ظاهرة التسريب ليست جديدة. كما أنّ هنالك أسلافاً لعملية التسريب من منطلقات مواطنية متعلقة بالصالح العام. وهنالك تراث لعمليات كشف المعلومات الحكومية من فاعلين غير رسميين، يمكن أن يستند إليه القائمون على ويكيليكس وغيره من مواقع المصدر المفتوح. وهؤلاء يقدّرون، كما يبدو، بالمئات أو الآلاف من دول عدّة ومن مهن عديدة. ويجمعهم الاعتقاد أنّ احتكار المعلومة من الحكام هو شر، لأنّه يُسهم في سوء استخدام السياسيين للقوة التي في أيديهم، وأن هذا يؤدي إلى الحروب غير العادلة وغير المبررة، أي إنه يؤدي إلى القتل، قتل المواطنين وقتل المجندين وغيرهم في الدول التي تُشنّ عليها الحرب.<1--break--> ويبدو أن حرب 2003 العدوانية على العراق، تحت غطاء من الأباطيل المفضوحة، التي كُشف كذبها لاحقاً، والتي على أساسها شُنّت الحرب وجُنّد الرأي العام بما فيه مؤسسات صحافية كاملة، هي التي ارتقت بهم من ثقافة القرصنة الرقمية أو قرصنة الشبكات المعلوماتية إلى تأسيس المصدر المفتوح.وتقع ظاهرة ويكيليكس المدفوعة بدوافع حركات الاحتجاج غير التقليدية على تقاطع تراثين، أحدهما قائم والآخر متكون في سياق تطوّر أساليب وظواهر حديثة: التراث المعروف سابقاً هو التسريب للرأي العام لأسباب ودوافع نقدية من خارج المؤسسة، والتراث الجديد الذي يتأسس هو تراث القرصنة المسيّسة (Hacktivism) (وهي تطوير القرصنة الرقمية إلى فعل سياسي قائم على الاقتناع بأن المرافق العامة ملك للجمهور ومن حق الجمهور معرفة ما يدور فيها).
لقد تفاعل التراثان في سياق جديد كلياً، هو سياق مؤلف من العناصر الرئيسية الآتية:
1 ــ واقع جديد لعالم الاتصالات تتجاوز فيه الشبكات المعلوماتية الحدود الوطنية ويصعب التحكم بها بموجب القانون الوطني المحلي ويديره وكلاء من عدة جنسيات كما يستفيد منه جمهور عابر للحدود الوطنية.
2 ــ تجاوز الإعلام التقليدي وحتى الإعلام الرقمي المُحوسَب بالمدوّنات الفردية والشبكات الاجتماعية التفاعلية التي لا تكتفي بتلقي المعلومة، بل تنشرها وتعلّق عليها وتنتقي منها ما تراه مناسباً وتعيد توصيفها قبل أن تعيد نشرها.
3 ــ في مقابل ذلك، تحوّل في العلاقة بين المعلومة والسلطة الحاكمة، بحيث لم تعد القوة مقتصرة على احتكار المعلومة، بل انتقلت إلى القدرة على بث أكبر قدر من المعلومات والصور والمشاهد والتحكم بها، لم يعد النشر الواسع وغير المنضبط أداة نقدية فقط، بل أيضاً هادمة للنقد، وبهذا المعنى محافظة.
لم تعد القوة مقتصرة على مَن يمكنه حفظ السرية والتحكّم بها عبر آليات مثل الرقابة وحجب المواقع وحتى الاعتقال، بل صارت في حوزة مَن يمكنه تحمّل أكبر قدر من الشفافية الفعلية، بل ويمكنه أيضاً إنتاج الشفافية المصطنعة، بمعنى ضخ المعلومات وتحويل غزارة المعلومات إلى حقائق نسبية متضاربة تضيع بينها الحقيقة، أو إنتاج الصور والمشاهد الإعلامية التي تهدف إلى الإثارة أكثر مما توصل إلى الحقيقة...
هذه وغيرها من الآليات التي تحوّل الشفافية إلى مصدر قوة بدلاً عن السرية.
