ترنّم ذات يوم منظّرو الاستعمار الفرنسي بمعادلة «جغراسياسية» واستراتيجية، حسبوها غايةَ الإعجاز والعبقرية. تقول المعادلة إنّ الجزائر تمثل القلب في عملية الصراع الضارية بين فرنسا والقوى التحررية في الخمسينات من القرن الماضي في شمال أفريقيا «المغرب العربي» وامتداده العربي، الذي كان قد شرع يتمرد على الهيمنة الغربية. وأعطوا أمثلة عملية على ذلك كما في ثورات مصر والعراق واليمن.
أما المغرب وتونس ـــــ وفق المعادلة الاستعمارية الفرنسية ـــــ فهما الجناحان اللذان بهما يرتفع هذا «القلب الفرنسي» ويحلّق! تبقى ليبيا خارج نطاق المعادلة. فوضعها خاص، إذ عُدّت آنذاك من مناطق نفوذ إيطاليا. إنّ مهمتنا ـــــ يضيف المنظرون الاستعماريون ـــــ كقوة مهيمنة ومستعمِرة، هي الإمساكُ بالقلب والسيطرة عليه بكلِّ الوسائل، لأنَّ اضطرابه وخروجه عن السيطرة سيؤديان إلى اضطراب الجناحين ثمَّ السقوط المدَمِّر للطائر ككلّ.
هذه المعادلة التي سادت طويلاً، وحَكَمَت الوضع العام في شمال أفريقيا العربي، عقوداً طويلة، اندثرت باندثار مرحلة الاستعمار المباشر، لكننا مع ذلك، نذَكِّر بها، لدواعي السياقات السياسية التحليلية الفاعِلة في الحاضر، وخصوصاً بعد ثورة الياسمين التونسية الجريئة، التي لم تحصد ثمار نصرها المرتجاة شعبياً حتى الآن. إنّها ثورة لا تزال تزمجر وتناور وتلعق جراحها كاللبوة المدافعة عن أشبالها وعرينها في مواجهة باسلة وسلمية مع محاولات الالتفاف والإجهاض والحَرْفِ والتَدْجِين التي تقوم بها ضباع وقوى النظام القديم والقوى الخارجية، وفي مقدمتها قوى الجوار العربي. ونعني تحديداً الأنظمة الشمولية الصِّرْفَة أو المكشوفة كأنظمة ليبيا ومصر وسوريا واليمن ودول الخليج، باستثناء الكويت، أو الأنظمة الشمولية التي تتلفعُ عباءةَ «التعددية السياسية الشكلية». ذلك ضمن ما اصطلح الأكاديميون الليبراليون عليه باسم الديموقراطية المسيطر عليها من فوق وبتنويعاتها الشتى: الديموقراطية الموَجَّهَة، والأخرى الخاضِعة، والثالثة الناشئة... إلخ (للمزيد يُراجَع كتاب «ديموقراطية من دون ديموقراطيين، مساهمة عزيز العظمة ص214 وآخرين). ومثالُ هذه الأنظمة نجدهُ في الجزائر والمغرب ولبنان والأردن والكويت والعراق المحتل.
بمراقبة ورصد حركة وردود أفعال حكومات المغرب والجزائر وليبيا، ودول عربية أبعد قليلاً عن مركز الزلزال التونسي، يمكن اشتقاق معادلة استراتيجية أخرى، شبيهة على الصعيد الشكلاني البحت، بالمعادلة الفرنسية العتيقة. ويمكن تلخيص هذه المعادلة الجديدة بالقول إنّ القلب اليوم هو تونس المنتصرة على النظام الشمولي لزين العابدين بن علي، وإنَّ الجناحين هما ليبيا بنظامها الشمولي العنيف والأسروي، والجزائر بنظامها التعددي شكلاً والمنخور بفساد مؤسسات الحكم والنخبة السياسية المشاركة في مهرجان التعددية الشكلية، إضافةً إلى هيمنة العسكر غير المباشرة على النظام ككل. المعنى العملي والنظري لما تقدّم يوجب على القوى الديموقراطية والثورية العربية أن تبدع معادلتها المقابلة للمعادلة الاستعمارية العتيقة، فترى أنّ تونس المنتفضة هي القلب، الذي ينبغي التمسك به وإنعاشه والدفاع عنه ليتمكن الجناحان الليبي والجزائري ومعهما المغربي من التحرك بمزيد من النشاط وإطاحة النظامين الشموليّين بذات الطريقة السلمية والمتحدية والمضحية. أمّا بخصوص ردود أفعال النظامين المذكورين، الجزائري والليبي، فثمة أمثلة عملية ووقائع كثيرة، تؤكد بالملموس أنّ أكثر الدول العربية خوفاً وذعراً من الثورة التونسية، هما نظاما بوتفليقة في الجزائر