إذا كانت انتفاضة تونس قد أسهمت في تعجيل انتفاضة مصر، فإنّ ما صنعته انتفاضة مصر يُرجَّح تثميره في البلدان العربيّة الأخرى. وحتّى يحدث ذلك، ينبغي ألا نسقط في تبسيطات من النوع الذي يحجب الوقائع أو يغرقنا في رومنسيّة قد تصعّب عمليّة انتقال الانتفاضة من مكان إلى آخر.أوّلاً، ثمّة من يستعجل قلب الصفحة من عصر إلى عصر، فيصوّر «مناضلي الكيبورد» كصانعي معجزات في عالم افتراضيّ بإمكانه قلب موازين العالم الواقعيّ في لحظات. فما نسمعه عن «الفايسبوك» و«التويتر» يوحي كما لو أنّ عشرة شباب صرخوا «تْوِيت... تْوِيت» ذات مساء، فتدفّقت الجماهير إلى الشارع تسقط النظام في اليوم التالي. لا شكّ في أنّ لوسائل الاتصال الحديثة دوراً هامّاً في الدعوة الى تظاهرة 25 كانون الثاني/ يناير، وأنّ صفحات «الفايسبوك» التي يديرها بعض الناشطين تحوّلت إلى ما يشبه أحزاباً صغيرة يخوض أعضاؤها نقاشات ويتوصّلون إلى قرارات تُتّخذ بطريقة ديموقراطية. لكنّ الدعوة الإلكترونيّة التي تمكّنت من الالتفاف على الأساليب البوليسيّة التقليديّة للنظام، ما كان لها أن تجذب مئات الآلاف لولا تتويجها لمرحلة حافلة بآلاف التظاهرات التي شهدتها الأعوام الأخيرة في مصر.
ثانياً، ما من حزب في ميدان التحرير يُدعى «شباب الإنترنت». فهؤلاء مختلفون في انتماءاتهم الطبقيّة وأيديولوجيّاتهم السياسيّة ومرجعيّاتهم الثقافيّة، وتكاد لا تجمع بينهم إلا أعمارهم وتجربتهم في السجون (على اختلاف جديّتها) وولعهم بالإنترنت. فمنهم المتعاطفون مع الإسلاميّين، ومنهم الاشتراكيّون، ومنهم الليبراليّون الديموقراطيّون، ومنهم الناقمون على كلّ هذه الاتّجاهات ولا يهمّهم إلا محاسبة النظام.
ثالثاً، لقد سبق تظاهرات ميدان التحرير كسرُ مصر لحاجز عدم الاختلاط بين القوى السياسيّة المختلفة. فقد شهدنا في العقد الأخير، تحرّكات سياسيّة اجتمع فيها إسلاميّون وليبراليّون ويساريّون تحت سقف مطلب رفض التوريث. وهذا الاجتماع ليس بديهيّاً في ظلّ التعنّت الذي تمارسه قوى معارضة عديدة في أكثر من بلد عربيّ، حيث تحول الاختلافات الأيديولوجيّة دون تضافر الجهود. والغريب أنّه كلّما ضعف فصيل من هذه المعارضات، ازداد رفضه لمدّ يده للفصائل الأخرى.
رابعاً، تتجمّع في ميدان التحرير كلّ الفئات العمريّة من الشعب المصري. لكن، حتّى لدى النظر إلى الشباب منهم وحسب، ينبغي عدم توقّع أن يكونوا كلّهم أو معظمهم من «شباب الإنترنت». فبين المتظاهرين الشباب فئة ضخمة من العاطلين من العمل والمهمّشين الذين يسكنون أصلاً في الشارع أو على ضفافه، وهم ممّن أطلق عليهم كارل ماركس تسمية «البروليتاريا الرثّة»، ولم يقدّر، مع الأسف، الطاقة الثوريّة التي يختزنونها. وقد تبارى مثقّفو «ثورات الغوتشي» في هجائهم ذات يوم. هؤلاء المهمّشون يقفون اليوم جنباً إلى جنب مع عمّال مصر الذين سبق أن تحدّوا محاربتهم في لقمة عيشهم ونظّموا مئات التظاهرات العمّاليّة قبل الوصول إلى التظاهرة الأخيرة.
إنّها انتفاضة الإنترنت، طبعاً. لكنّها أكثر من ذلك.