«عمّق الحفرة، يا حفّار. عمّقها لقاع. لا قرار»خليل حاوي

هذا الأسبوع كان فصلاً آخر من الحرب الأهليّة اللبنانيّة ــ التي لم تتوقّف بعد. هي تأخذ أشكالاً أخرى: تكبر وتخفت وتستعر، والنافخون في نارها مدجّجون بمال آل سعود وآل الحريري. الحرب تبرد ثم تسخن تم تنفجر وتتخفّى ثم تنفجر، هنا وهناك. التحليلات في جريدة «الأخبار» ركّزت على شخصيّة سعد الحريري وعلى تشبّثه بكرسي رئاسة الوزارة. هذا جانب، لأنّ الحريري يتعامل مع منصب لا يستحقّه أبداً مثل الابن المدلّل المُثقل بالذهب الذي يطالب أهله بالألعاب الثمينة. بعض إعلام المعارضة (السابقة) يتذاكى ويركّز على شخصيّة سمير جعجع، في محاولة لتجنّب استفزاز الجمهور المذهبي لآل الحريري، ومن أجل تذكيره بماضي مجرم الحرب هذا. لكنّ المعارضة (السابقة) تعلم أنّ سعد الحريري لا يملك قراره، وتعلم أيضاً أنّه لا دور لسمير جعجع في حركة آل الحريري السياسيّة على الإطلاق. هؤلاء باتوا يدورون في فلك النظام العربي الرسمي (سمير جعجع يدعو المسيحيّين في مصر إلى الالتفاف حول حسني مبارك، وأمين الجميل يتباحث في شؤون الإسلام مع مفتي الأزهر ــ دمية النظام). سعد الحريري لا يتشبّث بالكرسي بقدر ما يتشبّث بتنفيذ أوامر سعوديّة ــ أميركيّة بحذافيرها. كان سعد يتلقّى الأوامر من مستشار ديك تشيني في حقبة بوش، وهو اليوم يتلقّى الأوامر من مُقرن وفيلتمان، ومن أي أمير سعودي ــ صغر أو كبر. وأتى «يوم الغضب». جماهير العالم العربي تتظاهر من أجل الحريّة والخبز والكرامة، وجماهير الحريري تتظاهر لنصرة «زعيم أهل السنة» وللمطالبة بالمزيد من الخنوع والذلّ. جماهير مصر وتونس تسخر من الطاغية، وجماهير الحريري تعبّر عن نفسها بنسبة الولاء نفسها التي تمتّع بها تشاوشسكو قبل رحيله. كم يبدو قبيحاً مسخ الوطن، وكم قبّح به آل الحريري، وكم ألحقوه بولاية آل سعود القهّارة. أصبح الدعاء لملك السعودية بطول العمر جزءاً من ابتهالات الفريق الذي يلهج بحمد الدولة المدنيّة. وفريق «أهل السنّة» في المعارضة واهم: ترى عبد الرحيم مراد وهو يجزم بأنّ «أهل السنّة» هم مع عبد الناصر ومع العروبة. لا يلحظون إمكانيّة نقل أهواء القبيلة على يد زعيمها: كما تنقّلت بعض القبائل في العراق بين «القاعدة» والاحتلال الأميركي. نتذكّر أنّ وفداً من البسطة هنّأ بشير الجميّل بتنصيبه عام 1982، ونتذكّر أنّ وفوداً جنوبيّة زارته في ذلك العام المشؤوم الذي شهد أيضاً موت المشروع الإسرائيلي في لبنان تحت أنقاض مبنى في الأشرفيّة. وإعلام الحريري يصرّ أمام أعيننا على أنّ التحرّك عفوي، وأنّ الجماهير تحرّكت من تلقائها. أي عليك أن تنسى (أو تنسي) أنّك رأيت نوّاب «المستقبل» (السعودي) وإعلامه في الأمس، يحثّون الناس على التعبير عن الغضب لمصادرة «حقوق أهل السنّة». أما الإعلام الطائفي المتمثّل في «إم. تي. في» («إل. بي. سي» كانت السبّاقة في الإعلام الطائفي ولن يغشّنا الخلاف المالي الظرفي بين بيار الضاهر وجعجع)، فقد طمأن الناس إلى أنّ «يوم الغضب» كان سلميّاً قطعاً، وأنّ أعمال الحرق والقتل والضرب كانت من صنع عناصر مدسوسة وقريبة من حزب الله. اختلاق الخبر (الموالي صدفة لمصالح إسرائيل) هو الخبر في تلك المحطّة.