والقذافي في ليبيا. ولعل النظام الأكثر خوفاً واقتراباً من نار الديموقراطية الحقيقية والحريات العامة، هو نظام العقيد القذافي، الذي يكرر رأسه العتيق والفرداني بطريقة تثير الشفقة، ودون ملل أنّه ليس رئيساً ولا زعيماً وأنّ الشعب الليبي يحكم نفسه بنفسه (دعونا نتناسَ مؤقتاً، قصة حصول العقيد على لقب «ملك ملوك أفريقيا» وتفاخره به في أكثر من مناسبة، ولنتناسَ أيضاً أنّه وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري سنة 1969ولا يزال متشبّثاً بها بأظافره وأسنانه وأظافر وأسنان عشيرته وأهله الأقربين حتى الآن). فالقذافي خرج قبل أيام، علناً، وقبلَ أنْ تجفَّ دماء عشرات الشهداء التونسيين، الذين أرداهم رصاص قناصة نظام بن علي في قوات «النسور السود» و«فرقة الشرفاء»، ليهاجم ويهجو المنتفضين والشعب التونسي عموماً. ورثى، بكلمات مستفِزَّة، زميله المطرود والهارب ليلاً بحثاً عن ملاذٍ آمن الجنرال ـــــ أيضاً ـــــ بن علي. ولولا «شفقة» السعوديين المحسوبة مع شركاء «مصرفيين» آخرين على هذا الأخير، في مواجهة «نذالة» حكومة حليفه التقليدي ساركوزي، التي رفضت استقباله على أرض فرنسا «الأم الحنون» (التي لم تعد حنوناً كما يبدو)، لما وجد بن علي ملاذاً آخر بسهولة. بالمناسبة، سيتساءل البعض، لماذا لم يعرض العقيد القذافي على زميله بن علي أن يلجأ إليه بعد تلك الرحلة الجوية الطويلة والمُذِلَّة التي قام بها؟ نقول إذاً، إنّ القذافي رثى زميله الديكتاتور الهارب، وانتقد الانتفاضة والمنتفضين، ليدعوهم مِن ثم، قبل نهاية خطابه، إلى تطبيق كراسته المسماة «الكتاب الأخضر»، التي تنصُّ في إحدى موادها على «أنّ السكن لساكنه والمركوب لراكبه والبيت يخدمه أهله»!
لقد صرح أكثر من قيادي تونسي، في أحزاب المعارضة من قادة ثورة الياسمين، للتلفزيون الحكومي، بعد هروب رأس النظام، بأنّ هناك وقائع وأدلة كثيرة تؤكد أنّ أجهزة النظام الليبي الاستخبارية متورطة في الكثير من الأحداث على الأرض. تسهّل هذه الأجهزة لجوء مسؤولين في النظام المطاح، ومتورطين في أعمال القمع والفساد إلى أراضيها، بل إنّ هناك حالات رصد وتسلل يقوم بها عناصر من قوات القذافي على الحدود. أما حكومة بوتفليقة، فقد كان موقفها أكثر احتراساً وحذراً، وخصوصاً أنَّ الوضع الاجتماعي في ساحتها يغلي ويطلق حممَهُ بين الحين والآخر، وقائمة المنتحرين من الشباب العاطلين من العمل تطول وتطول، لكنّ استقرار الوضع في تونس وتماسكه، وانطلاق تجربة حكم ديموقراطية حقيقية وعملية تنمية تقدمية، لن يكونا بكلِّ يقين في مصلحة استقرار النظام في الجزائر ولا في المغرب ولا في أيّ بلد عربي آخر تابع للغرب أو متشدِّق باستقلال مزيف. يمكن أنْ نكون ـــــ ومعنا القارئ ـــــ قد بدأنا الآن نتلمّس ملامح المعادلة المغاربية الجديدة، التي تعني أنّ استقرار تونس الثورية الديموقراطية يعني عدم استقرار الجناحين في ليبيا والجزائر الشموليتين. أما المغرب، فرغم أنّ الوضع السياسي والاجتماعي فيه، مشابهٌ جداً للوضع في الأقطار المغاربية الثلاثة الأخرى، فإنَّ هناك خصوصيات تتعلق بالمَلكية الإدريسية القائمة، وكفاءة الأحزاب السياسية الليبرالية واليسارية المغربية، المشاركة في عملية التعددية الشكلية القائمة والمدرَّبة جيداً على احتواء أيّ تحرك اجتماعي جذري. هذا يعني أنّ نظامَيْ الجزائر وليبيا سيقومان بكل ما ينبغي لهما أن يقوما به لإجهاض أو تطويق أو التشويش على الثورة التونسية، وصولاً إلى إتاحة الفرصة لقوى الثورة المضادة الموجودة فعلاً في الساحة التونسية للعودة إلى الحكم.
