مهما كانت النتائج التي ستفضي إليها الثورة التونسية، ومهما كانت المقدمات التي أطلقتها، فقد تدخلت بحسم في مسار تطوّر المنطقة العربية، لتضع حداً فاصلاً بين مرحلتين، بحيث يمكن الحديث عن المنطقة العربية قبل كانون الثاني/ يناير 2011 وبعده. مرحلة كان يجري فيها التغيير عبر الانقلابات والاغتيالات ومؤامرات القصر والتدخل الأجنبي، وأخرى يمكن أن تطيح فيها الجماهير السلطة، لكن المفارقة أنّ تلك المرحلة الجديدة في المنطقة بدأت من تونس، وكانت شرارتها ذات طابع اقتصادي واجتماعي بالأساس. الفقراء والعاطلون من العمل والمهمشون هم من حرّكوا الثورة التونسية. وتكمن المفارقة في أنّ تونس ليست الأسوأ في المنطقة، بل على عكس ذلك، كانت المؤشرات تشيد دائماً بالنجاح الذي حققته اقتصادياً. فتقرير التنافسية الاقتصادية العالمي وضع الاقتصاد التونسي في المرتبة الأولى أفريقياً والرابعة عربياً، والمرتبة الخامسة والثلاثين على المستوى الدولي، وهي مرتبة متقدمة بالنسبة إلى دول العالم الثالث. أما معدلات النمو، فكانت 4.1% و 5.3% و6.3% في السنوات من 2005 حتى 2007 على التوالي، ثم انخفضت بتأثير الأزمة العالمية إلى 4.6% ثم 3% في عامي 2008 و2009، لكنّها عاد إلى الصعود إلى 4% في 2010. وكانت التقديرات تشير إلى 5% في 2011، وهذه أيضاً معدلات نمو جيدة. ووصل متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2009 إلى 3865 دولار سنوياً، وإذا استبعدنا الدول النفطية في المنطقة فهذا المعدل أيضاً جيد. أما التضخم، وهو الدافع الأكبر للتوتر الاجتماعي، فقد كان يراوح من عام 2005 حتى 2010 بين 2% و5%. وكان 4.2% في 2010، أي أقل معدلات التضخم في المنطقة. أما الحد الأدنى للأجور، فهو 4489 دولار سنوياً، أي ضمن المستويات المرتفعة في الدول النامية، ولا يزيد على هذا المستوى سوى مستوى الدول الصناعية المتقدمة والدول النفطية.كان النموذج التونسي، وفق المعايير الاقتصادية الرأسمالية، نموذجاً ناجحاً، وحتى بعض المؤشرات الاجتماعية مثل التعليم والصحة كانت جيدة وأفضل من الدول المثيلة. انتفاضة فقراء تونس لم تكن ردّ فعل على فشل الرأسمالية بل بالعكس على نجاحها. فما كشفته الأحداث في تونس أنّ التنمية والتطور كانا من نصيب المناطق الساحلية، أما المناطق الداخلية، فقد عانت الإهمال والتهميش. يبدو هذا مشهداً متكرراً في الرأسماليات الناشئة، مناطق تتمتع بالخدمات والتنمية ومرتبطة عادة بموانئ التصدير أو السياحة، ومناطق مهمّشة وفقيرة. فشل الرأسمالية يعني أزمة اجتماعية شديدة، لكن نجاحها في دول العالم الثالث لا يعني حل تلك الأزمة.
لقد مثلت الرأسمالية الصاعدة، في مراحل سابقة، انتقالاً للمجتمع من مرحلة إلى مرحلة، وكان صعودها مرتبطاً بتطوير المجتمع على أصعدة عدّة، من الاقتصادي والاجتماعي إلى السياسي. فالرأسمالية الصاعدة هي التي واجهت الملكية وبَنَت الجمهورية، لكن «الرأسمالية الناشئة»، الساعية إلى الاندماج في السوق العالمي التنافسي، ليس أمامها سوى استخدام ميزاتها التنافسية إلى أقصى درجة، التي تتمثّل أصلاً في الأجور المنخفضة للعمال والاستبداد السياسي. يتيح ذلك للرأسمالية العمل بعيداً عن الرقابة، ويتيح أيضاً استفادة المقربين من السلطة السياسية من المزايا الاحتكارية والاستيلاء على الثروات بطرق مباشرة أو غير مباشرة. لا أمل في تحقيق تقدم حقيقي في ظل رأسماليات العالم الثالث، لا الناجحة منها ولا الفاشلة، ولا يمكن اعتبار بعض النماذج الاستثنائية، التي صعدت في ظل توازنات دولية خاصة، قاعدة. هذه هي رسالة ثورة الفقراء في تونس. ثورة بمجرد انفجارها انبرت الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي ومنظّروها إلى صياغة الحجج على أنّ ما جرى في تونس غير قابل للتكرار في المنطقة، وأنّ لهذا البلد ظروفه الخاصة. ذلك رغم أنّ كل ما في تونس متكرر بقوة وأكثر منه في باقي الدول العربية: تراكم الثروة وتراكم الفقر، الاستبداد السياسي والقمع، الفساد وسيطرة العائلات الحاكمة ومقرّبيها على الثروة والسلطة، والتبعية للغرب والقوى الاستعمارية. ما الذي يبقى لكي يصبح النموذج التونسي قابلاً للتكرار؟
