(إلى فرح)لم يكن الحدث عاديّاً. نحن العرب مُتهمون ومتهمات بالنوم على طريقة أهل الكهف. تحوّل العالم من حولنا وتجذّر الطغاة فوق صدورنا، جاثمين ـــ هم وعائلاتهم الفاسدة. عزّز الطاغية التونسي أمن نظامه البوليسي وتدرّج في أجهزة الجيش والأمن وتخرّج من كليّات قمع رفيعة في فرنسا والولايات المُتحدة (أصرّت الـ«واشنطن بوست» على أن تغفل دراسة بن علي وتدريبه في أميركا في إيراد سيرته العسكريّة). بن علي كان يُرَوّج له في الغرب دوماً، لإنشائه نظاماً بوليسيّاً حديديّاً يحظى برضى الغرب.

حتى مجلّة «الإيكونومست» الرصينة كانت ترفع من مرتبة تونس في تلك الإحصاءات القاسية التي تعتمدها وكالات التنمية الغربيّة والبنك الدولي (ومجلّة «الإيكونومست» أكّدت أنّ بن على لن يُخلَع، بعد اندلاع التظاهرات في تونس). ومؤسّسة «مو إبراهيم» التي تعنى برصد الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في القارّة الأفريقيّة، وضعت تونس في أعلى مرتبة بين كلّ الدول العربيّة وأسبغت عليها التصنيف الثامن في كل القارّة الأفريقيّة. رئيس «صندوق النقد الدولي» يخطب، مستعيناً بلغة الأرقام، حول ضرورة احتذاء المثل التونسي الفذّ. كريستوفر هتشنز، اليساري السابق، الذي حاول تشويه لوحة البطل خالد علوان في شارع الحمراء، كتب مديحاً في نظام بن علي قبل ثلاثة أعوام في مجلّة «فانيتي فير». (ويجب أن نذكر في هذا الصدد أنّ النائب مروان فارس كان يكتب أيضاً في الثناء على نظام الطغيان في تونس).
وقد أخذَ الغرب بالنسق التونسي من الديكتاتوريّة وأراد تعميمَه. والعطايا الأميركيّة (العسكريّة والاستخباريّة) للنظام الجائر كانت سخيّة، واستمرّت في عهد أوباما الذي ـــ على خطى أسلافه ـــ أشاد بحكم الطاغية. والإدارة الأميركيّة التزمت الصمت عندما اندلعت التظاهرات في تونس، لا بل إن المُتحدّث باسم وزارة الخارجيّة ندّد بالمتظاهرين وقال: «نحن قلقون إزاء أعمال المتظاهرين. هؤلاء الذين لا يضمرون نيات سلميّة»، ثم صمتت الحكومة الأميركيّة بانتظار جلاء الوضع. سننتظر سنوات (أو أقلّ، بفضل ويكيليكس وكرمى الخيّاط) لنقرأ عن مداولات رسميّة أميركيّة تضمّنت الإيعاز للحكومة التونسيّة بقمع الانتفاضة بالقوّة وتسليم السلطة للجيش أو لقوى استخباريّة (وهناك شهادة لضابط تونسي نشرتها صحيفة «المصري اليوم» يؤكّد فيها أنّ رئيس أركان الجيش التونسي (المُقال) رشيد عمّار تلقّى أوامر من الحكومة الأميركيّة بـ«أخذ زمام الأمور»). لكن الحكومة الأميركيّة انتظرت رحيل بن علي ـــ أي أنها تيقّنت من فشل الطاغية في الحفاظ على عرشه ـــ ليصدرَ البيت الأبيض بياناً لطيفاً عن احترام إرادة الشعب التونسي. أين كان هذا الاحترام في سنوات التحالف مع نظام بن علي؟ ولماذا لا تعترف أميركا بمسؤوليّتها في استمرار نظام بن علي (مثلما هي مسؤولة عن فرض حكم سلالة الحريري في لبنان)؟
