من الصعب التصديق أنّ التسوية عادت لتنهار بسبب بضعة مطالب مبالغ بها قدّمها الرئيس سعد الحريري في ورقة تنازلاته الشهيرة. فهذا النوع من المطالب كان يمكن التفاوض عليه بمساعدة الموفدين القطري والتركي ما دام الحريري، باعتراف المعارضة نفسها، قد قدّم في ورقته التنازل الأساسي المتعلّق بالمحكمة الدوليّة. لكنّ المعارضة ما برحت تردّد جملة غير مفهومة حقاً: «ما بعد القرار الظنّي هو غير ما قبله». وهي جملة غير مفهومة لأنّ الحريري، في كل الأحوال، لم يكن مطلوباً منه وقف آليّات عمل المحكمة، بل فكّ ارتباط لبنان بها ورفض أيّ اتّهام يطال حزب اللّه أو أيّاً من أفراده. وكان متوقَّعاً أن يربط الحريري موافقته على ذلك بصدور القرار الظنّي. فمن يدخل في أيّ مفاوضات، فعليه أن يبيع بالسعر الأعلى.من الصعب التصديق أيضاً أنّ التسوية عادت لتنهار بسبب إصرار العماد ميشال عون على مكافحة الفساد وكشف مصير المليارات الضائعة، فرغم أحقيّة بعض هذه المطالب، يعرف الجميع أنّ النوّاب الذين سيدلون بأصواتهم الأسبوع المقبل ينتمي بعضهم إلى كتل عريقة بممارسة الفساد، فضلاً عن أنّ صراعاً طاحناً أوجب تدخّل السفارة الأميركيّة، نشَبَ حول صوت نائب زحلة، ملك الكسّارات العائد إلى أحضان المعارضة.
الأرجح أنّ التسوية انهارت مرّة أخرى بسبب الخطيئة التي ارتكبها سعد الحريري في نيويورك، حيث عاد إلى لعبة قديمة وخطرة تقضي بالاستنجاد بالإدارة الأميركيّة في وجه الضغوط السوريّة. لكنّ ذلك لا يتيح ارتكاب خطيئة مقابلة من المعارضة، تقضي بالسير في مشروع تأليف حكومة من دون تيّار المستقبل الذي لا يزال يمثّل أكثريّة كبرى داخل طائفته. وهي خطيئة مضاعَفة لأنّ المعارضة، رغم كونها تضمّ قوى من طوائف مختلفة، فإنّ قيادتها معقودة لحزب اللّه، في منطقة بات الصراع السنّي ـــــ الشيعيّ يمثّل فيها خطراً داهماً. صحيح أنّ المعارضة حقّقت اختراقات مهمّة في الوسط السنّي، لكنّها اختراقات غير كافية لإطاحة تيّار المستقبل، فضلاً عن أنّ هذه الإطاحة قد تمحو مفاعيل كلّ تلك الاختراقات.
لا شكّ في أنّ تيّار المستقبل كان شريكاً في إقصاء المسيحيّين عن السلطة خلال الحقبة السوريّة. ولا شكّ في أنّ قوى 14 آذار لعبت لعبة إقصاء الشيعة عن السلطة خلال حقبة السيادة المزعومة. لقد دفع لبنان غالياً ثمن هذَيْن التهميشَيْن، والذهاب اليوم نحو حكومة 8 آذاريّة لن يحقّق سوى تعميق التشقّقات داخل النسيج الاجتماعي اللبناني.
عمر كرامي... حظّاً سعيداً. لكنّ الثالثة ليست دائماً ثابتة.