هذه هي السياقات الجديدة التي نشأ فيها المصدر المفتوح. وهنا أيضاً نعثر على مصادر ردود الفعل المتطرفة، ومنها المطالبة باتهامه بالجاسوسية وإنزال أشد العقوبات به وحتى شيطنته، ومنها في القطب الثاني تلك الصادرة عمّن يعتبره مؤامرة من مؤامرات التحكم عبر الشفافية. فمن وجهة النظر هذه يقاس كشف المعلومات والحقائق بهوية المستفيد. وبما أنّ التحليل قد يؤدي إلى الضرر الناجم عن الوثائق يقتصر خصوصاً على حلفاء الولايات المتحدة، فيما أقصى ما تعرضت له الولايات المتحدة بعد الوثائق هو سلسلة من الإحراجات؛ فقد تكون الوثائق من وجهة النظر نفسها مسرّبة عن قصد في إطار التحكّم بواسطة التسريب المقصود، لا بواسطة حجب المعلومات. هنا يجري خلط السياقات التاريخية والظواهر الجديدة غير المفهومة لمَن نشأ وطور وعيه قبل نشوئها بالمؤامرات. لأنّ المؤامرة هي أسهل طريقة للفهم، فهي حين يجب أن ترى الذات الفاعلة تستعيض عنها بالبنية الحاكمة والمتحكمة، وحين يكون عليها تشخيص العلاقات السببية تستعيض بالدوافع والمقاصد والغايات، فتؤنسن الأسباب كدوافع والنتائج كمجرد غايات.
ونحن هنا لن نحاكم المصدر المفتوح بواسطة السؤال «مَن المستفيد؟». فالقدرة على الاستفادة حتى من أمر لم يخطط له، هي من ضمن مقومات القوة. وبغض النظر إذا كانت الولايات المتحدة مستفيدة أو متضررة من كشف الوثائق مباشرة، فمن الواضح أن علاقات الدول معها غير قائمة على الكذب لكي تتضرر من الحقيقة. إن علاقات الدول مع الولايات المتحدة قائمة على حقائق صلبة مثل المصالح والاستراتيجيات والنجاة في صراع البقاء. وعدم رغبة الناس في الحديث عنها لا يقلل من كونها حقيقة. تقوم علاقات الدول الحليفة مع الولايات المتحدة على أهداف استراتيجية وعلى حاجة هذه الدول للعلاقة مع أغنى دولة في العالم وأقواها. ومن هنا لا تتضرر هذه العلاقات؛ لأن الوثائق لا تكشف أنها قائمة على الكذب، بل هي تكشف حقيقة هذه العلاقات للرأي العام في هذه البلدان. أما الكذب الذي يكشف، فهو كذب في كيفية تقديم هذه العلاقات من حكام هذه البلدان لشعوبها. وقد يلحق ضرر بالحكام أنفسهم إذا كان الرأي العام لا يقبل بعلاقات قائمة على مثل هذه الحقائق، وإذا كان مقتنعاً في الماضي بالأكاذيب التي بُثّت حولها، أو إذا لم يكن راغباً بمعرفة الحقيقة لأن المعرفة تتطلب موقفاً، أو يترتب عليها موقف وفعل. وحتى في هذه الحالة، تنتشر آليات الإنكار، ضد الحقائق التي أتاح معرفتها المصدر المفتوح، ومنها نظرية المؤامرة لتجنّب اتخاذ موقف أو فعل.