وكان تأقلم الإعلام العربي (السعودي والحريري) مع الأحداث في تونس مُضحكاً، أو مُؤلماً في آن واحد. كان هذا الإعلام يُروّج بقوّة لحكم بن علي ويتبنّى حملاته الانتخابيّة كواحد من أهل «الطرابلسيّة» ـــ على قول التوانسة. مجلّة «الشراع» وجريدتا «الشرق الأوسط» و«المستقبل» تخصّصت في مديح بن علي. نشرة آل الحريري كانت تفرد مساحات واسعة في صفحاتها غير المقروءة لمديح بن علي، لا بل هي استمرّت في مديحه بعد خلعه، إذ إن واحداً من تلاميذ فارس خشّان في الإعلام هناك كتب: «إنّ زين العابدين بن عليّ يبقى ديموقراطياً ليبرالياً وجمهورياً دستورياً وحضارياً حداثياً» («المستقبل»، 19 يناير 2011). وشيخ الليبراليّين العرب، العفيف الأخضر، لم يفوّت مناسبة للترويج لطغيان بن علي ولاقتفاء أثره عربيّاً. أما الصحافي اللبناني خير الله خير الله (وهو واحد من وفرة من الصحافيّين المُتخصّصين في التملّق لآل سعود وآل الحريري) فقد كتب في 15 تشرين الثاني 2010 في جريدة «المستقبل» أنّ بن علي نقل تونس إلى «عالم آخر» من الحضارة والرقيّ. ويضيف خير الله هذا ـــ وهو صحافي، يا محسنين ومحسنات ـــ «تكمن أهميّة التجربة التونسيّة في الاستمراريّة». هذا ما قاله عن ديمومة الطغيان. خير الله هذا كتب بعد يوميْن فقط من رحيل الطاغية بن علي عن أرض تونس (في 16 كانون الثاني 2011 في جريدة «المستقبل» نفسها) أنّ ما حدث في تونس كان بسبب فرديّة بن علي وغروره وابتعاده عن الناس وتغاضيه عن الفساد. شهران فقط يفصلان بين المقالتيْن المُتناقضتيْن للكاتب نفسه، لكن ماذا تقول في هؤلاء الذين يشتمون الشيخ أو الأمير، ويمدحون الشيخ والأمير؟ ماذا تقول في مَن أجّر مساحة عقله ووجدانه لأمير أو شيخ نفطي؟ ماذا تقول في هؤلاء اللبنانيّين واللبنانيّات الذين واللواتي تنقّلوا برشاقة بين القوميّة واليساريّة والنظريّة «الجماهريّة» والصداميّة قبل أن يهبطوا في مربض الأمير السعودي؟
والإعلام السعودي كان مُرتبِكاً، لكن من يلومه (أو تلومه)؟ النظام العربي الرسمي الخاضع للمشيئة الأميركيّة الحديديّة يعتمد على تعاضد وتراصّ بين حلفاء أميركا الخانعين. مُراسل محطة «العربيّة» يتحمّل مسؤوليّة جمّة في المشاركة في قمع الشعب التونسي لأنّه كان يؤيّد كلّ ما قاله الطاغية التونسي، لا بل إنّه زعم أنّ التظاهرات في تونس كانت من أجل التعبير عن التأييد لبن علي بعدما ألقى خطابه الأخير. كان هذا المراسل الوقح يتعامل مع المتظاهرين على أساس أنّهم مجرمون وأوغاد ومشاغبون. عبد الرحمن الراشد (مدير محطة «العربيّة» المُدارة من قبل الأمير عزّوز ـــ لماذا لم تنشر الصحف اللبنانيّة صور الحريري والسنيورة مع سيّدهما الأمير مقرن في عرس الأخير؟) كتب أنّ درس تونس هو أنّ الأنظمة الأفضل في العالم العربي هي الممالك والإمارات النفطيّة. خَلَفَه في رئاسة تحرير جريدة الأمير سلمان وأولاده، «الشرق الأوسط»، كتب مُشكّكاً بجدوى الانتفاضة على الطاغية التونسي. وعندما طار بن علي من تونس، تمنّى الإعلام السعودي لو أنّ الطائرة تحطّ في قطر من أجل إحراجها وإحراج «الجزيرة»، حتى إنّ محطة «العربيّة» زعمت مباشرةً على الهواء أنّ الطائرة مُتوجّهة نحو قطر. لكنّها حطّت في جدّة. هنا، سارعت أبواق آل سعود إلى إصدار