والعناوين والهتافات هي نفسها في البيانات والتظاهرات (ولا تنسَ (أو تنسي) بيانات من يسمّون أنفسهم «مسيحيّي 14 آذار»: لقد بقوا على العهد لجبران تويني الذي أوصاهم بأن يبقوا منقسمين مسيحيّين ومسلمين، وأن ينفصلوا مذاهب في داخل الطائفة إذا أمكن). والذي رفع شعار الحقيقة، ساوم خصومه على دفن الحقيقة مُقابل تعهّد باستمرار فريقه في الغرق في الفساد السياسي والمالي. الخلاف كان على الثمن فقط. نوّاب الحريري، وأعوانهم من أحزاب أخرى لا ترقى إلى مصاف الحلفاء، يردّدون أنّه لا يجوز تسليم القرار اللبناني الصرف إلى جهة خارجيّة ــ يعنون إيران. هؤلاء هم أنفسهم الذين تسمّروا أمام الهواتف والشاشات يتسقّطون أخبار عمليّة جراحيّة خضع لها الملك السعودي، لأنّ قرارهم رهن ما يقرّر هو، ولأنّ زعيمهم ينتظر الأوامر منه ــ أو من مساعديه ــ كي يُقرّر (جنبلاط ظهر في لحظة اغتباط نادرة عندما رأى الملك السعودي يمشي على قدميه في نيويورك، لعلّه رأى في ذلك دعماً للتقدّميّة والاشتراكيّة). إذا كان سعد الحريري في بيانه الذي تلى «أوديو» ليكس محطة «الجديد»، قد أظهر هذا الكم من التملّق والدونيّة نحو محمّد بن نايف، فما بالك عندما يجد نفسه في حضرة ملك السعوديّة المُعظّم عندهم في تلك العائلة، التي خدمها والده كما خدم عائلة الأسد في سوريا؟ وعقاب صقر يردّ في «كلام (بعض) الناس» على نقد نادر للدور السعودي بتلاوة شبه ابتهالات ثناء بحق آل سعود. كان يمكنه أن يضيف أنّ موقفه من المملكة بريء من الهوى، وأنّه قبل دعوة الأمير سلمان للرقص في «الجنادريّة» حبّاً بالرقص، ليس إلا. لكن «شيعة 14 آذار» ــ والكل مُصنّف طائفيّاً ومذهبيّاً في حركة 14 آذار بمَن فيهم «اليساري» الكثير الديموقراطيّة، إلياس عطا الله، الذي يأبى إلا أن يحضر اجتماعات «مسيحيّي 14 آذار» ــ مُطالبون بالإفراط في الحماسة لنصرة «أهل السنّة» هذه الأيّام، كي لا تبدو مذهبيّة آل الحريري نافرة.
