منذ ستة عقود أو أكثر والعالم العربي لا يزال مسرحاً لأيديولوجيتين تتصارعان على الهيمنة الثقافية والسلطة السياسية: القومية والنزعة الإسلامية (الإسلاموية). وتتعارض كلتاهما، بالنسبة إلى كثير من المراقبين، مع القيَم الليبرالية. يسبغ هذا الفهم صدقيةً على أطروحة صموئيل هنتنغتون بأنّ «الحضارة» الإسلامية ـــــ أي المناطق من العالم ذات الأكثرية المسلمة ـــــ تقاوم تبنّي القيم الليبرالية الغربية.
لهذا، تأتي مجموعة المقالات المعنونة «القومية والفكر الليبرالي في الشرق العربي»، التي حررها الأستاذ الجامعي الألماني كريستوف شومن في كتاب واحد، لتسائل الفرضيات الأساسية لهذا التفسير. وتحاجج هذه المقالات بأنّ «القيم العالمية لا تقف عند الحدود الجغرافية إذا كانت حقاً عالمية»، وأنّ الليبرالية التي «تثير نقاشاً ساخناً في العالم العربي اليوم، لها أيضاً جذور تاريخية تعود إلى القرن التاسع عشر». كذلك تسأل هذه المقالات عن التعارض المفترض بين الليبرالية والقومية، عبر تركيزها على العلاقة بين الفكر القومي والفكر الليبرالي.
اشتهر المؤرخ ألبرت حوراني بإطلاق مفهوم «العصر الليبرالي» على الفترة الممتدة من عام 1798 (حملة نابوليون على مصر) إلى عام 1939 (اندلاع الحرب العالمية الثانية)، في عنوان كتابه المرجعي «Arabic Thought in the Liberal Age» ( ترجم الكتاب الى العربية بعنوان «الفكر العربي في عصر النهضة، 1798 ــ 1939»).
وبالرغم من أنّ المؤلف حوراني قد أطّر المقاربات الأكاديمية لعصر النهضة والفكر الليبرالي العربي على حد سواء، تشوبه، بحسب محرر الكتاب كريستوف شومن، نقطتا ضعف أساسيتان. الأولى هي أنّ السنوات التي اختارها حوراني للدلالة على بداية العصر الليبرالي ونهايته، تعوزها الدقة. فإذا كان من المؤكد أنّ حملة نابوليون العسكرية على مصر قد أطلقت شرارة النقاش حول «الإصلاح» في الامبراطورية العثمانية، فإنّ شومن يجد صعوبة في وصف هذا النقاش بـ«الليبرالي»، إلى أن «أصبحت الدستورية مسألة ذات صلة في ستينيات القرن التاسع عشر». من الجهة الأخرى، وخلافاً للكليشيهات الشائعة عن تعاطف عربي مع قوى «المحور»، يرى المحرر أنّ القيم الليبرالية بقيت مؤثرة في العالم العربي خلال الحرب العالمية الثانية، وصولاً الى خمسينيات القرن العشرين وستينياته. أما النقطة الثانية، فهي أنّ حوراني لا يقدم تعريفاً واضحاً لما يعني بالليبرالية والقضية الإشكالية الأساسية بين الليبرالية والتراث الاسلامي. كذلك يساوي بين «الفكر الليبرالي» و«المؤسسات الديموقراطية»، بالرغم من أنّه «قد تمّ تداول الليبرالية والديموقراطية، بوصفهما تيارين فكريين متمايزين، في النظرية السياسية أو الفلسفة، منذ ألكسيس دي توكفيل».
حاول عدد من دارسي الشرق الأوسط معالجة إشكالية تعريف «الليبرالية» العربية أو الإسلامية بعد ألبرت حوراني، إلا أنّه ليس من مفهوم مقنع حتى اليوم. ذلك أنّ الخطأ المشترك بين هؤلاء، بحسب شومن، كان إقامة التضاد بين جواهر ثابتة ـــــ في أكثر الأحيان ـــــ بين «الإسلام» و«الليبرالية». من هنا، فإنّ هذا الكتاب يحاول الشروع في مقاربة جديدة للفكر الليبرالي في العالم العربي عبر التبنّي الحذر للمصطلحات السياسية الغربية. لهذا السبب، وعوضاً عن استعمال مصطلح «ليبرالية»، بما تعنيه من فلسفة أو نظرة ثابتة للعالم، ارتأى المساهمون في مقالات «القومية والفكر الليبرالي في الشرق العربي» استعمال مفهوم «الفكر الليبرالي» للتشديد على تعدد الأفكار والمطالب الليبرالية. أي إنّ المساهمين، انطلقوا من مفهوم أكثر انفتاحاً ودلالة للفكر الليبرالي، يشدد على الأفكار والمطالب السياسية الملموسة، أكثر من تبريراتها الفعلية.