التبريرات التافهة. جمال خاشقجي (الذي قاتل مع بن لادن قبل أن يصبح وهابيّاً ـــ سلفيّاً ـــ ليبراليّاً) اختلق كذبة أنّ بن علي هو سجين في السعوديّة. أي أنّ بن علي طار إلى جدّة طامعاً بالسجن، مع أنّ مطبوعات سعوديّة أوضحت أنّه وصل إلى قصر الضيوف في قافلة ملكيّة. جريدة الأمير سلمان وأولاده عزت استضافة بن علي إلى تاريخ طويل من «كرم» آل سعود و«ضيافتهم». صحيح أنّ آل سعود استضافوا عدداً لا يُستهان به من الطغاة في تاريخهم المشؤوم، بدءاً من حليف النازيّة، رشيد عالي الكيلاني إلى الشيشكلي (قد يكون الأخير أوّل طاغية عربي يقع ضحيّة لانتفاضة شعبيّة) إلى عيدي أمين وجعفر النميري والسلالات العربيّة البائدة. أما جهاد الخازن، فكتب أنّه لم يكن يحبّ بن علي، إلا أنّه لم يصرّح بذلك إلا بعد رحيله عن السلطة. هي الشجاعة الأخلاقيّة عند دعاة آل سعود بيننا.
لكن الطريف في ردّة فعل النظام العربي الرسمي كانت في ما يُسمّى «الليبراليّة العربيّة» ـــ أي هؤلاء الدعاة والدعائيّون الذين يعملون في إعلام أمراء آل سعود وآل الحريري وأولاد زايد. واحد من هؤلاء كتب في موقع «ناو حريري» ـــ وهو يساري من يساريّي عائلة الحريري ـــ مُوبّخاً كل من هزج لانتفاضة تونس من فريق «الممانعة»، لأنّ النظام التونسي يشبه النظام السوري. أفتى حضرته أنّ له ولأترابه من أبواق آل الحريري وآل سعود الحق في الهزج لأنّهم من أتباع الأنظمة الديموقراطيّة الحقّة في العالم العربي، مثل السعوديّة ومصر والمغرب والأردن وجمهوريّة رام الله الصهيونيّة. هؤلاء الذين رقصوا وهزجوا يوم اندلعت تظاهرات في إيران، صمتوا. هؤلاء الذين بأمر من أمراء آل سعود الصغار زعموا أنّهم ليبراليّون ـــ وإن كانوا يعنون بالليبراليّة الوهابيّة السعوديّة، مُلهمتهم، هؤلاء الذين يحجّون ويرقصون بذلّ في مهرجان الجنادريّة ـــ أُحرجوا لأن أولياء نعمتهم ونعمتهنّ في الرياض استضافوا الطاغية التونسي وأحسنوا لقياه.
ليس ما حدث في تونس ثورة ـــ لنُقلِع عن إطلاق أوصاف الثورة باستسهال شديد ـــ أو هي ليست ثورة بعد ـــ يتوقّف الأمر على المحصّلة النهائيّة لتحرّك الشعب التونسي، وخصوصاً أنّ من قرأ تفاصيل المداولات في المكتب البيضاوي في عهد كارتر عند اندلاع الثورة الإيرانيّة يمكن أن يتيّقن من أنّ التركيز ينصبّ على محاولة إنقاذ النظام، من دون بن علي. إجهاض التحرّك الشعبي التونسي قائم على قدم وساق في عواصم عربيّة وغربيّة. نستطيع أن نتأكّد أنّ بن علي لم يغادر البلاد إلا بعدما تلقّى خبر «التخلّي» الأميركي. وحكومة الغنوشي تلعب بالمصائر، مثل كل الحكومات الانتقاليّة في الحقبة الثوريّة. المماطلة والمراوغة سمة كلاسيكيّة للحكومة التي تعوّل عليها القوى الرجعيّة (الداخليّة والخارجيّة) للمحافظة على الرمق الأخير للنظام. وقد صرّح رئيس الأركان التونسي السابق بالمكنون، عندما تحدّث عن أوامر أميركيّة بسيطرة قطاعات في الجيش على الوضع. لن تتخلّى أميركا بسهولة عن نظام ديكتاتوري من الأنظمة الخانعة. لكن ردّة الفعل الأميركيّة فيها من النفاق ما فيها.