لكن حفلة الكراهية المذهبيّة في طرابلس لم يقابلها هؤلاء في 14 آذار الذين يزعمون أنّهم علمانيّون ويساريّون، إلا بالصمت ــ أو بالمزايدة الطائفيّة والمذهبيّة. ماذا تقول في أمين وهبة هذا مثلاً؟ تقول فيه لا شيء لأنّه يتعامل مع نفسه على هذا الأساس. يساريّون وعلمانيّون مُتحالفون مع جماعة بن لادن في لبنان. أحمد فتفت ــ الذي لولا النظام الطائفي لكان قبع في زنزانة، على أقلّ تقدير، بسبب دوره في عار ثكنة مرجعيون ــ يريد دولة مدنيّة ونضالاً حضارياً ــ يظهر مع داعي الإسلام الشهّال على محطة الحريري لتحريض الناس على الغضب المذهبي. فؤاد السنيورة يتحدّث عن السلاح المُوجّه إلى «صدور الناس» ــ ولم يكن يتحدّث عن إسرائيل، التي لا تزال تصدر التهديدات ضد لبنان بصورة يوميّة. يتبرّم بسلاح مقاومة إسرائيل ولم يتبرّم يوماً، منذ سنوات مراهقته القوميّة، بسلاح إسرائيل المُوجّه ضد لبنان وضد كل العرب. السنيورة قال إنّ السلاح المُوجّه ضد إسرائيل مقبول على أن يُدمج بالجيش من ضمن استراتيجيا دفاعيّة. ماذا يعني هؤلاء عندما يتكلّمون على دمج المقاومة بالجيش؟ يريدون أن يصبح سلاح المقاومة بإمرة غسّان الجدّ، وأن تكون القيادة الميدانيّة للمقاومة بيد زياد حمصي. تلك هي الاستراتيجيا الدفاعيّة الحقيقيّة لفريق آل الحريري. لم يعبّر مدير الـ«موساد» السابق وتسيبي ليفني عن إعجابهما بالسنيورة وعن رغبتهما في مساعدته بسبب مواقفه «القوميّة» أو لأنّه لا يحتاج «إلى فحص دم» في وطنيّته.
تعارض حركة 14 آذار حزب الله بسبب عقيدته الدينيّة ــ هي تقول ــ لكنّها مثل البطريرك لا تمانع في العقيدة البن لادنيّة التي تمثّل جزءاً لا يتجزّأ من العناصر (الشارعيّة) المُكوّنة لتيّار الحريري، وخصوصاً في الملمّات المذهبيّة. تعارض حركة 14 آذار الدولة الإسلاميّة في إيران بسبب حبّها للدولة المدنيّة، لكنّها تتبع وتوالي (وبذلّ) أكثر حكومة مُتخلّفة في طول العالم الإسلامي وعرضه. هم يعتبرون أنّ حزب الله يعبّر عن حساسيّة مذهبيّة، ولكن لم يبزّ أحدٌ بعد في تاريخ لبنان آل الحريري في الخطاب المذهبي والسوقي (يأخذ فريق الحريري الإعلامي راحتهم على الإنترنت، حيث يصرّحون بعدائهم لـ«الرافضة» حسب قول أحدهم، فيما يصبح محمّد سلام ــ الذي يذكره من عاصر حقبة جوني عبده ولم يكن يومها في صفّ المقاومة كما زعم في خطابه التحريضي في طرابلس ــ الناطق الحقيقي باسم تيّار الحريري).
تمتاز أكثرية هذا الصخب على خسارة الحريري بما هو لافت. لم يتحدّث أحد من فريق الحريري ومن الصائحين في حاشيته الإعلاميّة عن ضرورة تسميته بسبب كفاءته. لم يتحدّث أحد من فريقه عن أهليّته: لم يجرؤ أحد على النطق بهذه الحجّة بسبب بطلانها. قد يسبّب ذلك ضحكاً هستيريّاً. يعلمون (ويعلمن) أنّ الحريري أثبت بالدليل القاطع عدم أهليّته وعدم كفاءته، لكن التمثيل المذهبي يتفوّق على كلّ ما عداه من معايير ــ في نظر دعاة الدولة المدنيّة. هؤلاء، لا تستطيع على امتداد أكثر من خمس سنوات أن تجد ذرّة من الصدقيّة في خطابهم، طالبوا بتغيير النظام في سوريا ثم زحف الحريري إلى دمشق بالطريقة نفسها التي كان أبوه ــ السيئ الذكر ــ من قبله يزحف نحوها، وبذلّ مُستعيناً بـ«درويش» كي يهب قادة الاستخبارات السوريّة ما يطلبون وما لا يطلبون. هل الفاسد في العلاقة بين رستم غزالة ورفيق الحريري الأوّل فقط؟ طالبوا بأن تصبح العلاقة بين سوريا ولبنان علاقة بين دولة ودولة. فماذا فعل سعد الحريري؟ عيّن ابن عمّته كي يصبح أرفع قناة اتصال رسميّة بين الدولتيْن من دون أن يشغل أي منصب رسمي في الدولة. الحكم عشائري على طريقة السعوديّة عند هؤلاء.