وإذا ما علمنا أنَّ تونسَ بلدٌ محدود الإمكانات المادية، وخصوصاً في مجال الثروات النفطية والغازية والمعدنية الموجودة بكميات هائلة في جارتيها ليبيا والجزائر، وأنّ مصادر دخلها، وأهمها السياحة وتصدير المنتجات الزراعية والحيوانية، ستتأثر سلباً بسبب الأحداث الأخيرة، فسيكون أمام النظام الديموقراطي التونسي الجديد مصاعب جمة وحقيقية. ونحن إذْ لا نقلل من طاقات الشعب التونسي الخلاقة واستعداده العالي للتضحية والإبداع، فإننا ندرك أنَّ الموازنات والنتائج الأخيرة ستتأثر بالأرقام والحقائق على الأرض. بمعنى أنَّ الأنظمة الشموليّة في ليبيا والجزائر ودول عربية مذعورة أخرى، ستستغل نقاط الضعف القائمة في الوضع التونسي لتزيد من مصاعب النظام الديموقراطي التقدمي المأمول ومشاكله في تونس اليوم.
غير أنّ هذه لن تكون خاتمة المطاف، فهناك مؤثر حساس وغير مرئي، إذا جرى تفعيلُهُ وتنشيطُهَ فسيعطي نتائج مهمة قد تقلب الموازين لمصلحة الثورة الشعبية التونسية. هذا المؤثر هو العامل التضامني الشعبي العربي وغير العربي خارج تونس، لكن، لنسجل أولاً، أنّ ردود الفعل الشعبية العربية حتى الآن جاءت باهتة وعشوائية وعاطفية أكثر منها عقلانية ـــــ ربما باستثناء حالة الحراك الجماهيري المضبوط حكومياً في الأردن ومصر. واكتفت النخبُ السياسية العربية، المعارضة للأنظمة أو تلك التي على مسافة منها، بإصدار البيانات المكرَّرَة وإلقاء المحاضرات والنصائح الشتى لأساتذة «يعرفون كل شيء عن كل شيء»، وسبق لهم أن توقعوا وتنبّأوا واستشرفوا ـــــ كما يكرّرون بملل ـــــ أن يحدث ما حدث قبل أشهر أو سنوات وربما عقود! كما نُظمت تظاهرات محدودة، وخصوصاً في القاهرة، سارت إحداها لتهنئة السفارة التونسية بهروب الرئيس المخلوع! فيما كان ينبغي لمنظميها أن يتوجهوا بها لمحاصرة سفارة القذافي، دفاعاً عن الثورة التونسية وكرامة شهداء الشعب التونسي، وخصوصاً أنّ تلك التظاهرة نُظّمت في اليوم التالي لخطاب القذافي الاستفزازي.
إنّ تفعيل حركة شعبية للتضامن مع الثورة التونسية وإطلاقها في جميع الساحات العربية وإنشاء لجان الدعم والمساندة الشعبية في الأحياء والجامعات والمدارس وبمشاركة من الأحزاب الديموقراطية واليسارية والإسلامية المستنيرة، هي الأمر المفيد الوحيد الذي يحتاج إليه اليوم الشعب التونسي وقواه الحية الديموقراطية. لا يحتاج إلى مقالات وتصريحات التضامن ومحاضرات الأَسْتَذَةِ والتفقيه برؤوس الشعوب. إنّ السير نحو إنجاز مهمة التضامن مع الشعب التونسي وثورته وإنشاء لجان المساندة والدعم السياسي والمادي ـــــ وخصوصاً المادي ـــــ في عموم العالم العربي، ستلجم أية محاولة لأيّ ديكتاتور عربي تهدف إلى التدخل ضد الثورة التونسية. حينها، لن تجرؤ قوى الخارج الغربي أيضاً على التدخل. إنّها مهمة تضامنية شريفة وعاجلة ستنعش القلب التونسي، وتؤكّد استقراره بأيدي المنتفضين، وتزيد من حركة الجناحين الجزائري والليبي باتجاه الطيران نحو الحرية.
* كاتب عراقي