حين انتشر نداء التظاهر من أجل التغيير في المغرب يوم 20 فبراير/ شباط، تحت ضغط الرعب المنتشر في تونس ومصر، قامت حملة على الشباب الداعي إلى الحملة، بدعوى أنّهم مجموعة من «المنحلين المنحرفين أعداء الوحدة الترابية الشاذين جنسياً». وقد وفر التيار الشعبوي زخماً لهذه الاتهامات؛ لأنّه يعتمد القومية والفاحشة وسائل لتصغير مخالفيه والتحريض عليهم.فور ظهور هذه الاتهامات، أعلنت صحف حزبية ووزراء وشخصيات محافظة، منهم زعيم حزب العدالة والتنمية، موقفها: «لا للمشاركة في المسيرة». مرت الأيام، وقد قدمتْ دعماً على مستويين لدعاة التظاهر.
أولاً، بدأ الشبان بنفي الاتهامات الموجهة إليهم، وفضحوا الصور المفبركة لتشويههم، وتزايد مؤيدوهم من خارج الوسط الإعلامي التقليدي. فالفايسبوك يجعل كل شخص صحافياً يكتب ويحلل وينشر مواقفه.
ثانياً، أعلنت نادية ياسين، ابنة زعيم جماعة العدل والإحسان واليسار الجذري بكل فصائله، دعمهم للمسيرة. وتحدث عبد الحميد أمين وعبد الله الحريف عن ضرورة التغيير. هكذا اتفق النقيضان، ولهذا ثمار مؤثرة.
أمام هذا الزخم الواقعي، ظهر ترف نظري يقول إنّ المغرب استثناء. المغرب ليس تونس وليس مصر... كيف يبرر الناس كوننا استثناءً؟
يقولون إنّ الملك محبوب، يخدم بلده بإخلاص، لكن وزراءه فاسدون. الملك محبوب وحاشيته فاسدة. نحن بخير. يكفي تغيير الحاشية، لا يجب تغيير الدستور... في كلّ مرة ينتصب حاجز، يذوب بسبب النقاش وبسبب تصاعد وتيرة الأحداث في دول أخرى.
السؤال الحاسم هو: هل لدينا استثناء في الفساد؟ لا. هل لدينا ما يكفي من الفوارق الطبقية ومن سوء توزيع الثروة؟ نعم.
حين نصل إلى هذا السؤال الجوهري، ستنهار فكرة التناقض بين الملك والحاشية، التي يفسر بواسطتها الاستثناء.
سبق للمغرب أن جرب نظرية الاستثناء على صعيد الإرهاب، بعد تفجيرات ماي/ أيار 2003 في الدار البيضاء، وبعد مشاركة مغاربة في تفجيرات مارس/ آذار 2004 في مدريد، ولأن المغاربة هم الأكثر تفجيراً في العراق، تأكد أنّنا لسنا استثناء... مع ذلك، الذاكرة قصيرة. الآن نحن استثناء، لكنّي أشم رائحة الخوف في الشارع من أن تندلع شرارة في مكان ما ثم تتطور بحيث لا يعرف أحد أين تنتهي...
في الحي الذي أسكنه، امتلك أصحاب عربات الخضر الشجاعة ليتقدموا إلى شوارع أساسية. ما عادوا خائفين من أن تصادر عرباتهم مثل محمد البوعزيزي. في المحاور الطرقية، يتحدث شرطي المرور بشكل جد مؤدب، لا يقول لأحد «يا حمار»، كما في دمشق. الإعلام الحكومي غارق في المسلسلات المكسيكية والتركية، لكن عينه على الوضع، فحين أعلنت نقابة تعليمية مغربية الإضراب يومي التاسع والعاشر من فبراير/ شباط، أعلنته القناة الثانية الحكومية أيضاً. لماذا؟
قدرَت أنّ قول الحقيقة أقل خطراً من أن تسري شائعة تحوّل مسار الإضراب. يجعل جو الخوف الناس يتخذون الشائعات أساساً للتصرف. غير أنّ هذا الخوف لن يدوم للأبد، فقد وفر استمرار الاحتجاجات في مصر واليمن وليبيا دعماً نفسياً رهيباً للداعين للاحتجاج ومؤيديهم.
لم يؤد اقتحام البغال والجمال لميدان التحرير لإخلاء الساحة. لم يغيّر الشباب المصري خطته. أعتقد أنّه لولا تفجير كنيسة الإسكندرية لبدأت الاحتجاجات في مصر مسبقاً. كان تفجير الكنيسة كابحاً أشاع الشك والخوف وأخر سقوط مبارك بضعة أسابيع. ما إن نهض المصريون من الصدمة حتى رأوا الأفق الذي يريدونه. زرع هذا الخوف هو الذي دفع وزير الداخلية المصري لتفجير الكنيسة.
