«الجزائر ليست مصر ولا تونس»، قال وزير الخارجية الجزائري، مراد مدلسي، لقناة Europe1 في 14 فبراير/ شباط، ناسياً أنّ النظام المصري، قبل 25 يناير/ كانون الثاني بأيام، كان يردّد بدوره أنّ «مصر ليست تونس». ما الأدلّة على استحالة وقوع ثورة شعبية في البلاد؟ لم يقدم رئيس الدبلوماسية الجزائرية لنا منها شيئاً، لكنّنا نستخلص من كتابات بعض المحللين في الصحافة المحلية والعربية أنّها أربعة. الأول هو أنّ الجزائر ليست دولة ديكتاتورية مغلقة كديكتاتوريتي بن علي ومبارك، والثاني أنّ مأساة الحرب الأهلية في سنوات 1990 خلّفت لدى المواطنين رعباً كبيراً من كلّ ما ينذر بتجدد الاضطراب الأمني.
الثالث أنّ الأوضاع الاجتماعية الجزائرية إجمالاً ليست سيئة مقارنة بما هي عليه في بلدان مجاورة أخرى. والرابع هو «الطابع الأقلّي» لتظاهرات 12 فبراير/ شباط الماضي.
لنبدأ باختلاف النظام الجزائري عن نظامي مبارك وبن علي. لا شك في أنّ هذا النظام تعامل بمرونة مع جزء من المعارضة، ففتح أبواب البرلمان والحكومة للإخوان المسلمين (حركة مجتمع السلم، وبنحو أقل، حركة النهضة) وحَيَّد قسماً من اليسار الراديكالي، تحديداً حزب العمال الذي لم يحتفظ من ميراثه الإيديولوجي بغير «الدفاع عن القطاع العام» و«حماية الدولة الوطنية من محاولات التفتيت الإمبريالية». صحيحٌ أنّ الرئيس بوتفليقة، بما وعد به عند اعتلائه سدة الرئاسة في 1999 من التفاف على الجيش وتحجيم لدوره السياسي، كسب ودّ قطاعات جماهيرية واسعة، خصوصاً في بداية حكمه. وصحيحٌ أنّ ممارسة التعذيب والاختطافات تراجعت في سنوات الألفين وأن لا معتقلين سياسيين تقريباً اليوم في السجون.
كل هذا صحيحٌ. لكن صحيحٌ أيضاً أنّ شعبية رئيس الجمهورية النسبية، شعبية مهلهلة لأنّه لم يُنتخب في اقتراع ديموقراطي تتساوى فيه فرص المترشحين، وأنّه بدل أن يرحل غير مطرود في 2009، عدّل الدستور بما يسمح له بالترشح أبدياً للرئاسة متشبهاً ببن علي ومبارك وغيرهما. كذلك، بدل أن يجعل من سنوات الـ2000 سنوات انفتاح ديموقراطي، جعلها سنوات انغلاق أوتوقراطي، فقوّى الأجهزة الأمنية (خاصة الشرطة) وضيّق على الأحزاب المعارضة والجمعيات المستقلة وخنق الصحافة الخاصة واستأثر بوسائل الإعلام العمومية وسمح بإهدار ملايين لا تكاد تحصى بسبب تساهله مع سوء التسيير وتعاميه عن فساد بعض أقرب المقربين إليه (منهم وزير الطاقة السابق، شكيب خليل، وغيره كثيرون). صحيحٌ كذلك أنّ لا أحد من المسؤولين عن فظائع سنوات 1990 (عشرات آلاف القتلى وأكثر من 7000 مفقود) وعن قمع التظاهرات الشبابية خلال العقد الماضي حوسب.
