الثورة الشعبية الرائعة في مصر حقّقت أهم أهدافها والأحداث تتسارع عسيرةً على الهضم. من كان يصدّق أن حسني مبارك سيتنحّى بعد ثلاثين عاماً من الحكم تحت ضغط الشارع؟ من كان يصدق أنّ صورته الكبيرة التي تراقب قاعة مجلس الوزراء ستُنزع بهدوء لتعويضها بلوحة جميلة مرصّعة باسم الجلالة « الله جلّ جلاله»؟ من كان يصدّق أنّ ثروته الكبيرة ستكون محل تجميد في البنوك الدولية؟ من كان يصدّق أنّ الدستور المصري سيخضع لتعديل شامل وليس فقط في مادة واحدة منه، تعبت المعارضة في المطالبة بتعديلها في السابق ولم يستجب لها؟ من كان يصدّق أنّ قراراً بحجم حلّ مجلسي البرلمان يمكن أن يتخذ بالسرعة التي اتخذ بها؟ من كان يصدّق أن كبار المسؤولين في الدولة وفي الحزب الحاكم سيُمنعون من السفر وسيُحجز على ممتلكاتهم بقرار من النائب العام؟ من كان يصدّق اختفاء رموز الحزب الوطني و«ثلاثة ملايين من مناضليه» من الصورة؟ من كان يصدّق أنّ رجال الأمن في مصر ينظّمون تظاهرة في ميدان التحرير للتعبير عن مساندتهم للشعب وللمطالبة بزيادة الأجور؟ من كان يصدّق أنّ وسائل الإعلام الرسمية وأبواق الدعاية للنظام المخلوع ستنقلب بنحو رهيب للتعبير عن سخطها من نظام حسني مبارك والتحلل من أيّ ولاء للنظام المخلوع؟ من كان يصدّق أنّ النظام السابق سينهار بعد ثمانية عشر يوماً من الغضب والاحتجاج الميداني؟
الثورة المصرية ثورة حقيقية، لكنّها لا تشبه الثورة الفرنسية في 1789 ولا الثورة البلشفية في 1917 ولا الثورة الإيرانية في ‍1979 ولا ثورات أميركا اللاتينية، ولا الثورة التونسية المجيدة...
إنّها ثورة تؤرخ لميلاد نظريات جديدة في علم الانتقال الديموقراطي، وبعد استكمال عبورها نحو المرحلة الديموقراطية بأمان، يجوز أن نطلق عليها علم الانتقال الديموقراطي العربي. وهو علم سيختص بدراسة تجارب الانتقال الديموقراطي في البلدان العربية، وسيمكّننا من فهم ما حصل بالضبط في كل من تونس ومصر وفي باقي الدول العربية المرشحة لاختبار نظرية «الثورة طريق الديموقراطية»، ما دامت الموجة الديموقراطية الرابعة ستكون موجة عربية بامتياز...
لكن قبل اتضاح الصورة أكثر، يجوز لنا أن نسلّم بأنّ البحث في نظرية الانتقال الديموقراطي العربي ينطلق من فرضية أساسية هي وجود «الشعب الذي يعرف ما يريد»...
الشعب الذي يريد الكرامة والحرية ويصل بوعيه الفطري إلى إدراك حقيقة ساطعة هي أنّ النخبة السياسية التي يمكن الرهان عليها لصناعة التغيير الديموقراطي هي نخبة مكبّلة بثقل ثقافة سياسية محافظة، راكمتها خلال عقود من الاستبداد ولا تستطيع التحرّر منها بسهولة. وتقع على عاتق هذا الشعب مهمة تحرير الثقافة في هذه المرحلة للقيام بواجبها على أكمل وجه في المرحلة المقبلة...
