لم يحصل قط، في تاريخ المنطقة، أن أدت نقابةٌ عمالية دوراً سياسياً شبيهاً بالدور الذي أداه الاتحاد العام التونسي للشغل، في الانتفاضة الجارية في تونس. فما إن اندلعت تظاهراتُ الوسط الغربي، حتى فتح كوادرُه المقارّ النقابية للمتظاهرين، وأسمعوا صوتهم في وسائل الإعلام، ونُظمت التجمعات والاعتصامات والإضرابات مساندةً لهم في كل أنحاء القطر.ولم تصطفّ قيادة النقابة عفوياً إلى جانب المحتجين، ولم يتضح دعمها لهم، إلا بعد اتساع رقعة التظاهرات واتخاذها صبغة سياسية لا غبار عليها. حينئذ، لم تعد تكتفي بترديد مطالب الشباب العاطل، فبدأت تطالب بإصلاحات ديموقراطية (بيان 4 يناير/ كانون الثاني). وبعد فرار الرئيس بن علي في 14 يناير/ كانون الثاني، قبلت المشاركةَ في حكومة محمد الغنوشي الانتقالية، إلا أنها انسحبت منها بضغط من الشارع والنقابيين الراديكاليين، وطالبت بحكومة «إنقاذ وطني» تحل محلّها (بيان الهيئة الإدارية في 21 يناير/ كانون الثاني).
ويمكن تفسير دخول الاتحاد العمالي التونسي المعترك السياسي برغبة مكتبه التنفيذي في الظهور بمظهر جديد، وهو يرى القواعدَ النقابية والهياكلَ الوسيطة تشاطر التونسيين رغبتهم في التغيير. فأخشى ما تخشاه هذه الهيئة أن يتمخض الحراك الحاليّ عن طعن في شرعيتها، على منوال الطعن في شرعية الحكومة و«الحزب ـــــ الدولة» وإدارات وسائل الإعلام، وغيرها من رموز عهد الرئيس المخلوع. لكنّ عاملَين آخرين، عدا براغماتية القيادة النقابية، يساعدان على فهم هذا السلوك: تاريخُ هذه المنظمة شديد الخصوصية منذ ميلادها في 1946 (مقارنة بأخرى في المنطقة) وتعدديتُها الإيديولوجية التي لم يقض عليها قمعُ النقابيين المستقلين، من يساريين وقوميين.
تحوّل الاتحاد في السبعينيات، بسبب الانغلاق السياسي، إلى حقل نشاط رئيسي للحركات المناوئة للحبيب بورقيبة ولمنعرجه الليبرالي، وكان من بينها «يسار جديد» (ذو أصول ماوية وأحياناً تروتسكية) أتم قطيعتَه مع ميراث الحزب الشيوعي التونسي المهادن. وبمرور السنين وتوالي التجارب، كونت هذه الحركاتُ داخلَه تياراً، برنامجه كان ولا يزال، تجذيرَ مواقف النقابة السياسية والاجتماعية ودمقرطةَ هياكلها. وقد تمكنت بفضل تضحيات جسام (الطرد من صفوف التنظيم، السجن، إلخ) من تعزيز تمثيلها في النقابات العامة والاتحادات الإقليمية ودخول حلبة الهيئة الإدارية الوطنية بفضل هذا التمثيل. ولم تفلح البيروقراطية النقابية في كسر هذا التيار كليَّةً في دواليبها. صحيحٌ أنّ راديكاليته تراجعت بعض الشيء، لكنّها لم تنضب، بل انتعشت في العقد الأخير بفضل انتعاش الحركة الديموقراطية المعارضة. ويمكن القول إنّ انتصارَه اليوم مبينٌ، وهو يرى المكتب التنفيذي مجبراً على استبدال الدعوات إلى «تعميق الديموقراطية» («البنعلية») بأخرى إلى «تغيير عميق».
ومن الصعب وصفُ الاتحاد التونسي للشغل بأنّه نقابة حرة مستقلة، لكن من الصعب أيضاً وصفُه بأنّه نقابة صفراء مهمتُها إطفاء الحرائق العمالية لا غير. فهو رغم الانغلاق السياسي في تونس، قبل 14 يناير/ كانون الثاني 2011، وتواطؤ زعاماته مع السلطة، احتفظ بهامش حرية لا يستهان به تجاه الحزب الاشتراكي الدستوري وخَلَفه التجمع الدستوري الديموقراطي. لا أدلَّ على ذلك من أنّ أخطر أزماته، منذ إنشائه في منتصف الأربعينيات، كانت في الحقيقة «أزمات علاقات» مع هذا الحزب، الذي بذل قُصاراه ليحوّله إلى أحد «تنظيماته الجماهيرية».