في تقديمه للجزء الأول من الكتاب المعنون «القومية والفكر الليبرالي»، يخالف شومن الأبحاث الغربية، التي ترى أنّ الأيديولوجيا القومية المسيطرة في الشرق العربي خلال النصف الأول من القرن العشرين، تمثل تناقضاً أساسياً للقيم الليبرالية. فبحسب المحرر، كانت الأفكار الليبرالية، خلال العقود الأولى من القرن العشرين، جزءاً طبيعياً من الخطابات القومية الداعية إلى الاستقلال عن الاستعمار وبناء الدولة المستقبلية، استناداً الى نموذج الديموقراطيات الليبرالية الأوروبية. غير أنّ الأفكار الليبرالية، عرفت منافسة متزايدة من المفاهيم السلطوية، خلال فترة صعود التيار القومي الراديكالي في الثلاثينيات والأربعينيات، ودعوته الى الوحدة العربية والتغيير الاجتماعي. ينظر الباحث الأميركي، بيتر فيين، الى العراق خلال هذه الفترة، ويحلل هذا الصراع القيمي، مستنداً الى نقاش عام حول أهداف التربية. في تلك الفترة، كانت مفاهيم الأمة والقومية محط نقاش ساخن في الحيز العام العراقي. فمن جهة، كانت «جماعة الأهالي»، التي تألفت من نخبة من مثقفي العراق الوطنيين، قد تحلّقت حول صحيفة «الأهالي» ودعت الى مفهوم قُطري للمواطنة يخفّف من أثر الاختلافات الإثنية والطائفية. وفي الجهة الآخرى من المشهد، وقف «نادي المثنى»، الذي كان بمثابة منتدى لشباب عراقيين متعلمين وذوي ميول قومية عربية. وبالرغم من أنّ «نادي المثنى»، غالباً ما وصف بأنّه مؤيد للفاشية، يشدّد فيين على أنّ النقاشات في النادي كانت أكثر جدالية، وأظهرت تنوعاً أكبر في الآراء مما هو مفترض، على نحو واسع. وهو يبيّن هذا الاتساع في الآراء ضمن المعسكر القومي عبر تحليله لخطابين ـــــ ألقيا عقب سقوط فرنسا في 1940 ـــــ لاثنين من روّاد الإصلاح التربوي العراقي، هما ساطع الحصري وفاضل الجمالي.
شغل الحصري منصب المدير العام للتربية في العراق، خلال معظم العشرينيات، في فترة حكم الملك فيصل الأول. إلا أنّ دوره منظّراً قومياً عربياً طغى على دوره مربياً، وتمحورت المناهج التربوية التي وضعها حول التاريخ واللغة العربية، لترقية الشعور بالفخر القومي إزاء الأعمال البطولية للأسلاف العرب. ولم يغيّر الشيعي فاضل الجمالي، الذي خلف الحصري في بداية الثلاثينيات، الخطوط القومية الأساسية لمناهج الحصري، بالرغم من أنّه كان متأثراً بالنظريات الأميركية الحديثة في التربية (حصل على دكتوراه في التربية من جامعة كولومبيا في نيويورك، حيث درس بين 1929 و1932).
وبالرغم من أنّ الحصري والجمالي «اختلفا جوهرياً حول المبادئ التربوية»، إلا أنّهما، وفق فيين، «تشاركا الاقتناعات القومية العربية». الموقف الجمالي ذلك، قرّبه من دوائر الانتيليجنسيا الشابة في الدولة العراقية، أو ما يسمّى «الشباب الأفندية»، الذين عارضوا النظام القائم في الثلاثينيات، ودعوا إلى تغيير بنية الدولة الموروثة انطلاقاً من «صراع أجيال» مع النخب القديمة. ويشير فيين الى أنّ الجمالي قُدّم في الأدبيات على أنه واحد من روّاد النزعة القومية العربية المتطرفة في أواخر الثلاثينيات، وداعم للنزعات المؤيدة لألمانيا النازية خلال حكومة رشيد عالي الكيلاني، التي شغل فيها منصب المدير العام للتعليم الرسمي. واستمر الجمالي في الوظيفة الرسمية حتى بعد سقوط حركة الكيلاني، على الأرجح بسبب علاقته الوثيقة بنوري السعيد. بناءً على هذه الخلفية، يصف فيين الجمالي بأنّه «كان عضواً في نخبة الدولة المحافظة ومحدّثاً في التربية والإدارة في آن معاً».