انتظر أوباما ـــ أين أصبح الابتهاج العربي (الغبيّ) بانتخابه؟ ـــ لحظة مغادرة بن علي للأرض التونسيّة كي يحيّي الشعب التونسي. هيلاري كلينتون كانت أكثر صفاقة: انتظرت للتأكّد من استحالة المحافظة على الديكتاتور العربي المُفضَّل، أو واحد من المُفضّلين ـــ لتتصل، وفق ما أفاد مكتبها الإعلامي (وهو غير المكتب الإعلامي لمصطفى علّوش) ـــ بوزير الخارجيّة التونسي (واحد من بقايا نظام بن علي) وتناشده احترام الحريّات. يتساءل المرء: لِمَ فاتها أن تتّصل بوزير الخارجيّة نفسه قبل سقوط النظام؟ وهل تتصل هي بوزراء خارجيّة دول مجلس التعاون الخليجي وتطالبهم باحترام الحريّات؟ ثم، فاتها أنّنا لاحظنا أنّ الناطق باسم الخارجيّة الأميركيّة دان المتظاهرين التوانسة. لا تتساهل أميركا في حياة طغاتها وديمومة أنظمتهم. لو قامت انتفاضة في السعوديّة مثلاً، من المؤكّد أنّ أميركا كانت سترسل قوّاتها للحفاظ على آل سعود (هناك وثائق أميركيّة رسميّة مُفرج عنها منذ عام 1973 تتضمّن خططاً عسكريّة للسيطرة على آبار النفط السعوديّة في حال تعرّضها للخطر ـــ نفط العرب وأرضهم للغرب).
لكن الشعب التونسي يتحلّى بحكمة ووعي لافتين. وزراء المُعارضة استقالوا بعد ساعات من تعيينهم، مع تشبّث البعض بمنصب هنا وهناك. ومشاهد الحرق الذاتي تنتقل من دولة عربيّة إلى أخرى (وكالعادة، تُسارع وسائل الإعلام الغربيّة لعزو ما يحدث إلى الإسلام. اتصلت بي مُراسلة للـ«سي. إن. إن.» هنا للتحدّث عن دور الإسلام في الحرق الذاتي، إلا أنني رفضت في إجابتي إقحام الإسلام في الموضوع وعارضت تغطية شبكتها). ويجب أن يدعو التحرّك في تونس إلى إعادة النظر في المنهج التحليلي المُتّبع في التعاطي مع السلوك السياسي والجماهيري للشعب العربي. كثرت المبالغة شرقاً وغرباً في دور الدين في العالم العربي، وآن الأوان لإعادة النظر في بعض الفرضيّات المنهجيّة (يمكن العودة إلى كتاب مكسيم رودنسون «الإسلام والرأسماليّة»، مثلاً). لم ينتظر البوعزيزي وغيره من الشبّان العرب الذين أحرقوا أنفسهم فتاوى أو إذناً من يوسف القرضاوي، فقيه محطة «الجزيرة». ولم تطلب عائلة البوعزيزي من القرضاوي غفراناً إلهيّاً بواسطته. رجال الدين دوماً يُقحمون أنفسهم في ما لا يعنيهم في منطقتنا، ومن كلّ الطوائف والمذاهب (وحده محمد علي الجوزو يجول ليدعو إلى التحابّ والوئام والوفاق بين الأديان والمذاهب ـــ داعي محبّة هو، وخصوصاً عندما أرشد «خليّة حمد» ـــ لمن يذكرها). لا يزال التحليل الاقتصادي والسياسي (غير الديني) صالحاً لتحليل ظواهر سياسيّة وفهمها، ولفهم ظواهر دينيّة أو طائفيّة وتحليلها أيضاً. الحركة التونسيّة هي أيضاً ثورة على وصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ودين الـ«نيو ـــ ليبراليّة» (تلك الوصفة التي آمن بها بوحشيّة السيئ الذكر، رفيق الحريري)، كما ذكر الرفيق فوّاز طرابلسي في «السفير».
