ماذا يقول المرء وهو يشاهد، على التلفزيون، الثورة الشعبية في تونس، تنفجر مع إحراق محمد البوعزيزي نفسه، قهراً من سلطة مصرّة، ليس فقط على الحكم بواسطة الحديد والنار، بل أيضاً على إبقائه تحت رحمة الفقر المدقع، و«تشليحه» بسطة خضار، لم يبقَ له غيرها يقتات به هو وعائلته، بعد نيله شهادة جامعية لم تمكّنه من دخول سوق العمل في بلده بسبب سياسة هذه السلطة نفسها؟أول ما تحرّكه متابعة هذه الثورة ومراحل تطوّرها، منذ اندلاعها العفوي في منطقة سيدي بو زيد، مسقط رأس محمد البوعزيزي، حتى تحوّلها إلى إعصار جرف معه ديكتاتور تونس وأدّى الى إدباره بالهرب مثله مثل شاه إيران، هو الشعور بالأمل. فبكل بساطة، أثبتت جماهير تونس أنّ الشعوب العربية ليست عَنوةً عن باقي شعوب الأرض في تطلّعها إلى الديموقراطية وإلى الخروج من الفقر ومن الكبت تحت حكم أنظمة مافيا بوليسية نهبت بلدانها، ولم تُبقِ فيها شيئاً. وقد تحوّلت هذه الثورة إلى «حرب تموز» ثانية، من حيث إعطاؤها النموذج الناجح لباقي الشعوب العربية، في كنس أنظمة الفساد والاستبداد، تماماً كما أعطت حرب تموز الأولى، هذه الشعوب، النموذج الناجح في مواجهة إسرائيل.
وجاءت هذه الثورة الحقيقية، التي خرجت من أحياء الفقر في تونس، ردّاً عفوياً رائعاً على «الثورات» المزيّفة الخارجة من مكاتب «ساتشي أند ساتشي» الفخمة، ومبادرات «التدريب على الديموقراطية». مبادرات قائمة على عَلك مصطلحات «الحوكمة» و«حلّ النزاعات»، وما إلى هنالك من تعريفات، شُوّهت وصُدّرت الى العرب وأُدخلت الى منطقتهم برفقة الجيش الأميركي، وذلك من أجل تدجينهم بما يؤدّي الى قبولهم احتلال هذا الجيش المنطقة، وإعادة عصر الاستعمار المباشر إليها. وقد أثبتت هذه الثورة أيضاً، أنّ السياسات النيوليبرالية، القائمة على زيادة ثروة الأثرياء وفقر الفقراء، والمترافقة مع النهب المنظَّم الذي تمارسه العائلات الحاكمة في البلدان العربية، الجمهورية منها والملكية على حدّ سواء، لا بدّ أن تؤدي في النهاية إلى الانفجار، بالرغم من كل الأرقام الاقتصادية الزاهية التي يمكن أن تنجم عنها.
أما على المستوى الشخصي، فكيف يمكن المرء، وهو يتابع أخبار اعتقال أفراد من عائلة «الحلّاقة» الفاسدة، التي وصل بها البطر الى حدّ إعداد نفسها لخلافة الديكتاتور، ويشاهد الديكتاتور نفسه وهو يتذلّل للتونسيين ويقول لهم «فهمتكم» (كأنّ بطشه بهم لربع قرن كان بسبب سوء فهم) بعدما فقد الأمل بالبقاء بواسطة البطش والقتل، كيف يمكن المرء أن يرى ذلك كلّه من دون أن تدغدغه الأحلام بأن يفعل تأثير الدومينو فعله في طول هذا الوطن العربي وعرضه؟ ويتخيّل ثورات مماثلة لثورة شعب تونس، ويتخيّل طائرات تُقلّ حكّاماً ـــــ أنصاف آلهة ـــــ وتجول بهم بين عواصم، ترفضهم الواحدة تلو الأخرى، الى أن ينتهي بهم المطاف في ضيافة حكّام على شاكلتهم، لم يصل الدّور إليهم بعد.
وأخيراً، لا بدّ من توجيه التحية والتهنئة إلى الشعب التونسي على طرده للطاغية، والقول له إنّنا في غاية الشوق الى «النموذج الناجح» التالي ببناء نظام ديموقراطي حقيقي في تونس الحلوة، ليجعلها تونس القدوة.
* كاتب لبناني