أثار إعلان موقع ويكيليكس عن توافر عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من الوثائق المتعلقة بالدبلوماسية الأميركية، هي عبارة عن برقيات السفراء الأميركيين لرؤسائهم في وزارة الخارجية عن اجتماعات حضروها أو انطباعات جمعوها عن البلد الذي يعملون فيه أو عن مقابلات جرت بينهم وبين مَن يمكن اعتبارهم مصادر محلية للمعلومات، ضجة كبرى وردود فعل غاضبة في حكومات وفي المؤسسة السياسية الأميركية، فضلاً عن رد فعل واقعي واحد صدر عن وزير الدفاع الأميركي غيتس. وأثار كذلك ردود فعل في الإعلام الذي قامت له منافسة استقصائية تطرح عليه تحدياً غير مسبوق بنشر آلاف الوثائق غير المنشورة والمحرجة للدول والحكومات. لكن الموقع الذي يعرف السياقات التاريخية الجديدة والتطور التكنولوجي الذي يقوم عليه والذي لا يبطل أي محاولة لمنعه، كان يدرك مكامن قوته. لكنه لم يستغلها للنشر المباشر على الموقع، رغم معرفته أنه إذا أُغلق مؤقتاً فبإمكانه أن ينشرها لدى مئات بل آلاف المواقع الأخرى. فمنع النشر على الإنترنت هو أمر يكاد يكون مستحيلاً. ولا يوقف النشر باعتقال أو بحجب موقع أو موقعين. لقد استخدم الموقع هذه القوة لكي يقنع المؤسسات الصحافية الرئيسية أن تشاركه في النشر. وقد اخترق بذلك لأول مرة المؤسسة الإعلامية. وهي المؤسسة التي عاملته باحتقار، وصبّت عليه جام غضبها، ووصفته بأبشع النعوت وتناولت الناطق البارز باسمه في عملية لا تنتهي من تحليل الشخصية مختزلة إياه إلى ماضٍ مشبوه، وشكل لا يثير الاطمئنان، وسيكولوجية غير مستقرة... وغير ذلك من الوسائل البعيدة كل البعد عن التقويم الموضوعي.
هنا استخدم الإعلام أدوات حجب الحقيقة مثل نسبية الحقيقة وموقع المتكلم، وبضخ المعلومات من غير ذات العلاقة، وبصنع الصورة والمشهد وغيرها من آليات التضليل والمغالطة.
وكما اضطرت المؤسسة السياسية إلى أن تعدّل نفسها بموجب مبدأ الشفافية لكي تستوعب الإعلام، اضطر الإعلام إلى أن يعدّل نفسه لكي يستوعب منافسة المصدر المفتوح. فالمصدر المفتوح يعرف أن الإعلام الرسمي أو الممأسس هو الأكثر انتشاراً والأكثر اختراقاً للثقافة السياسية للجماهير والرأي العام. وهو أيضاً مسلح بالأدوات المهنية التي تمكنه من تصنيف آلاف الوثائق وترتيبتها، لكن الثمن طبعاً هو الكثير من الحلول الوسط بين الإعلام والمؤسسة السياسية في ما يتعلق بالمواد المنشورة.
وبالرغم من الحلول الوسط يؤدي تكيّف الإعلام المؤسسي لواقع المصدر المفتوح إلى بعث الحياة في الصحافة الاستقصائية من جديد، وقد يكون لذلك أثر كبير على الصحافة المجنّدة في اللحظات الصعبة لمصلحة ما يسمى الأمن القومي، وهي التي انساقت بسهولة إلى الإثارة بموجب قوانين العرض والطلب لتسويق نفسها كسلعة. سنرى هل الحقائق التي يُتوصَّل إليها في الصحافة الاستقصائية هي فوق قوانين السوق أم ستُسلَّع هي الأخرى؟ هذا سؤال مفتوح لا جواب لدينا عنه حتى الآن.