وأتت تسريبات محطة «الجديد» لتثبت أنّ محكمة الحريري التابعة للحكومة الأميركيّة (وإسرائيل إلى جانبها) لا علاقة لها بما يُسمّى الحقيقة أو العدالة، إلا إذا صدّقنا مقولات 14 آذار أنّ تفجّع الإدارة الأميركيّة (بوش وأوباما معاً) على رفيق الحريري هو موقف محض عاطفي، وأنّه كان ــ عن جدّ ــ عزيزاً إلى هذه الدرجة على قلب راعي إسرائيل. هناك من هؤلاء الذين واللواتي يشيدون بمهنيّة المحكمة وسريّة عملها، رغم إنتاج كميّة من التسريبات لم يسبق أن تراكم مثلها في أي محكمة من قبل، ولا حتى في محاكم الفساد في لبنان ــ الفاسد حتى العظم. مَن فوجئ بأسلوب سعد الحريري في الحديث ومن نزقه؟ لم تكن تلك الجلسة مع ممثّلي المحكمة جلسة مهنيّة بأيّ من المعايير. كانت أقرب إلى جلسات السمر، حيث يدلي المسؤولون اللبنانيّون بدلوهم، ويطلقون الوشايات بعضهم ضد بعض، كما علّق الرفيق خالد صاغيّة. الخفة التي تتحكّم في سعد الحريري وتجعله يصف رئيس دولة عربيّة يريد أن يقيم معها «أفضل العلاقات» بـ«الأبله»، تفرض سؤالاً مُلحّاً عن تلك الثقة بالنفس التي تسمح لسعد الحريري ــ سعد الحريري، يا محسنين ومحسنات ــ بأن يصدر أحكاماً في ذكاء الآخرين. لكن لا مفاجآت في كل ما جرى.
كانت المُغالطة الكبرى في تصديق أكذوبة الـ«سين ــ سين». لا تنطلي هذه الأكذوبة إلا على وليد جنبلاط الذي يريد أن يحافظ على العلاقة التابعة مع النظام السعودي، في الوقت الذي يبني فيه علاقة ما مع النظام السوري. الذي يثق بتخلّي جنبلاط عن حقبة التخلّي، يُلدغ من الجحر مئة مرّة. بيانه قبل المشاورات النيابيّة كان واضحاً في لبسه. لم يجرؤ أن يشير إلى الولايات المتحدة بالاسم ــ ربما منعاً لإحراج الصديق «جيف» ــ فتحدّث عموماً عن «قوى دوليّة» ــ لعلّه قصد البلجيك. كيف تستقيم معادلة الـ«سين ــ سين» وطرفا المعادلة في معسكريْن مُتناقضيْن مُتنافريْن ومتصارعيْن؟ هناك من يقول إنّ عبد العزيز بن عبد الله غير عليم بشؤون لبنان، أو أنّ بندر بن سلطان دخل على الخط وخرّب، أو أنّ سعود الفيصل هو شرّير ومُدبّر الفتنة في لبنان ــ وهو كذلك. لكن الخلافات بين أمراء آل سعود بعيدة عن الشأن اللبناني. كلّهم في العائلة القامِعة متفقون على تنفيذ أوامر أميركا، وهناك إجماع لم يشذّ عنه أمير واحد بالنسبة الى إثارة الفتنة المذهبيّة ــ وهذا جزء من العقيدة الوهّابيّة. ولا يختلف الملك السعودي عن بندر في كراهيته لنظام بشّار الأسد، وهو الذي رعى، ولا يزال، خصوم النظام ومعارضيه، وخصوصاً عنوان النزاهة عبد الحليم خدّام، الذي توقّف عن تبشير الشعب السوري بقرب عودته إلى دمشق لإرساء حكم المساواة والشفافية. ثم إنّ الملك عبد الله (الذي خلافاً لشعبان عبد الرحيم، لا «يكره إسرائيل» كما جاء على لسان مسؤول إسرائيلي في وثيقة من وثائق «ويكيليكس») كان أوّل من أسّس لعلاقة رسميّة شبه مُعلنة مع العدوّ الإسرائيلي. وعلاقته بالقوميّة العربيّة هي مثل علاقة سمير فرنجيّة باليسار، أو علاقة محمّد سلام بالعلمانيّة ــ لكنّه خطيب التقوى والورع، فاقتضى التوضيح.