أضف إلى هذا وذاك، أنّ النظام ليس الرئيسَ وحدَه، (على فرض أنّ هذا الأخير «عادل مستقيم لكنّه محاط ببطانة فاسدة»، كما يقول بعض السذّج والمتفائلين). النظام هو أيضاً جيشٌ من أكثر جيوش العالم تسييساً، واستخباراتٌ تتدخل (بنحو سافر وبمعرفة بوتفليقة) في الشؤون المدنية، من الانتخابات النيابية إلى المؤتمرات النقابية. كذلك هو حزبان رسميان (جبهة التحرير والتجمع الوطني الديموقراطي) يُسخِّران ممتلكات الدولة وأموالَها لدعايتهما ويَكسبان الانتخابات (أو يُكسِبانِها لـ«فخامته») بواسطة التزوير. والنظام هو برلمانٌ يهيمن عليه مستنفعو الائتلاف الرئاسي من وطنيين مزيفين وإخوان مسلمين مسالمين (أو فاسدين، كبعض مساعدي وزير الأشغال العمومية،عمار غول، المسجونين حالياً بتهمة الارتشاء). ثم من قال إنّ الشعوب يجب ألّا تثور إلا على نُظم كنظامي بن علي أو مبارك؟ هل رفضُ تزوير الانتخابات أو المطالبةُ بتحديد عدد الولايات الرئاسية ترفٌ ديموقراطي؟ أليس للجزائريين الحق في أن يعبّروا عن رغبتهم في التغيير إلا بعد مرور ثلاث وعشرين سنة من «استبداد تونسي» أو ثلاثين من «استبداد مصري»؟
هل الخوف من شبح الحرب الأهلية حقّاً مانعٌ من حدوث ثورة ديموقراطية واجتماعية في الجزائر؟ لا رغبة للجزائريين، بالتأكيد، في تكرار سيناريو عشرات الآلاف من القتلى والمفقودين، لكن التلويح بفزّاعة اللا استقرار استغباءٌ فاضح لهم. فلا حزب إسلامياً اليوم (كجبهة الإنقاذ في نهاية الثمانينيات) له من الشعبية ما يهدّد به بالاستيلاء على السلطة، ولا الجيشُ مستعدّ لأن يواجه جماعات راديكالية جديدة بعدما نجح في تحجيم التمرد العسكري الأصولي. أضف إلى ذلك أنّ «الخوف من الفوضى» لم يمنع انتفاضات عنيفة أهمّها وقعت في المنطقة القبائلية في ربيع 2001. أين الفزع من نشوب حرب أهلية والسجون تعجّ بمئات الشباب ممن اعتقلوا في «أعمال الشغب» التي شهدتها السنوات الأخيرة من دون انقطاع؟
يقول النظام ومناصروه إنّ الوضع الاجتماعي الجزائري، بالرغم من كلّ مشاكل البلاد الاقتصادية، ليس سيّئاً إجمالاً مقارنة بالوضع الاجتماعي في دول أخرى. صحيحٌ أنّ مرتبة الجزائر في سلّم مؤشر التنمية البشرية لسنة 2010 (الصحة/ متوسط أمد الحياة، التعليم ومستوى المعيشة) هو 84 ومرتبة مصر 101، لكن ما يميّز الجزائر عن هذا البلد لا يميّزها عن تونس التي تسبقها بثلاث مراتب (81). ما يجمع هذين البلدين الجارين هو الشعور بالحرمان من «ثمار النمو»، بل ربّما هذا الشعور أعمقُ في الجزائر بحكم ارتفاع مداخيلها الخارجية (موارد الصادرات في 2010 بلغت 55،7 مليار دولار) وتزايد فوائض ميزانيتها المتراكمة (50 مليار دولار حالياً). وكذلك، بحكم ازدياد الاقتناع الشعبي بأنّ السلطة عاجزةٌ عن توظيف هذه الثروات بما يقضي على البطالة ويُنعش الاقتصاد، ولا حتى قادرةٌ على منع تبديدها في صفقات خياليّة مع شركات محلية أو أجنبية لقاء أموال طائلة يتلقّاها المرتشون. بالنظر إلى كل هذا (وإلى عمق حس الجزائريين «المساواتي» على اختلاف أجيالهم، ما يعدّ أحد مواريث حرب التحرير)، يبدو امتلاء خزائن الحكومة عاملاً مشجِّعاً على الرغبة في التغيير لا مثبطاً لها.
لننظر أخيراً في «الطابع الأقلّي» لتظاهرة 12 فبراير/ شباط، كما قال وزير الخارجية الجزائري وأحد المحللين الجزائريين لقناة الجزيرة في يوم تنظيمها نفسه، مركِّزاً على «أنّ التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية حزب إقليمي أمازيغي» وأنّه كان منذ عشر سنوات موالياً للسلطة (ليس بخاطئ). مثلُ هذا الحديث عن التظاهرة المذكورة مغالطة واضحة لأسباب ثلاثة: الأوّل أنّها حُظرت وفُرِّقت بالقوة بـ30 ألف شرطي (أكّد عددهم الهائل أنّ الحكومة، عكس مزاعمها، تخشى مسيرات «الأقليات» لأنّها قد تشعل شرارة نار مستعرة تحرقها)، والثاني أنّ حزب سعيد سعدي لم يدعُ إليها وحده بل بالاشتراك مع نقابات وشخصيات سياسية، والثالث أنّ الحراك السياسي والاجتماعي في البلاد لا يصح ابتسارُه في هذه المسيرة المُجهَضة. هل نسي مراد مدلسي تظاهرات الشباب في مطلع يناير/ كانون الثاني 2011؟ ألا يذكر أنّ عدد تدخّلات قوات الأمن لمنع «أعمال الشغب» بلغ في سنة 2010 وحدها 11 ألف تدخّل؟ أضف إلى ذلك أنّ الانتفاضات كثيراً ما تبدأ بنحو «أقلي». فالشعب المصري لم يشارك كله في مسيرات 25 يناير/ كانون الثاني لكنّه بدءاً من 28 يناير/ كانون الثاني، تجنّد حول مطالبها إلى أن أجبر حسني مبارك على الرحيل. كذلك الأمر في تونس: انتفاضة سيدي بوزيد بقيت مطوّقة في منطقة واحدة لقرابة أسبوعين، قبل أن تشعل فتيل ثورة قوّضت 23 سنة من حكم بن علي التسلطي.
* صحافي جزائري