد خيرات البلاد وثرواتها، الطبيعية والبشرية، وأسهمت في ابتذال اللعبة السياسة، وحوّلت المنابر الثقافية والإعلامية إلى أبواق تروّج لهذا الجناح أو ذاك في النظام الاستبدادي المترهّل، وجعلت من الاقتصاد ماكينة ضخمة لا تنتج سوى الفساد والريع الحرام (هل تعلم، حفظكَ الله، أنّ مقدار الاختلاسات التي نُهبت من مشروع بناء «الطريق السريع شرق ـــــ غرب» تعادل ميزانية الدولة الموريتانية لسنة كاملة؟ وأنّ تقديرات المؤسسات المالية الدولية تشير إلى أنّ حجم السرقات التي تحصل من الخزينة العمومية الجزائرية سنوياً يعادل ميزانيات كلّ دول إفريقيا جنوبي الصحراء مجتمعة؟). ثم ها هي النخوة الوطنية تجتاح هذه النخب، فجأة، فإذا بها تنتفض رافعة شعار: نعم للاحتجاج لا للتخريب، داعية إلى حماية المنجزات وتحصين المصالح العليا للوطن.
أي وطن وأي بطيخ أحمر؟ وطن بلا كرامة، ما حاجتنا إليه؟ فليأكله الجراد.
* كاتب وصحافي جزائري مقيم في باريس