وما إن بدأت وسائل الإعلام بالنشر حتى كُشفت أمور عديدة متعلقة بالدبلوماسية الأميركية، ستكون لها آثار كبرى ربما ليس على العلاقات بين الدول، بل على وزن الدبلوماسية في العلاقات بين الدول. وهنالك سؤال مهم يطرح الآن عن ماذا يمكن أن تعني الدبلوماسية من دون سرية؟
لقد قام الدبلوماسيون الأميركيون بعملهم كما هو مطلوب، قوّموا أوضاع البلاد التي عيّنوا فيها، وقوّموا السياسيين، شخصياتهم، معدلات ذكائهم، نزعاتهم، نقاط ضعفهم، ثرواتهم وحتى علاقاتهم العاطفية. فعلوا ذلك كما يجدر بالدبلوماسية النشطة التي غالباً ما تعني جاسوسية ناعمة أن تفعل. وقدموا تقارير عن الاجتماعات التي حضروها على شكل محاضر أرسلت لوزارة الخارجية للعلم، بما في ذلك محاضر اجتماعات وفود مسؤولين أميركيين يزورون البلدان التي يعملون فيها. كذلك رفعوا لواشنطن تقارير مستقاة من مواطنين وشخصيات سياسية يمثّلون بالنسبة إليهم مصادر معلومات. هذا ما يقوم به السفراء فعلاً، فضلاً عن الطقوس الرتيبة وحفلات الاستقبال المملّة. وفي المجمل يمكن القول بأثر رجعي بعد نشر المواد إنّه في كثير من الحالات يبدو الدبلوماسي الأميركي كالمراسل الصحافي المطّلع، مع الفرق أنه يكتب بصراحة أكثر لأنه لا يكتب للنشر بل للعلم، ولأنه يتوخى الدقة نتيجة للشعور بالمسؤولية أن قرارات قد تترتب على تقاريره. لكنه يبقى شخصاً محدوداً بمعدل ذكاء محدود أيضاً، لذلك شابهت انطباعاته في كثير من الحالات ما ينشر في الصحف في تلك البلاد. هكذا مثلاً حُكِمَ على التسريبات من السفارة الأميركية في لندن أن تقاريرها لا تختلف عمّا يُكتب في الصحف البريطانية، وتتخللها الحِكَم الرائجة نفسها، والتذاكي المألوف في الصحافة، والانطباعات الخاطئة المنتشرة أيضاً. ويتبيّن في حالات أخرى أن تقويم شخصية السياسيين وعاداتهم يستحوذ على الدبلوماسي إلى درجة حب الاستطلاع المَرَضي على حساب القرارات السياسية والمصالح والفئات التي يمثلها السياسي. فيقدم الدبلوماسي الأميركي دليلاً إضافياً على الاهتمام البالغ الذي توليه الدبلوماسية الأميركية للفرد في صنع السياسات.
وقد تكون هذه كلها موضوعات مشوّقة وشائكة في الوقت ذاته للبحث. لكن ما يهمنا هنا هو موضوع آخر تُرجى منه فوائد لتبلور الرأي العام والنزعات العقلانية في السياسة وفي نقد السياسة، إنه إعادة الاعتبار للحقائق.
سبق أن بيّنّا أعلاه مصادر نسبية الحقائق الناجمة عن التسريبات الفضائحية المتبادلة من داخل المؤسسة السياسية والناجمة أيضاً عن التحكّم بواسطة الشفافية. وقلنا إنّ نسبية الحقائق هي الشكل الجديد لاحتكار الحقيقة من المؤسسة السياسية، وهي أداة كبرى في تجنيد الرأي العام وتحشيده لأهداف محددة، وفي زيادة وزن الإثارة والمشهد على حساب المعلومة والمضمون. ومن سخريات هذه العملية أنها استخدمت ضد القائمين على المصدر المفتوح، فكان التركيز على تاريخهم الشخصي وعلى شكلهم وهندامهم، ورُوّجت أخبار عن فضائح جنسية وغير ذلك في محاولة للتغطية على المعلومة. وتبيّنت مدى قابلية هذه الأدوات الفكرية المتعلقة بزاوية نظر المتكلم وتاريخه وثقافته للاستخدام لأهداف سياسية سيئة من النوع الذي لا يمكنه تبرير ذاته أمام الجمهور بصراحة.
