يكاد سؤال «ماذا عن الثورة في لبنان؟»، يُختصر في ردود الأغلبية الساحقة من المهتمّين، بجواب واحد: لبنان «غير شكل». ويستطرد هؤلاء، من قبيل الإحباط أو الحماسة، بشرح واقع اصطفاف اللبنانيين في تشكيلات أو «معسكرات» طائفية ومذهبية، لا ينجو منها إلا عدد يكاد يتضاءل باستمرار من اللبنانيين. و«طبيعي» أنّ هذا الواقع يحول دون أن يستجيب معظم اللبنانيين لأيّ دعوة ولأيّ تحرّك وطني شامل من أجل التغيير.هذه هي الصورة العامة التي يتميّز بها المشهد اللبناني الآن. وهي صورة تبلورت على نحو أكثر ترسّخاً وشمولية في السنوات الأخيرة، وخصوصاً منذ 2005. ويسعى الأطراف المنخرطون في هذا المشهد حتى الثمالة، والمستفيدون منه إلى إقامة وإدامة نفوذهم وأدوارهم من أكبرها وأهمّها إلى أبسطها وأصغرها، إلى إضفاء طابع تكويني وعضوي على هذا المشهد. ويصبح اللبناني في النتيجة، دون سائر خلق الله، كائناً خاصاً يرضع انتماءه الطائفي والمذهبي مع حليب الوالدة. ولن تزيد الأيام من هذا الواقع «الجيني» إلا ترسّخاً، حتى الرمق الأخير، لينبطق علينا تماماً قول المتنبّي ملخِّصاً مأساة حياته:
وُلِدَ الأسى والبؤسُ ساعةَ مولدي وسيُحملانِ معي على ألواحي
يصبح من الطبيعي والبديهي أيضاً، أن يتوقّف النقاش بشأن النظام السياسي ذي المرتكزات الطائفية القائم في البلاد، وأن تنصرف الجهود، في أحسن الأحوال، إلى إجراء بعض «الرتوش» على آلياته وتوازناته. ويصبح هذا النظام «ضمانة» مَن كبرت حصّته، وكذلك، «ضمانة» مَن تراجع دوره: فمن خلال هذا النظام يحافظ طرف على أرجحيته ويسعى طرف آخر إلى استعادة ما خسره من النفوذ والحصص.
هذه إذاً هي الثقافة السائدة. وعند حدودها وأسوارها يجب أن يتوقّف الوعي وتتراجع محاولات التغيير. ويستقوي أصحاب هذا المنطق الشكلي بما وفّره النظام السياسي الطائفي لنفسه من عوامل القوة الإضافية، وأبرزها الاستقواء بالخارج إلى حدود الارتهان، واستخدام وتوظيف المال الوافد من «المرجعيات» الإقليمية أو الدولية ومعظمها مليء وسخي. هذا إلى النهل من مَعين الانقسامات والعقائد والعصبيات، قديمها والجديد. وهذه جميعاً أيضاً، لها مرجعياتها التي قد تكون هي نفسها مرجعية الاستقواء الخارجي بالموقف وبالمال. و«يكتمل» بذلك المشهد اللبناني، صورة نابضة بالصراعات وبالانقسامات وبالحروب وبتعدّد وتناقض الولاءات وبعدم الاستقرار... وفي مجرى هذه الدراما المتواصلة يجتهد المجتهدون لإغداق صفات «الفرادة» لا بل الإعجاز على «الصيغة اللبنانية». ويصبح لبنان «رسالة» إنسانية ووطن التعايش بين الطوائف والمذاهب الذي «قوّته في ضعفه»، والذي «إذا استقلّ اهتز وإذا استُتبع اعتز»، وهلمّ جرّاً من مثل هذه الترّهات التي يفيض بها ديوان حماسة المستفيدين من التجارة بالمذاهب وبالطوائف.
لا يمكن إنكار ما كان للعامل الطائفي والمذهبي من تأثير ملموس في بناء مقوّمات صمود ودفاع في مراحل تغطي فترات متوتّرة من بعض عقود القرنين الماضيين. ولا يمكن إنكار أنّ بعض المراجع الدينية قد تحوّل إلى مرجعيات سياسية اجتهدت من أجل إضفاء صفة وطنية ومصيرية على الانتماء الديني أو المذهبي، لكنّ كلّ ذلك، لا يلغي أبداً وقائع وأحداثاً أليمة جرى فيها سفك دماء اللبنانيين بسبب ما اعتمل في النفوس من العصبيات ومن الانحرافات.
