حين قال رئيس حكومة تصريف الأعمال، سعد الحريري، إنّ ما بعد الاستشارات النيابيّة ليس كما قبلها، لم يكن يمارس ولعه بترداد البديهيّات. الأرجح أنّه كان يقصد أنّ تيّار المستقبل ما بعد الاستشارات سيكون غير تيّار المستقبل ما قبلها. فالقادة حين «يُزرَكون» في الزاوية، يستدعون جيش الاحتياط. والاحتياط الحريريّ جاهز بعيداً من ساحة الشهداء وثورتها الملوّنة، وبعيداً من حملة الشهادات الذين تعلّموا بأموال رفيق الحريري، وبعيداً من الخبراء الذين زُرعوا في الإدارات ليسهروا على حسن سير مشروع «الإعمار» والنهب المنظّم. جيش الاحتياط جاهز في الأمكنة التي لم تُعِرها الحريريّة أيّ اهتمام، وسيتحرّك اليوم ليحظى بلفتة صغيرة أو بنظرة احترام واحدة من أصحاب البذلات الأنيقة. سيختفي نبيل دو فريج من الصورة قليلاً. وسيتصدّر الساحات خالد ضاهر. كلّ ذلك متوقّع. سبق أن عاينّاه جيّداً حين شعرت إحدى الطوائف الكبرى بأنّ ثمّة من يريد كسر قرارها. افترشت الجماهير الساحات. أدّت الصلاة على طريقتها في الهواء الطلق. أطلقت هتافات ضدّ زعماء من الطوائف الأخرى. وتماماً كما صرخ الأشدّ حماسة «الدم الشيعي عم يغلي غلي»، ستثبت الجماهير السنّية اليوم أنّ دمها هو الآخر يغلي. وقد بدأ فعلاً بالغليان منذ ليل أمس.
لا ينبغي لذلك أن يفاجئ أحداً. فالعصبيّات الطائفيّة حين يُطلَق لها العنان، تتشابه حتّى حدود المَلَل. فؤاد السنيورة نفسه، «رجل الدولة» كما يحبّ أن يروّج لصورته، أيّد ترشيح الحريري لاعتبارات طائفيّة. قالها من قصر بعبدا ثمّ اعتذر عن استخدام الكلمة. حاول استبدالها بـ«البيئة»، ثمّ «الأهل». لكنّه استسلم في النهاية، و«بقّ البحصة». حتّى «رجال الدولة» تخونهم ألسنتهم.
أمّا من عليه أن يبلع لسانه، فهو كلّ من تفوّه بالكلام العنصري ضدّ الذين نزلوا إلى الشوارع سابقاً، والذين أحرقوا الدواليب، والذين أقاموا الاعتصامات من أجل تحقيق مطالبهم. يومها، شُنَّت حملات دفاعاً عن «الوجه الحضاري» و«الاحتكام إلى المؤسّسات». ولم يتردّد أحد قادة 14 آذار في إتحافنا بأنّ جماهيره لا تشارك في تظاهرات لكونها جماهير حضاريّة.
سيخرج اليوم جيش الاحتياط إلى العلن. وستكون مشاعره أشدّ التهاباً. فبخلاف اعتصام وسط بيروت، سنكون أمام جماهير طائفةٍ تدافع عمّا تعدّه «كرامة» موقع طائفتها الأوّل. لكنّ مأساة سعد الحريري تكمن هنا: ماذا يبقى من الحريريّة إن استُبدِلت «سوليدير» بـ«مجزرة حلبا»؟