وترجع استقلالية النقابة التونسية النسبية إلى أنّها لم تولد كمجرد رافد فرعي للحركة الاستقلالية، وأنّها كانت، منذ البدء، كالحزب الدستوري، أحد مكونات هذه الحركة الرئيسية. ولو اختلفت الظروف السياسية لربّما تحولت إلى منظمة سياسية على مثال أحزاب العمل الأوروبية. ولم يكن هذا الحزب يقبل بسهولة أن تضاهي شعبيةُ زعمائها (فرحات حشاد، الخ) شعبيةَ زعمائه ولا أن تنتقدَه كما في 1956، بعد أن قبل المشاركة في حكومة طاهر بن عمار التي وصفها أمينُها العام آنذاك، أحمد بن صالح، بأنّها في «خدمة البورجوازية». وبالنظر إلى هذا التنافس، عمل الحبيب بورقيبة، ما إن نالت تونس الاستقلال، على التحكم في مقاليد اتحاد الشغل. لذا شجع في 1956 إنشاءَ تنظيم عمالي مواز بقيادة نقابي منشق، الحبيب عاشور. وأجبرت ضغوطُه أحمد بن صالح على الاستقالة من منصبه، فانتُخب بدلاً منه مناضل دستوري، أحمد التليلي، أقصي بدوره سنة 1963، ما قد يفسره سعيه إلى الاحتفاظ بهامش من الحرية إزاء الحزب الحاكم.
وكان تبني تونس نمطَ تنمية «اشتراكي» بدءاً من 1961 (كحلّ لمشكلة ندرة الرساميل الأجنبية) شرّ انتقام للاتحاد من الحزب الدستوري. إذ عُيِّن أمينه العام المقال، أحمد بن صالح، وزيراً للمال والتخطيط وأطلقت يداه ليؤمم الاقتصاد صناعةً وزراعةً، بل وتجارةً أيضاً، مستوحياً مقررات المؤتمر النقابي العام لسنة 1956. ولا مبالغة إن قلنا إنّ هذه التجربة «الاشتراكية» طبعت تاريخ تونس الحديث وأنّها أحدُ منابع الثقافة السياسية للحركة النقابية التونسية.
وبالرغم من ضغوط الحزب الواحد الحاكم، لم يصبح اتحاد الشغل محض هيكل من هياكله ولم يفقد استقلاليته كلّها، كما تشير إلى ذلك مقاومة أمينه العام الحبيب عاشور محاولات الهيمنة البورقيبية، بالرغم مما عُرف عنه من أنّه كان أداة الانقلاب الداخلي على أحمد بن صالح بعد الاستقلال. وقد اعتُقل سنة 1965، لرفضه لوائح مؤتمر للاشتراكي الدستوري دعت إلى اعتبار «المنظمات الوطنية» جزءاً من منظمات الحزب، ثم سنة 1978 بعد دعوته إلى إضراب عام تحول إلى ما يشبه العصيان المدني. وأعيد انتخابُه أميناً عاماً في 1980، لكنّه أبعد عن هذا المنصب واعتقل مجدداً في 1985، إثر اتهامه بالسعي إلى خلافة «المجاهد الأكبر». وبالرغم من مساره المليء بالمفارقات، لا يزال الاتحاد يعده أحد رموز «الاستقلال النقابي».
وفي 1989، نجحت السلطة في أن تفرض على الاتحاد قيادةً ترأسها إسماعيل السحباني، غضّت الطرف عن إصلاحاتها الليبرالية وخاضت معارك شرسة ضد اليسار النقابي، قبل أن تستبدل في 2000 بالقيادة الحالية برئاسة عبد السلام جراد. وإذا كانت فترة التسعينيات من أحلك فترات التاريخ النقابي، فإنّ عقد الألفين عرف انتعاشَ العمل النقابي المطلبي وتزاوجَه مع العمل السياسي الديموقراطي. وأبلغ برهان على ذلك أنّ مساندة المكتب التنفيذي لترشح بن علي للرئاسة في 2004 و2009 قوبلت باستهجان كثير من الهياكل (النقابات العامة، الاتحادات الإقليمية، الخ) وأنّ مناضلين نقابيين كانوا في عداد مناضلي المعارضة النشطين.
واستجابة لضغوط النقابيين الراديكاليين، سعت القيادة النقابية الحالية إلى معادلة كفة مهادنتها للنظام بالمشاركة في نشاطات تيار العولمة البديلة وتبنّي خطاب ذي مسحة مناهضة لليبرالية. ولم يُكتب لهذا الخطاب أن يتجسد على الميدان، فخلال انتفاضة الحوض المنجمي في قفصة مثلاً (يناير/ كانون الثاني ــ يونيو / حزيران 2008)، لم يساند المكتب التنفيذي المحتجين، كما ساندت الكوادر النقابية سكان سيدي بوزيد والقصرين وغيرهما، وكانت أقصى درجات راديكاليته دعوتُه إلى إطلاق سراح معتقلي هذا التحرك الشعبي.
ولن تُعدم التطورات السياسية في تونس تأثيراً على الساحة النقابية، التي يميزها الصراعُ الدائر حول تعديل المادة العاشرة من النظام الداخلي. إحدى فقرات هذه المادة تحظر على أعضاء المكتب التنفيذي الترشح لعضويتها بعد ولايتين متتاليتين، ما يفسر عزمَ كثير منهم على حذفها (تسعةٌ منهم تنتهي ولايتهم الثانية قريباً). لهذا السبب، تبدو معركة منع تعديلها هي ذاتها معركةَ التغيير الجذري داخل الاتحاد.

* صحافي جزائري