لم يستطع النظام الطائفي اللبناني والطاقم السياسي الذي ينتجه، أن يبنيا دولة تواكب العصر وتحمي البلد والمواطن وتقوم بواجباتها تجاه المجتمع. هذا أمر محسوم لا جدال فيه. فالنظام الطائفي وطاقمه السياسي بدلاً من النهوض بدور حل النزاعات وإيجاد آليات مؤسسية ديموقراطية لذلك، وبدلاً من توفير بيئة سياسية واجتماعية وثقافية تفاعلية تتظهّر فيها الاختلافات على حقيقتها من دون غش أو لعب دعائي، أي واقعيّة حقيقية لا مفتعلة، راهنية لا موروثة، ثقافية لا أيديولوجية، سياسية اجتماعية لا مذهبيّة، سلمية لا تناحرية. بدلاً من هذا، مشى النظام الطائفي وطاقمه السياسي في اتجاه عكسي. فالطاقم السياسي لم يعقّد المشهد السياسي أكثر فأكثر وحسب، بل استطاع جعل الدولة الفتيّة ومؤسّساتها الرخوة مطابقة لنظامه الطائفي. والأخطر من ذلك، أنّه استطاع، حرباً وسلماً، جعل المجتمع مطابقاً له. لقد ابتلع الدولة والمجتمع. ولم يقتصر الأمر على الفساد، بل يشهد لبنان منذ سنوات ولادة طبقة طفيلية تعتاش على أكل الدولة والمجتمع وتستخدم الآليات الطائفية المذهبية وخطاباتها في عملية حجب ولادتها وما تقوم به من سرقة ونهب. والنتيجة، التي قلَّ أن «رأى» التاريخ مثلها، هي تحويل المسروقين المنهوبين فريسةً راضيةً وحرساً وشرطة وجمهوراً للسرَقة والنهَبة. فالنظام الطائفي في هذه اللحظة هو أكبر مصرف لبناني لتبييض الأموال، يسحب الدم من المواطنين ويضخّه في طاقم سياسي آخذ في الترسّخ كطبقة سياسية اقتصاديّة. هذه حقيقة نعيشها، ندفع ثمنها، وأي تجميل لها أو تغاضٍ عنها هو جريمة، بل إن عدم فضحها ومواجهتها جريمة، وكل كلام سياسي وصفي للنظام الطائفي وحركات الطاقم السياسي وصالوناته وأجنداته ملهاة ويصب في خدمة النظام وطاقمه وديمومتهما. وبؤس هذا النظام وطاقمه وأزمتهما واضحان ويتضحان أكثر فأكثر في مرايا الأنظمة الاستبدادية والفاسدة المتهالكة في المحيط العربي.
رغم ذلك، الجدال ليس هنا، المسألة في ما يقوم به المواطنون إزاء تعقيد مشهد النظام والطاقم الطائفيين؛ فالاستبداد في لبنان مباشر وغير مباشر، وكذلك الفساد. وإذا كان المواطن في دولة استبدادية فاسدة يشارك من خلالها خوفه وخنوعه في استمرار النظام، فإنّ المواطن في لبنان يشارك من خلال المذهبية والطائفية في ذلك، ولا يتوانى في الكثير من الحالات عن إضفاء الشرعية على النظام وطاقمه (عموماً، لا على ممثله المذهبي فيهما وحسب)، بل إنَّه مستعد للقتال من أجل ذلك، متوهماً أنه يدافع عن نفسه وعن حقوق مذهبه وكيانه.
لا يفترض أن يدعو هذا التشخيص إلى اليأس أو إلى التطرف، بل إلى إعمال الفكر بالواقع والنظام الطائفيين لإبداع أساليب وطرق لتعريتهما وإنتاج خطاب لتغييرهما.
فوسط ما يجري حولنا، ربما شعر المواطن اللبناني بالخجل والتفاهة، وأحياناً تأخذه الحماسة إلى «إسقاط النظام الطائفي». وهذا مبرّرٌ ومشروع، إذ إنّ الأفق الطائفي المذهبي اللبناني مسدود. ونرى، في مصر وليبيا وغيرهما، ما تعلّمناه وذقناه، أي إنّ النظام هو ما ينتج الانقسامات ويغذّيها ليتسنى له السيطرة والاستمرار. وقد رأينا أيضاً أنّ كل انقسام يمكن تجاوزه، من خلال تغيير النظام الاستبدادي الفاسد بآخر ديموقراطي. رب قائل إن هذا تبسيط، والحقيقة أنّه أمر بسيط وبديهي. لكن شرط ذلك هو الاختيار، اختيار الخوف أو المواجهة، الطائفية أو الديموقراطية، الثقافة أو الأيديولوجيا، الحوار أو الإلغاء، الطاقم السياسي الذي ينهب ويسرق ويؤخر البلد ويلغي المواطن ويستغل القانون... أو المواطن، المبايعة أو الانتخاب، الحقيقة أو الأسطورة، التبعية أو الاستقلالية... الخ.
وهذه ليست ثنائيات، هذه خيارات، وهي ليست أجوبة، بل أسئلة. وأجمل ما تقدمه انتفاضات ـــــ ثورات الشباب والمواطنين العرب هو إعادة حق الاختيار إلى المواطن العربي، هو استعادة المواطن العربي حقّه في تقرير النظام الذي يريد إنتاجه والعيش في ظلّه، هو تحريك أسئلة العيش والوجود والبحث عنها في «الوطن» لا في الهجرة ولا في الطائفة أو الخلية أو الأيديولوجيا.
يبقى، من أجل الجدارة باللحظة التاريخية، أنّ على المؤمنين بتغيير النظام الطائفي أو «إسقاطه» إبداع أساليب سلمية والابتعاد عن آفات السلطة و«الثورة» على حد سواء، من العنف والتكفير والإلغاء والنبذ والتصنيف والتطرف والحقد والتكبّر والتحزب والتمذهب والأفكار المسبقة وعدم الاستفادة من الآخر والتجارب.
أخيراً، الفايسبوك والتويتر وسيلتان للتواصل والتفاعل والحوار، وليسا هدفاً ولا نظاماً قمعياً ولا حزباً جديداً بخطاب قديم.