عندما شرع الشاب محمد في إحراق نفسه، لم يكن يفعل ذلك ليحرّر نفسه ـــ من دون الغوص في حديث الحاضرة أو الآخرة. محمد البوعزيزي كان يحرق نفسه ليشعل ثورة بحالها، وليلهمَ أجيالاً من العرب الذين واللواتي عانوا من تصوير نمطي حول استكانتهم وخضوعهم. ثار البوعزيزي على كل الأنظمة العربيّة وعلى كل النظام العالمي وعلى جور نمط العلاقات الرأسماليّة، بعلمه أو بدون علمه. البوعزيزي مثال حيّ لقدرة التأثير الشعبيّ في لحظة غضب حاسمة. صحيح أنّ التاريخ، على ما آمن كارل ماركس، يسير بناءً على الصراع بين الطبقات، وصحيح أنّ التناقضات الاجتماعيّة هي الحاسمة في تقدّم التاريخ. لكن أفراداً يعجّلون أحياناً في تسريع تقدّم التاريخ وفي تأجيج صراع الطبقات وفي تغيير الأنظمة. لم يكن البوعزيزي يدرك أنّه يعطي دروساً وأنّه يقدّم عِظات بليغة. لم يكن يدري عندما واجه مُكرهاً الطاغية التونسي في سريره في المستشفى أنّه أقوى من الطاغية المدعوم شرقاً وغرباً. ولم يكن الطاغية بن علي ليتوقّع أن بائع رصيف يستطيع أن يحيلَ كل ترسانة الطاغية إلى تراب أو سراب.
الطغاة العرب سيتذكّرون البوعزيزي، وسيتذكّرونه جيّداً وإن كان حسني مبارك يحاول أن يتصنّع ارتياحاً في القمّة الاقتصاديّة في شرم الشيخ. لكن جريدته «الأهرام» (من يقرأها، ومن يقرأ صحف الأنظمة البالية مثل «النهار» في لبنان بعد؟) عَنونَت بخطّ عريض بما يلي يوم أُطيح بن علي في تونس: «11 ألف مسكن و2400 محل تجاري بالمجان للمواطنين: تطوير 37 منطقة عشوائيّة و212 عربة قطار جديدة مكيّفة». القذّافي، في ترّهاته وهذيانه عن الوضع في تونس، كان يتحدّث بالنيابة عن كل الطغاة العرب، دون استثناء، عندما قرّع الشعب التونسي كلّه. ليس ما حدث مقبولاً لديهم، وخصوصاً أنّ منطق الظلم العربي يعتمد على المنطق الساداتي في احتقار العامّة لأنّهم «دهماء» و«غوغاء» و«جهلة»، على ما نقرأ في إعلام آل الحريري وآل سعود. قامت محاولات لتقليد البوعزيزي في عدد من الدول العربيّة (في لبنان، لو عمد مواطن إلى إحراق نفسه، لقام إعلام الحريري وأقحم طائفة المواطن وحرّض طائفيّاً ومذهبيّاً على عائلته أو على طائفة لم ينتمِ إليها). شيخ الأزهر (الذي لا يتعدّى نفوذه حدود عائلة حسني مُبارك) عاجل إلى إصدار فتوى ضد الحرق (وإن كان الأزهر لم يُفْتِ ضد قتل الشعب الفلسطيني بعد، وضد حرق مخيّماته).