إن مفهوم «الشعب» كان يستحضر في الغالب للدلالة على مختلف عناصر السلبية واللامبالاة والعزوف عن الاهتمام بالسياسة. هذا التصور يستند في الواقع إلى إشارات دالة مثل نسبة المشاركة في المحطات الانتخابية، ونسبة الانخراط في الأحزاب السياسية وحجم الحضور في المنتديات والأنشطة ذات الطبيعة السياسية، ونسبة المقبلين على قراءة الصحف والمجلات... إلى غير ذلك من الإشارات التي ترسّخ الاقتناع لدى المراقب الموضوعي بضعف الاهتمام الشعبي بالسياسة وبتعقيداتها المختلفة.
لكن الثورتين التونسية والمصرية أثبتتا أنّ عزوف المواطن العربي عن الانخراط في الحياة السياسية لا يعني عدم الاهتمام بما يجري حوله، ولا يعني أنّه لا يميّز بين الخطأ والصواب وبين الحق والباطل وبين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. بل على العكس من ذلك، إن ثوار تونس ومصر نجحوا في ما فشلت فيه النخب السياسية. لقد نجحوا في تحرير النخب من الخوف بعدما فشلت هذه النخب في تحرير مجتمعاتها من الاستبداد.
لقد أدرك الشعب بفطرته السياسية السليمة، أنّ الطبقة السياسية عاجزة عن تحقيق تطلعات شعوبها وآمالها في الديموقراطية والكرامة والحرية، فأدّى واجبه في إسقاط أنظمة التسلّط والقهر.
السؤال المطروح في المغرب، هل تملك الأحزاب السياسية القدرة على تعديل موازين القوى لاستكمال مسيرة الانتقال الديموقراطي التي توقفت منذ تعيين وزير أول من خارج صناديق الاقتراع بعد الانتخابات التشريعية في 2002 بدون سند شعبي واحتضان جماهيري؟ بدون شك، إنّ الشعب لا يثق في قدرة الأحزاب السياسية على صناعة التغيير الديموقراطي الذي يطمح إليه. لماذا؟ لأنّه يلاحظ أزمة مسلكيات في علاقة الدولة بالأحزاب وفي علاقة الأحزاب بنفسها وبالدولة. ذلك أنّ الدولة اختارت احتقار العمل الحزبي وتبخيس وظيفته، واختارت الإمعان في تهميش دور الوساطة وعقلنة المطالب التي يمكن أن تقدّمها الأحزاب السياسية، واعتمدت أسلوب التواصل الرمزي المباشر مع الشعب. وهو ما تؤدي فيه وسائط الدعاية في دار البريهي وعين السبع دوراً سلبياً خطيراً يرسّخ فكرة هامشية الدور الحزبي وانعدام فاعليته.
الأحزاب من جهتها تتحمل مسؤولية واضحة في تثبيت دعائم هذا التصور، وارتضت لنفسها مهمّة أداء بدور «الكومبارس» والاكتفاء بـ«تنشيط» الحياة السياسية عبر سجالات كلامية ومبارزات لفظية لا تسهم في الارتقاء بالوعي السياسي للمواطن ولا تساعده على فهم حقيقة الأشياء، بل تزيد، هذه الممارسات، في تشويش الصورة أمامه وجعلها أكثر غموضاً وضبابية.
ومما يزيد في تعميق الإحساس بعبثية الحقل الحزبي، حينما تلجأ الدولة إلى صناعة حزبها ومدّه بكل عناصر القوّة والنفوذ من أجل الهيمنة.
نعم في المغرب حزب أكثر خطورة من الحزب الوطني. استطاع الحزب الوطني الحاكم في مصر أن يكتسح الانتخابات البرلمانية الأخيرة في مصر بعدما تقدّم أمام الشعب المصري بمرشحين معروفين دخلوا إلى مجلس الشعب والشورى من بابه الواسع بواسطة التزوير والبلطجة. لكنّنا في المغرب نعالج حالة «حزب» استطاع أن يحتلّ المرتبة الأولى في البرلمان رغم أنّه لم يشارك في الانتخابات التشريعية في 2007!
من قال إنّ المغرب لا يمثّل استثناءً فريداً في العالم العربي؟

* باحث وعضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية المغربي