في أواخر 1940، ألقى الحصري خطاباً في «نادي المثنى»، تناول فيه «تحليل انهيار فرنسا»، وعبّر فيه عن ميوله الشمولية الواضحة. رأى الحصري أنّ سقوط فرنسا أمام ألمانيا، سببه تعدّد الطروحات والأحزاب التي توجّه الفرنسيين، على عكس ألمانيا، التي دخلت الحرب بثقة تامة، موحدةً وراء قائد واحد وهدف واحد. وبلغ الحصري حدّ القول إنّ فرنسا وصلت إلى الكارثة، لأنّها تخلّت عن التضامن الجماعي واعتنقت الفردية، مشدداً على أنّ الفشل الفرنسي يجب أن يكون درساً لجميع الشباب العرب. فالمصلحة القومي تتطلب أحياناً التضحية بالحياة، وفي بعض الظروف، تتطلب الأمة أيضاً التضحية بالحرية. وختم محذّراً بأنّ أولئك غير المستعدين للتضحية بالحرية الشخصية لأجل الحرية القومية، سوف يخسرون الاثنين معاً، إذ إنّ الذين لا يريدون إذابة أرواحهم في أمتهم، سوف تبتلعهم أمة أجنبية قد تهزم أمّتهم يوماً ما. إذاً، بالنسبة إلى الحصري، كان النهوض القومي أكثر أهمية من الحرية الشخصية. وفي هذا، يرى فيين أنّ «ميوله (أي الحصري) الشمولية كانت ذات طابع دفاعي: لصد الامبريالية وانحلال الأمّة».
بعد بضعة أسابيع، ألقى الجمالي خطاباً (على الأرجح في «نادي المثنى» أيضاً) حول «دروس الحرب الحاضرة»، اتخذ فيه موقفاً مناهضاً للشمولية. ردّ الجمالي، ضمناً، على رفض الحصري للفردية، متسائلاً عما إذا كان معنى الحرية هو السماح لكلّ فرد السعي وراء مصالحه، بغضّ النظر عن المصلحة العامة. وسأل: «إلى أيّ حدّ يمكن الدولة التدخّل في الحرية الشخصية للأفراد، وإهمال حيواتهم ومصالحهم؟».
وجد الجمالي أجوبة عن هذه الأسئلة، في النزعة المثالية، التي لا ينتمي إليها أيّ من المتحاربين. فالسياسة الغربية، برأيه، قد أغفلت قيمتين روحيتين أبديتين: الخير والعدل. وهما قيمتان، على الفرد المكافح أن يأخذهما في الحسبان في حياته، لأنّ المنافع المادية ليست هدفاً بذاتها. وبالتالي، فإنّ الجمالي، بخلاف الحصري، وضع بعض القيم في مرتبة أعلى من الأمّة.
لكنّ الجمالي، في تناوله لموضوع التربية، طرح نقاطاً قريبة من مطالب الحصري، فأكّد على دور التربية الحديثة في دعم الوحدة الوطنية وإنتاج قيادة قوية، تتّسم بالتفكير الواسع وبُعد النظر، وتقود الأمّة الى التقدم والنصر. مثال القيادة عند الجمالي لم يكن في شخصية واحدة متفوّقة، بل في قيادة النخبة الكفية. وهي قيادة يجب أن تعترف بقيمة الشخصية والمزايا الفردية. ورأى أن ليس للفردية أي تأثير يضر بالتقدم الوطني، بل إنّ واجب المجتمع إتاحة المجال أمام الفرد لكي ينمّي قدراته، للاستفادة منها فيما بعد.
يحاول فيين في مقاله تبيان أنّه لا يكفي القول بأنّ «الميل العام للمجتمعات العربية، خلال فترة ما بين الحربين، كان مؤيداً للسلطوية»، محاججاً بأنّ النقاش حول التربية يؤكد الحاجة الى مقاربة أكثر تمييزاً للوصول إلى تقويم منصف لتعقيدات النقاشات الفكرية والسياسية للنخب العراقية، في تلك الفترة. ذلك أنّ الفرد نفسه يمكن أن يحمل آراء ومواقف متعددة، كما يبيّن بوضوح الجدال حول التربية، بين الحصري والجمالي.