ولقد أُعجب العالم أحياناً بأناشيد الزجل والافتخار اللبناني بالنظام الطائفي وفرادته، لكنّنا أيضاً، ولمراحل طويلة، أصبحنا في نظره طاعوناً يخشى انتقاله إلى بعض بلدانه. والهجرة التي ذهبت بنا إلى أربع أنحاء الدنيا، أليست غالباً، ثمرة الحروب الأهلية اللبنانية وثمرة الوصايات التي فُرضت على لبنان واللبنانيين، أي ثمن اعتماد الصيغة الطائفية وثمن تناقضاتها وأزماتها؟!
إنّ عدم إنكار عناصر مؤثّرة في ما وفّره الاستنجاد بعامل الانتماء الطائفي، من عناصر القوة أو حتى المقاومة، يماثله الاعتراف أيضاً، بنجاح المستفيدين في ما استخدموه من أساليب وأدوات من أجل إيهام اللبنانيين بأنّ الملاذ الطائفي، ومن ثمّ المذهبي، هو الضمانة والحصانة والحماية.
ورغم كلّ ذلك، ورغم كلّ ما يُنسب إلى التكتل على أساس مذهبي أو طائفي من إيجابيات أو نجاحات، فالحقيقة الكبرى، المادية والعملية والرئيسية، تبقى أنّ بناء علاقات اللبنانيين ونظامهم السياسي على مرتكزات التطيّف والتمذهب، هو المصدر الأساسي لانقسامهم.
لم تكن هذه الحقيقة تنتظر الثورات السياسية (لا الاجتماعية فقط) في كلّ من مصر وتونس وسواهما، لتأكيدها أو حتى لاكتشافها، لكنّ هذه الثورات السياسية فضحت بطريقة حاسمة مزاعم الثبات والخلود التي أُضفيت على بعض الأنظمة أو الأفراد أو المؤسسات. ألم يكن يُقال مثلاً، إنّ النظام والرئاسة المصرية مؤسستان تاريخيتان لا تهتزّان إلا من داخلهما، وإنّ الشارع لا يستطيع شيئاً إزاء رسوخهما! ورغم ذلك فقد كان أسبوعان كافيين لتحقيق شعار «إسقاط النظام» المصري وخلع رئيسه عن عرش الألوهية. ألم يفعل ذلك قبلَ المصريين، وبنجاح مدوٍّ، الشعب التونسي ضدّ الدكتاتور زين العابدين بن علي؟
لكنّ هذه الاستنتاجات الطبيعية حقّاً، لا يمكن فصلها عن المقدّمات وعن الاستعدادات وعن بحث وضع قوى التغيير نفسها، وبالدرجة الأولى منها، قوى التغيير اللبنانية.
في مكان ما، يمكن القول إنّ هذه القوى قد استقالت، تقريباً، من كامل دورها ومسؤولياتها وحتى من مبرّر وجودها. وعجزها الأكبر يتمثّل في عدم قدرتها على تقديم مشروعها البديل في أبسط صورة وأوضحها. وبعض هذه القوى تخلّى وارتدّ إلى الالتحاق والارتزاق، وبعضها ضربه اليأس حتى الشلل والموت، وبعضها ظلّ يجترّ شعارات وصيغاً لا تجعله في موقع القادر على تقديم الحلول لأزمات بلده، فيما هو عاجز عن معالجة أزماته الخاصة.
ويمكن القول دون أدنى تناقض، إنّ الشعب اللبناني، مع ذلك، استجاب بأكثرية مريحة لدعوات مصيبة أو جريئة، في هذا الشأن أو ذاك. وقد قدّم اللبنانيون في حقول المقاومة والتحرير والانفتاح... تضحيات بطولية، كما حقّقوا إنجازات مدهشة. قد يُقال إنّ ذلك حصل بالاستناد إلى التعبئة الطائفية أو المذهبية ودون المساس بالنظام الطائفي وفي أسسه وقواعده، هذا صحيح جزئياً، لكنّ الصحيح أساساً، أنّ هذا الشعب نفسه، استجاب أيضاً، وبحماسة عظيمة لدعوات العروبة والتقدّم والانتصار لقضايا التحرّر والديموقراطية... وقد سجّلت قواه وشخصياته التي حملت دعوات وبرامج التغيير نجاحات باهرة في مجالات فكرية ونقابية وسياسية وتحرّرية وتحريرية متنوّعة. ألم تكن جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية درّة إنجازات الشعب اللبناني، بقدر ما كانت أيضاً أفضل ما أسهم به الشيوعيون والوطنيون من أجل تحرير أرضهم وطرد العدو من عاصمتهم، ومن الكثير من المناطق التي اجتاحها عدوانه عام 1982؟
إنّ المهمة أصعب، لكنّها ليست مهمة مستحيلة. و«الجهاد الأكبر» هو أوّلها: أي جهاد قوى التغيير من أجل إعادة بناء أدواتها ومشروعها وبرنامجها جميعاً.
* كاتب وسياسي لبناني