كانت مُصالحة النظاميْن السوري والسعودي أمثولة في التكاذب المُشترك وهو سائد بين الدول العربيّة. والإعلام السعودي هادن بأمر، لكنّه ــ خصوصاً في إعلام الأمير سلمان (والأخير يمثّل الجناح الليكودي في العائلة) ــ كان صريحاً في عدم قبوله بتلك المصالحة. بات التعاون السعودي ــ الإسرائيلي جزءاً من الاستراتيجيا لأكثر الأنظمة العربيّة قمعاً وأكثرها عراقة في الرجعيّة، على أنواعها. لكن غباء سعد الحريري يزيد من فداحة الورطة السعوديّة في لبنان. ونشر مقالات مُنتقِدة للحريري في صحف سعوديّة دليل على إدراك آل سعود أنّ رفيق الحريري كان أكثر مهارة في خدمة مصالح العائلة في لبنان، كما أنّ للحكم السعودي أكثر من أداة مِطواعة في لبنان. وعندما تلقّت العائلة الحاكمة في السعوديّة صفعة من كلام سعد عن الأمير محمّد بن نايف (مع أنّ المُستمع والمُستمعة يدركان أنّ الحريري لم يقصد إهانة الأمير ــ ليس غبيّاً إلى تلك الدرجة، ولا أخاله تبدر منه كلمة سلبيّة ضد أي من أمراء آل سعود ولا في المنام)، ظهرت بوادر غضب عند آل سعود. والحكم السعودي لا يغفر الإهانات، الحقيقيّة منها والوهميّة.
وهناك في لبنان، ولا سيما في معسكر المعارضة (السابقة)، من يريد أن يصدّق أنّ ثمّة خلافات في العائلة السعوديّة الحاكمة في ما يتعلّق بلبنان وفي خدمة مصالح إسرائيل. صحيح، هناك خلافات في العائلة، لكنّها تتعلّق بشؤون الخلافة وتوزيع السلطات والمغانم بين الأمراء، غير أنّهم مُتفقون على محاربة كل أشكال مقاومة إسرائيل في المنطقة العربيّة. بات الحلف بين السعوديّة وإسرائيل أساسيّاً بالمنظار الاستراتيجي السعودي. ولكن كل أقطاب المعارضة (السابقة) في لبنان أصرّوا جميعهم على توجيه الشكر للملك السعودي بعد فشل اتفاق «السين ــ السين»، كما أنّ قطب المُعارضة (السابقة) نبيه برّي أولم للأمير مقرن في واحدة من زياراته العلنيّة للبنان ــ والأخير، بالاشتراك مع سعود الفيصل ــ هو المُدبِّر الأوّل لتزييف الانتخابات النيابيّة الأخيرة في لبنان وإفسادها، بالإضافة إلى تسعيره للفتنة المذهبيّة في المنطقة. لكن للراسخين في «المعارضة اللبنانيّة» أحكاماً لا يفقهها إلا... الراسخون في المعارضة (السابقة).