لكنّ النقاشات بقيت في المجال النظري، في إطار النظام شبه ـــــ البرلماني العراقي، والزبائنية التي استمرت كما هي، في ظلّ الحكم العسكري غير الرسمي، بعد 1936. ومهما يكن من أمر، فإنّ «الليبراليين»، من أي لون كانوا، «لم يحظوا بالفرصة للعمل على التزاماتهم»، كما يختم فيين.
في تقديمه للجزء الثاني من الكتاب بعنوان «المثقفون العرب والفكر الليبرالي»، يرى شومن أنّ وصف عدد من المثقفين العرب ـــــ والكثير منهم مسيحيون ـــــ ابتداءً من القرن التاسع عشر بـ«المتغرّبين»، هو تبيسط كبير وفادح، وذلك لسببين. أولاً، كان الإصلاحيون، المسلمون والمسيحيون على حدّ سواء، يحاولون ربط الصفات العالمية لما عدّوه حديثاً، مع «مفهوم خاص للهوية» ـــــ أكانت «عربية»، «مسلمة»، أم «شرقية». وعليه، يؤكد المحرر أنّ المعنى الفكري المشترك للفترة الزمنية تحت الدراسة في الكتاب، لم يكن «التغرّب» ضد رفض «التغرّب»، بل «المزيج الإشكالي بين مفهوم عالمي للحداثة ومفهوم خاص للهوية». ثانياً، ليس هناك تقليد فكري كامل متكامل في الغرب، بل تنوّع في التقاليد، ما يعني أنّ «أي اقتباس للفكر الغربي في الشرق الأوسط قد ترافق مع السؤال حول ما يختار وما يرفض».
في هذا الجزء، يبرز على وجه الخصوص مقال لألكسندر فلوريس، يتناول فيه «التناقضات في كتابات فرح أنطون». من كان فرح أنطون (1874 ــ 1922)؟ هل فعلاً كان مثقفاً عربياً، مقلّداً للغرب، تعوزه الأفكارالمجدّدة، وبالتالي شخصية ثانوية في تاريخ الفكر العربي، كما تراه العديد من الأدبيات؟ يتحدى فلوريس هذه النظرة في مقاله، واصفاً أنطون بمفكر ذي أهمية كبرى، لأنّه «في زمن كانت فيه العلاقة مع أوروبا هي السؤال المركزي بالنسبة إلى الشرق الأوسط، لم يتخذ أنطون موقفاً واضحاً فحسب، بل ساهم أيضاً، وبقوة، في نقاش المسألة».
وُلد فرح أنطون لعائلة مسيحية أرثوذكسية، في مدينة طرابلس، التي كانت جزءاً من سوريا العثمانية، في ذلك الوقت. بعد إنهائه التعليم المدرسي، عمل لفترة مدرساً في طرابلس، ثم غادرها في 1897 الى مصر، بهدف أن يصبح صحافياً. بعد فترة من العمل الصحافي في الإسكندرية، أسس أنطون مجلته الخاصة، «الجامعة العثمانية»، في 1899، بالرغم من أنّه ما لبث أن أسقط كلمة «العثمانية» من العنوان. في 1905، غادر أنطون الى نيويورك، حيث مكث لأربع سنوات واستمر في إصدار «الجامعة».
في 1909، عاد الى القاهرة، حيث عاش بقية حياته. وبالرغم من أنّ «الجامعة» كانت قد توقفت عن الصدور، استمر أنطون بالعمل صحافياً وكاتباً مسرحياً.
أعجب أنطون بالثورة الفرنسية، بفكرة الاشتراكية، وبكتابات الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه. لكنّه كان أيضاً يعي تماماً الهيمنة الثقافية والسيطرة السياسية الأوروبية. ورأى في الإصلاحات العميقة، وسيلة لا بد منها لدرء هذا الخطر. وكان اعتقاده أنّ العلمانية، بمعنى الفصل الواضح بين الأمور الدينية وتلك الدنيوية، يجب أن تكون حجر الزاوية لهذه الإصلاحات.
يرى فلوريس أنّ كتابات فرح أنطون هي تعبير واضح عن الموقف المتباين من الغرب، الذي اعتمده كثيرون في الشرق العربي، والمبنيّ على «علاقة جدلية من الانجذاب والرفض». اعترف أنطون بالأذى الذي تسببه السيطرة السياسية والاقتصادية الأوروبية على الشرق العربي. لكنّه أراد التعلّم من أوروبا، درء تأثيراتها السلبية، والإفادة من إنجازاتها ـــــ المبادئ الحديثة مثل العلمانية، الديموقراطية، وحقوق الإنسان ـــــ التي رأى أنّها ذات صفة عالمية بالرغم من أصولها الغربية.