كان الشيوعيّون في العالم ينتظرون في مطلع القرن العشرين ثورة ماركس في بريطانيا أو ألمانيا، أي في تلك الدول التي تقدّمت في التطوّر الرأسمالي. لكن الثورة اندلعت في أكثر الدول الأوروبيّة تخلّفاً رأسماليّاً وصناعيّاً. وفي العالم العربي، كان النموذج التونسي يُقدّم في الغرب على أنّه المثال الذي يجب على كل العالم العربي احتذاؤه. حلّ الطاغية بن علي لهم مشاكلهم في الغرب: إدارة كلينتون كانت دوماً تسبغ المديح على «مساعي بن علي وجهوده» في التوصّل إلى «سلام» بين العرب وإسرائيل: وهذا يُترجَم بشكره على خدماته للموساد في الغالب على أرض تونس، وهي التي كانت مُستقرّة فيها لاغتيال المناضلين الفلسطينيّين. ما كان يمكن أن تقوم قوّات إرهابيّة إسرائيليّة باغتيال قادة المقاومة دون تواطؤ من نظام بن علي، كما كان النظام اللبناني قبل الحرب الأهليّة مُتواطئاً مع إسرائيل (أما في حقبة ما بعد الطائف، حين تبنّى الجيش «عقيدة وطنيّة» مُعادية لإسرائيل، فقد وصل عميل إسرائيلي إلى ثالث أعلى موقع في الجيش اللبناني، أي نائب رئيس الأركان). وكان ظلم بن علي ضدّ ما سمّاه «الزيّ الطائفي» للنساء أو ضد من ارتاد المساجد رائعاً لكل العنصريّين من معادي الإسلام ـــ كدين ـــ في الغرب. بن علي هو رسول الرجل الأبيض بين الطغاة العرب. رحل بن علي وتضعضع نظامه ـــ وإن لم يسقط بعد ـــ وتطلّع نحو تونس الملايين من العرب. كم يحسدون إخوتهم وأخواتهم هناك. كم يتوقون الى التغيير الحقيقي، لا على طريقة الطاغية الأردني في إبدال رئيس وزرائه بآخر. لكنّهم اكتشفوا أنّ إسقاط الأنظمة أسهل بكثير مما يظنّون: لقد حصّنت أنظمة الطغاة العرب نفسها ضد الانقلابات العسكريّة (وهي شكّلت وسيلة التغيير التقليديّة في المنطقة)، لكنّها لم تحصّن نفسها ـــ ولا يمكنها أن تحصّن نفسها ـــ ضد شعوبها، إذا ثارت، بسب احتقارها الشديد لها. إنّ السهولة النسبيّة في إسقاط الأنظمة العربيّة تعود إلى غياب قطاعات وقواعد شعبيّة (حقيقيّة) لها كما هو الوضع في النظام التسلّطي الإيراني، مثلاً. صحيح أنّ أنظمة الطغاة العرب تحظى بتأييد فئة أصحاب المليارات والأبواق والمُنتفعين، لكن هؤلاء لا ينزلون إلى الشارع للدفاع عن النظام. لن يهرع أصحاب المليارات من رفاق جمال مبارك إلى الشارع لإنقاذ نظام أبيه. هؤلاء يهربون إلى أقرب سفارة، أو يلجأون إلى جدّة.
اشتعلت مع البوعزيزي حماسة العرب على «تويتر» وعلى «فايسبوك» وفي بعض الشوارع العربيّة الصامتة. الأنظمة العربيّة لاحظت ما يجري. بعضها أعلن سخاءً مُفاجئاً (مثل أمير الكويت) وبعضها الآخر (مثل الملك السعودي) دعا مواطنيه ـــ مواطناته عورات، هذا الأخير ـــ إلى الصبر الجميل ووعد بتحسين الفرص. طال صبر الشعب العربي إلى درجة أنّ هناك في الغرب، من طلع بنظريّات استشراقيّة عنصريّة تغرق في الإيغال في تفسير عبارة «إن شاء الله». وذمّ الجماهير الصابرة على الظلم من قبل أفرادها ليس عيباً. البوعزيزي ذكّرنا بذلك مجتمعين ومجتمعات. لكن، لماذا يموت المُواطن حرقاً، فيما يقبع الطاغية في قصره غير مُشتعل؟
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)