المؤامرة على لبنان خطيرة، وعناصرها مشبوهة بتفاصيلها ودقائقها، والمعارضة (السابقة) التي كانت مُنشغلة بـ«الثلث المُعطّل» لم تحرص على ملاحظة ما يجري من حولها وأمامها. ماذا يعني، مثلاً، أن تصرّ حكومة الحريري على أن يكون وزير العدل هو إبراهيم نجّار، الذي كان عضواً في المكتب السياسي لحزب الكتائب اللبنانيّة أثناء سنوات الحرب (بعدما اجتذبت عائلة الحريري الوزير شارل رزق عبر دغدغة طموحاته الرئاسيّة) لا غير. كيف تطمئن لوزارة العدل، والقدرة على مواجهة التآمر من قبل مُخطّطي المحكمة الدوليّة، عندما تتذكّر أنّ إبراهيم نجّار هذا كان من القلائل في الفريق الإسرائيلي في لبنان الذين جاهروا بدعم مجزرة صبرا وشاتيلا؟ وزارة العدل هي نواة مواجهة المؤامرة الإسرائيليّة من خلال المحكمة، وإبراهيم نجّار هذا كتب عن الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 ما يأتي: «قاموا بحملتهم اللبنانيّة تحت شعار «السلام من أجل الجليل» واتضح لهم أنّه لا ينفع قطع «ذنب الأفعى» من دون القضاء على رأسها. عندها أكملوا المسيرة في اتجاه بيروت وضواحيها، في محاولة للقضاء على «رأس الأفعى». (عدد «العمل» الخاص، رقم 11221، 28 تشرين الثاني، 1982، ص. 65). لماذا لا ينظر مَن في المعارضة (السابقة) في الأرشيف، فيما لا يأتي دعاة الحريريّة إلى استديو تلفزيوني دون التسلّح بالأرشيف (وبالتحريض المذهبي أيضاً)؟ مَن وافق من المعارضة (السابقة) على تسلّم إبراهيم نجّار لوزارة العدل؟ ماذا توقّعوا منه وقد أتى ممثّلاً لتنظيم ميليشيوي إسرائيلي (في الماضي طبعاً، لأنّ جعجع هذا بات حليفاً للنظاميْن السعودي والمصري وهذا ــ بمفهوم 14 آذار ــ دليل على تجذّر العروبة في الشرايين)؟ لو رأى جمال عبد الناصر عروبة 14 آذار لتبرّأ منها.
لكن حزب الله يواجه معضلة قد لا يجد طريقاً إلى حلّها: الحلف الوثيق بين إسرائيل وحلفاء السعوديّة في لبنان لا فكاك له بسبب الترابط في المصالح وفي التنعّم بالرعاية الأميركيّة. أي أنّ المواجهة تتطلّب حسماً لا هوادة فيه ضد الفريق الآخر. لكن حزب الله ــ شاء أو أبى ــ مُكبّل ومُثقل بسبب عقيدته الدينيّة وتركيبته الطائفيّة. ماذا يفعل؟ كانت الأزمة اللبنانيّة في 1976 تتطلّب حسماً ضد الفريق الانعزالي يومها، وتوصّل كمال جنبلاط إلى تلك القناعة، متأخراً. لكن النظام السوري منع الحسم وفوّت فرصة تاريخيّة. ماذا يعني هذا؟ أن آمال المعارضة (السابقة)، كما الموالاة، لن تلبث أن تُخيّب. التسويات وأنصاف الحلول والترقيعات واللف والدوران ستسود. سعد الحريري، أو ابن عمّته، عائد بحكم النظام الطائفي، ومشهد لقاء بين وفد من المقاومة وإلياس المرّ ــ وزير إسداء النصح لإسرائيل ــ نافر، لكنه وارد جدّاً.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)