في المغرب، أعلنت الصحافة الإسبانية تحريك قوات أمن من جنوب البلاد لشمالها تحسباً لاحتجاجات. أما الطريقة العنيفة والمتشنجة والعالية الصوت التي نفت بها الحكومة المغربية الخبر، فتثبت درجة خوفها. هنا ظهر من يخاف أكثر: ليس الناس بل السلطة، وقد جاء الدليل من ليبيا.
فقد كانت قمة الدعم النفسي للداعين إلى التظاهر في المغرب هي انتشار الاحتجاجات ضد القذافي. من كان يتصور أنّ أحداً سيجرؤ على التظاهر ضد العقيد الذي قتل 1200 سجين في يوم واحد؟
في المغرب، ينظر إلى القذافي على أنّه قمة الجنون والطغيان. لا أحد يتخطاه في هذا المجال. وإذا كان بإمكان الشبان الليبيين إحراق صور القذافي في بنغازي، فماذا بقي؟ أليس للعدوى أثر تحريري؟ ما الذي يفصل المغاربة عن الانطلاق في درب التغيير؟ الجدار الرابع.
انتهى الخوف رغم أنّ حملات التشهير قد دفعت بعض الشباب المؤيدين للمسيرة للتراجع. حتى إنّ وزير الشباب والرياضة قال قبل يوم واحد من المسيرة إنّها مؤامرة دبرها انفصاليو البوليساريو.
أثمر التشكيك في حالات كثيرة. غير أنّه بدأت تمارين التحرر من حملات التصغير لمقاومة جدار الخوف. أعلن الداعي للمسيرة اسمه، أخذ دعاة المسيرة الكلمة في ندوات صحافية وفي مواقع إلكترونية.
حينها بدأ الاستثناء المغربي يشتغل وظهرت صياغات جديدة للمواقف. فزعيم حزب العدالة والتنمية لن يشارك. وجاءته المكافأة صبيحة 19 فبراير/ شباط، عبر إطلاق سراح القيادي الإسلامي جامع المعتصم الذي كان معتقلاً بتهم فساد. مع ذلك، ترك الزعيم الحرية لأعضاء الحزب للمشاركة كأفراد، وقد أيد القيادي عبد العالي حامي الدين المسيرة وسرت شائعة عن أنّ عضويته علقت في الأمانة العامة للحزب بتهمة التمرد على الزعيم.
كل هذا قد يكون مفهوماً. ولزيادة تشويش الخلطة، أعلنت شبيبة حزب الاتحاد الاشتراكي، المشارك في الحكومة، دعمها للمسيرة. وأعلن السيد فؤاد عالي الهمة، مؤسس حزب الأغلبية في البرلمان، أنّه يؤيد حق التظاهر السلمي والإنصات إلى الشباب.
هنا لم يعد الداعون إلى التظاهرة انفصاليين ويستحقون الرجم. عندما تأكد المتحزبون الرسميون أنّ المسيرة ستجري يوم 20 فبراير/ شباط، برضاهم أو بدونه، فضلوا أن يقفزوا إلى قيادتها بدل أن يقفوا في وجهها. وهذه تجربة تتكرر في المغرب باستمرار. يطالب زعيم حزب معارض بالديموقراطية وحقوق الإنسان. بعد أيام يسطو وزير الداخلية على الكلمات ويطرح المطالب نفسها. تصدر منظمة «الشفافية الدولية» تقريراً عن الفساد في المغرب، فتطالب، في صباح اليوم التالي، جريدة الوزير الأول بالشفافية والنزاهة وضرورة سيادة القانون.
نتيجة لهذا الاحتقار لذكاء الناس، سيخرج نشطاء أحزاب مشاركة في الحكومة للمطالبة بالديموقراطية، وهذا ابتكار لم يظهر في تونس ولا في مصر. ولو ظهر هذا الابتكار لرأينا ليلى بن علي تساند الشبان في مسيرة سيدي بوزيد، ولقدم جمال مبارك إلى ميدان التحرير يقود دبابة ويحتج على الفساد... هل تتخيّلون ذلك؟
في تونس ومصر، تصدر تحذيرات ضد محاولات سرقة الثورة وتحريفها بحيث يتغير قائد النظام بينما يبقى النظام صلباً يحافظ على مصالح المستفيدين منه. في المغرب يجري التخطيط لسرقة المسيرة، وهذا هو الاستثناء.

* صحافي مغربي