■ ■ ■

انفراج ديموقراطي شكلي

سلامة كيلة *
تطوّر الوضع التونسي إلى اللحظة التي فرضت هرب الرئيس زين العابدين بن علي. ولم يفد التهديد الذي مارسه الرئيس السابق، ولا أفادت الوعود التي أطلقها في لحظاته الأخيرة. ولن يفيد الحلّ الذي أخرج به الهرب، ويجري فيه نقل السلطة إلى رئيس الوزراء. وقد لا ينجح الحلّ «الدستوري»، الذي أتى برئيس البرلمان رئيساً مؤقتاً، يعمل على الإعداد لانتخاب رئيس جديد خلال مدة لا تتجاوز ستين يوماً.
ما يجري العمل على أساسه، هو إعادة إنتاج السلطة، من خلال إبعاد الرئيس وتحميله كلّ وزر الماضي، واستقطاب بعض أحزاب المعارضة، وبالتالي إبقاء السيطرة الطبقية للفئات ذاتها. فالخطوات أخذت على أساس الدستور، الذي صاغه زين العابدين بن علي، ويحدد شكل الصيغة «الديموقراطية» التي كانت تمارس. صيغة تبقي الحزب الدستوري هو المحدِّد لشخص الرئيس المقبل، من خلال البرلمان الحالي، الذي يهيمن عليه. وتبقي أيضاً أجهزة السلطة ذاتها، البوليس والبيروقراطية، اللذين حكما طوال ربع قرن في عهد بن علي، هي المقررة لنتائج الانتخابات التي ستجري.
وبالتالي، يجري التركيز على الدمقرطة وحرية الأحزاب والصحافة، وإشراك المعارضة في السلطة، بينما تبقى البنية الاقتصادية كما هي، وتظل الطبقة الرأسمالية المافياوية هي ذاتها، ربما مع إبعاد مافيا العائلة، وربما لمصلحة مافيا عائلة جديدة.
هذا ما أوضحته التجربة، حينما يجري «التغيير» على أرضية السلطة ذاتها، ووفق القوانين ذاتها، والأهم وفق البوليس والبيروقراطية ذاتها. فيكون هناك مرحلة انفراج ديموقراطي، وحرية سياسية، لكن من دون لمس المشكلة الأساس التي قادت إلى تفجُّر الانتفاضة. وهي مشكلة النمط الاقتصادي الذي تكوّن خلال العقود السابقة، الذي أفضى إلى الإفقار الشامل من جهة، والبطالة الواسعة من جهة أخرى. بالتالي، تتراجع نخبة السلطة قليلاً، من خلال تحقيق الانفراج «الديموقراطي»، وإشراك بعض المعارضة في السلطة، وإعطاء الوعود بتحقيق كثير من المطالب. وتستغل «نخبة» من السياسيين «المعارضين» كل هذا الانفجار الاجتماعي، الذي يعبّر عن مشكلات عميقة تفضي إلى الانتحار أو الموت جوعاً، من أجل القفز إلى السلطة، وإن كان ذلك يتحقق من موقع الهامش والملحق، لأنّ البيروقراطية الحزبية القديمة (الحزب الدستوري) ستبقى هي الممسكة بمقاليد السلطة. وهي «اللعبة» التي يراد لها أن تمتص الأزمة، وترحّلها إلى أمد أبعد.
لا بد لكل هذا الانفجار الاجتماعي، كي يحقق أهدافه، من أن يفضي إلى أن لا يتجاوز الرئيس، بل كلّ بنية السلطة التي كوّنها، بما في ذلك وأساساً الحزب الذي حُكم باسمه، والبوليس والأجهزة الأمنية. أجهزة تدربت كي تخدم مصالح مافياوية لتلك الطبقة التي تحكم تونس منذ عقود، وتوثق ارتباطها بالطغم الإمبريالية. وهي التي، انطلاقاً من هذا الارتباط، فرضت الإفقار الشامل والبطالة المفرطة، إضافة إلى الاستبداد الشامل الذي هو ضرورة، ليس من أجل ذاته، بل لتحقيق السيطرة الطبقية التي تسمح بالنهب وبصياغة النمط الاقتصادي. لهذا، فإنّ تقدم الانتفاضة وانتصارها ليس ممكناً إلا من خلال فكفكة أجهزة الدولة البوليسية، وتجاوز الدستور الذي فرضته المافيا، وكذلك تجاوز كل بنية السلطة القائمة. فهذه يجب أن تنتهي، أن تهزم، وأن تؤلَّف حكومة من القوى الأساسية التي أدت دوراً مهماً في الانتفاضة، أي النقابات والاتحادات والأحزاب، من اتحاد العمال إلى المحامين وأحزاب اليسار التي كان لها دور بارز، إلى الهيئات واللجان، التي تألفت خلال الانتفاضة. حكومة مؤقتة تعد لانتخابات مجلس تأسيسي يضع دستوراً جديداً يقر الحريات، ويضع سياسة اقتصادية مختلفة تخدم الطبقات الشعبية.
وهنا لا بد من أن نلحظ أنّ المسألة لا تتعلق فقط بإنشاء نظام ديموقراطي يعتمد الانتخابات والتعددية وحرية الصحافة، فهذه لا تحل مشكلات الطبقات الشعبية وستفضي إلى أزمة بعد حين، تفرض انتفاضة جديدة. ولا شك في أنّ لعب الطبقة الرأسمالية المافياوية كان يجري على هذه المسألة، فيكون التنازل في المجال «الديموقراطي» وغض النظر عن كل ما يتعلق بالنمط الاقتصادي وبالفروق الطبقية، وخصوصاً بوضع الطبقات المفقرة، التي هي أساس كل انتفاضة. ولسوء الحظ، تقبل بعض قطاعات المعارضة بهذه اللعبة، فتنقاد خلف السلطة، وتتجاهل الوضع الطبقي الذي كانت ترى أنّها تعبّر عنه. ويصبح همها هو «اللعبة الديموقراطية»، في وضع غير متكافئ، لا يسمح لقوى تطرح بديلاً اقتصادياً أن يحقق ما يجعله يفرض برنامج يمثل الطبقات الشعبية.
والآن، هل تقبل المعارضة، اليسارية خصوصاً، السير مع الحل الذي طرحه أفراد نظام بن علي (أو نظام المافيات)؟ أو تقول إنّها تسعى إلى تحسينه، لكنّها تقبل في النهاية؟ أو تؤلف سلطة بديلة، وتفتح الطريق لانتصار حقيقي للانتفاضة؟ فالحل من خلال آليات السلطة ذاتها، سيخلق متنفساً مؤقتاً في المستوى السياسي، لكنّه لن يحل مشكلات الفقر والبطالة، لأنّه لن يغيّر النمط الاقتصادي القائم، الذي هو، كما أشرنا، نمط رأسمالي مافياوي. وبالتالي، سيعيد الصراع إلى نقطة الصفر. وهو حلّ يجب أن يرفض نهائياً.
فليس هناك غير البديل، الذي يقوم على أنقاض النظام القائم، حتى لو لم ينجح الآن. لكن يجب أن يكون واضحاً أنّ الأزمة العميقة التي تعيشها الطبقات الشعبية لن تحل عبر الحل السلطوي. وبالتالي، حتى إذا توقفت الانتفاضة الآن، فإنّها ستعود في فترة قريبة بعد أن يتوضح للعاطلين من العمل والمفقرين بأنّ شيئاً لم يتحقق. وهنا يكون طرح البديل الآن من اليسار هو الأفق الذي سيحكم الانتفاضة القادمة.
المسألة، إذاً، لا تتعلق بشكل السلطة فقط، بل أساساً بطبيعة التكوين الاقتصادي الذي صيغت فيه تونس خلال العقود الماضية. ومن استطاع أن يعرف السبب الذي جعل الطبقات الشعبية تنتفض بهذه القوة، فعليه أن يعرف أنّه لم يعد من الممكن أن يتحقق حل شكلي تمويهي كما تريد المافيات، وأنّ الأمور ستندفع نحو تصاعد الصراع الطبقي، حتى وإن كان قد هدأ الآن. لهذا سيموت اليسار إذا وافق على لعبة المافيا المطروحة من خلال بيروقراطية السلطة القديمة، وبالتالي عليه أن يتبلور كبديل واضح، وأن يدفع الطبقات الشعبية لإكمال الانتفاضة لكي تنتصر حقاً.
* كاتب عربي