وما يميّز أنطون عن معاصريه من المثقفين العرب «المتغرّبين»، بحسب فلوريس، هو أنّه لم ير «الوجه المزدوج» لأوروبا فحسب، بل فهم أيضاً الجوانب المتعدّدة للحداثة: أولاً، التحديث المادي؛ ثانياً، الحداثة الفكرية أو الاستعمال الشامل لطرق التفكير العقلانية؛ وثالثاً، القبول بدليل «غربي عالمي» إنساني للقيم.
وقد شدد أنطون على الأهمية الخاصة للجانب الأخير، أي اللمسة الإنسانية للحداثة، و«التي غالباً ما يجري تجنّبها في التلقّي الانتقائي للحداثة في المجتمعات غير الغربية»، بحسب تعبير فلوريس. فقد كان أنطون في العمق رومنطيقياً، من دعاة النزعة التنويرية الإنسانية في التراث الفكري الأوروبي، والرمز الأبرز بالنسبة إليه كان الثورة الفرنسية. لكنّه لم يدع إلى حداثة كليّة، وبقي حذراً على الأخص من جوانبها المادية القاسية. لذلك، نجد أنطون مراوحاً بين مواقف مختلفة، وحتى أحياناً متناقضة.
فهو من جهة، رأى حاجة الشرق العربي إلى التفاعل مع الحداثة، حتى في جوانبها الأكثر فظاظة، أو «وجوب محاربة أوروبا بأسلحتها»، وفق فلوريس. ومن جهة أخرى، كان واعياً بأنّ الشرق قد يخسر براءته وروحانيته، خلال هذه العملية. هذه المعضلة تفسّر التوتر الذي يمكن ملاحظته في العديد من المواضيع التي تناولها أنطون. لكن مع هذا، لا نبالغ في القول إنّ فرح أنطون كان رائداً كمثال للمثقف العربي النقدي الحديث.
تقويم أنطون النقدي للدور الأوروبي (أو الغربي) في العالم العربي، ودعوته إلى الجمع بين تحقيق الديموقراطية الوطنية ومقاومة الهيمنة والسيطرة الغربية، لم يكونا مقبولين على نحو واسع في زمنه، وهما بالتأكيد ليسا كذلك اليوم.
وقد تجلى ذلك، بنحو مأساوي، خلال الحرب على العراق في 2003، فانقسم الكثير من المثقفين العرب، بين ميل الى تبرير الغزو والاحتلال باسم التخلص من ديكتاتورية صدام حسين وتحقيق الديموقراطية، والميل إلى تبرير نظام صدام حسين أو التغطية على جرائمه بحجة تعرّضه لـ«الهجمة الامبريالية» الغربية، وباسم الاستقلال والسيادة الوطنيين. فمن يذكر الآن كتابات فرح أنطون؟
في المقال الأخير من الكتاب، يورد شومن عدداً من الأسباب لما يسميه «صمت الفكر الليبرالي في العالم العربي»، أهمها أنّ الظروف السياسية في العالم العربي اليوم، تحبط أيّ نقاش عام حول القيم الليبرالية. ذلك أنّ المثقفين، بحسب رأيه، «يترددون في تعريف أنفسهم «ليبراليين»، مخافة أن ينظر إليهم على أنهم مدافعون عن المصالح الغربية». من الصعب الموافقة على هذا التأكيد الإجمالي، وهو حتماً بحاجة الى مراجعة وإعادة نظر، خصوصاً في ضوء البروز اللافت، في العالم العربي اليوم، لعدد كبير من المثقفين الذين يصنفون أنفسهم «ليبراليين».
لكنّنا نتفق مع شومن على وجود «نزعة واضحة من الأسفل»، في الشرق الأوسط، «لمساءلة الأنظمة السلطوية، استناداً الى نهج ليبرالي في المجادلة: الحقوق الفردية، حكم القانون، التعددية السياسية، الشفافية في اتخاذ القرارت»، إلخ. ولعل الخطوة الأولى في ردّ الاعتبار للفكر الليبرالي في الشرق العربي، وإعادة ظهوره واضحاً ومفهوماً، هي ما يدعو إليه شومن في الختام: «على الباحثين استبدال مفاهيم جامدة مثل «القومية»، «الإسلاموية» و«الليبرالية» بمفاهيم أكثر انفتاحاً ودلالة، تسمح بإدراك التغيرات في الخطابات السياسية والتقاطعات المتبادلة فيما بينها».
* باحث لبناني