الواقع أنّ الذعر الظاهر على الأنظمة، ومحاولتها تهدئة الجماهير عبر زيادة الدعم وخفض الأسعار وتخفيف القمع بعد اندلاع الثورة التونسية، هو ما يؤكد قابلية الثورة للتكرار. وفي كلّ الأحوال لم يتوقع أحد من المنظّرين، سواء الحكوميّون منهم أو حتى المعارضون، اندلاع ثورة في تونس أصلاً حتى يكون بإمكانه توقع مفاجآت أخرى قريبة. لكن يبقى السؤال الأهم الذي طرحته الثورة التونسية هو: أيّ نظام جديد يمكن أن تبنيه الثورة؟ إنّ البدائل التي تلح في تقديم نفسها في معظم الدول العربية هي البديل الليبرالي، الذي يطرح قضايا الحريات والديموقراطية دون المساس بالسياسات الاقتصادية إلا من زاوية تهذيبها، كمواجهة الفساد ومراعاة البعد الاجتماعي. وهي في حقيقة الأمر لا تمثل أيّ بديل للنظم القائمة. فالاستبداد والفساد هما في واقع الأمر ميزتان تنافسيتان للرأسمالية الضعيفة، لا يمكنها التخلي عنهما طواعية. والبديل الأكثر وضوحاً هو البديل الإسلامي، الذي لا تمثله أكبر القوى السياسية في المنطقة، لكنّه لا يحمل، اقتصادياً واجتماعياً، سوى مقولات أخلاقية مرنة تقبل أكثر من تفسير، كما أنّه يثير ريبة الجميع في ما يتعلق بقضايا الحريات، لكن الأهم أنّ الثورة التونسية أصلاً لم تخرج من عباءة القوى السياسية التقليدية، التي تقدم نموذجاً جاهزاً إلى الجماهير لتمشي وفقاً له. وفي الوقت التي كانت فيه القوى السياسية التونسية تؤلّف حكومة وحدة وطنية ـــــ انسحبت منها بعض القوى لاحقاً ـــــ كانت الجماهير تُنشئ لجاناً لتأمين الأحياء والمدن، تحوّل بعضها في ما بعد إلى لجان شعبية تقوم بمهمّات أخرى. ما يعني أنّ من قاموا بالثورة هم أنفسهم القادرون على بناء البديل للنظام القائم. وكما كانت ثورة الفقراء في تونس مفاجأة للجميع، فقد يكون البديل الذي يقدمونه أيضاً مفاجأة، رغم ظهور الكثير من الأيدي التي تريد جني ثمار الثورة.
لقد كان لوجود تنظيم نقابي قوي في تونس تأثير مهم في مسار الأحداث، رغم تردده في بدايتها. لكن استجابته لضغط الجماهير لاحقاً، ترك أثراً واضحاً في الأحداث. كما أنّ التحركات السابقة في الحوض المنجمي وغيرها، رغم القمع الذي واجهها به نظام الاستبداد، كانت بمثابة تدريب للجماهير، وكسر لحاجز الرهبة. وما يحدث من محاولات لبناء نقابات مستقلة وجماهيرية في دول أخرى في المنطقة، والنجاح الذي تحققه، يجعل احتمالات الثورة أكثر قرباً. كما أنّ النضال اليومي للعمال والمهمّشين وغيرهم، الذي يحلو للبعض تسميته «تنفيثاً» يمنع الانفجار، هو في حقيقته تعبئة وتقوية للحركة الجماهيرية ومقدمات لأحداث أكبر.
لقد أطاحت الجماهير الثائرة في تونس الديكتاتور لتقفز خطوة هائلة، رسمت بها الطريق أمام جماهير الفقراء في المنطقة. وتكافح اليوم الجماهير ذاتها ضد اختطاف ثورتها وتفريغها من مضمونها الثوري. ومهما كانت الاجتهادات بشأن المستقبل، فإنّ الجماهير التي فجّرت الثورة، أثبتت للجميع أنّ قدرتها تفوق التوقعات. وكما كانت الخطوة الأولى مفاجأة، فقد تكون الثانية أكثر مفاجأة، وربما تأتي الإجابة عن سؤال ما بعد إطاحة الديكتاتور من ثورة الشعب التونسي نفسها أو من ثورة شعب مجاور. الشيء الوحيد الذي أصبح مؤكداً أنّ ما سيحدث، في الفترة القادمة، لا يشبه ما ظل يحدث طوال نصف القرن الماضي.
* صحافي مصري