لقد كان لغضب الحكومة الأميركية على كشف الحقائق وتسخير كل الوسائل لمنعها في البداية، ثم اضطرار المؤسسات الإعلامية إلى التعامل معها لأسباب متعلقة بالتنافس في ما بينها والتنافس بينها جميعاً من جهة المصادر المفتوحة والإنترنت من جهة أخرى، أثر جانبي هام جداً في رأينا، هو إعادة الاعتبار إلى الحقائق في السياسة، وهي خطوة تقع في صلب تراث التنوير. والتنوير أصلاً وحرفياً هو عكس الجهل والتجهيل. والمنطلق الرئيسي لفلسفة التنوير الذي تدحضه النسبية بعناوينها المتخلفة، نسبية ثقافية ونسبية معرفية وغيرها، هو أن معرفة الحقيقة بحد ذاتها هدف لا يصح من دونه تنظيم المجتمعات على أسس أخلاقية صحيحة، ولا يصح من دونه تأسيس ما يمكن تسميته «الخير العام». كانت فلسفة التنوير القدية تنحو المنحى القائل إن المعرفة تجلب المنفعة والخير وأيضاً الأخلاق الحميدة. فهي ربطت سوء الخلق بالجهل.
لكننا أصبحنا نعرف أنه لا علاقة ضرورية بين الخير والعلم. ومع ذلك إذا رغبنا في تخيّل ما يمكن أن يعنيه التنوير في عصرنا، فسنقول إن أي تنوير ممكن في عصرنا يصر على أنه إذا كانت المعرفة لا تقود بالضرورة إلى الخير، فإن الجهل يقود للشر بالضرورة. ربما هذه هي العلاقة التي تؤكدها فلسفة التنوير بين المعرفة والأخلاق. فماذا لدينا لنقوله في هذا الموضوع هنا؟ أريد أن أصوّر الأمر بنحو أكثر عينية عبر ما سُرّب من وثائق عن موقف الأنظمة العربية بالولايات المتحدة وإسرائيل من العدوان على غزة وأيضاً موقفها من استخدام القوة ضد إيران في مسألة الطاقة النووية الإيرانية.
كان التحليل المنطقي يقود إلى ما يأتي: تدفع مصالح الأنظمة العربية وعلاقاتها بالولايات المتحدة، في مقابل التحديات الداخلية التي تواجهها إلى أن ترى في القضية الفلسطينية عبئاً لا بد من التخلص منه، وأن أي حركة مقاومة فلسطينية هي عقبة في طريق التوصل إلى تسوية من النوع الذي تقبله إسرائيل وهذه الأنظمة، وأنها منطقياً لا بد أنه كانت لها مصلحة من الحرب الإسرائيلية على غزة للتخلص من الحكومة. كان هذا تحليلاً قائماً على معطيات عامة ملموسة وعلى تحليل عقلاني. لكن لم يكن هنالك تسجيل لرئيس عربي أو لمسؤول عربي يثبت أن بعض الحكومات العربية تعلم بالعدوان ولا تعترض عليه، أو أن لها مصلحة به. جاءت الوثائق المنشورة وقدمت هذه الأدلة.
كان التحليل العقلاني يقابَل بتحريض إعلامي من الصحافة المقرّبة من الأوساط الرسمية، أو بشعارات وطنية وقومية من هذه الأنظمة، أو بتعبئة الرأي العام ضد التحليل العقلاني باعتباره تهجّماً على الدولة أو على رئيس الدولة وتشكيكاً بنزاهتهم ووطنيتهم... وفي كثير من الأحيان اعتمد على التخويف والإحراج ليتراجع التحليل العقلاني أمام إمكان التهمة بأنه يقوم بالتخوين. فماذا جرى؟ أعاد نشر هذه التسريبات الاعتبار للتحليل العقلاني بأنها نشرت الحقائق فأظهرت انسجاماً بين الحقائق المكتشفة والتحليل العقلاني السابق. ففي النهاية ورغم كل التهريج الإعلامي في الظاهر غالباً ما تسلك الدول في الخفاء سلوكاً براغماتياً قائماً على المصالح والحسابات يمكن استنتاجه بالتحليل العقلاني. ولا شك في أن هنالك دور اللاعقلانية السياسية وللعواطف مثل الحسد والغيرة والحقد في سلوك السياسيين وقراراتهم، لكن هنالك قدر كبير من العقلانية بحكم سلوك الدول بناءً على مصالحها وبناءً على أهدافها، هذا ما تبيّنه الوثائق المسرّبة من حقائق. وعندما تنسجم الحقائق المكشوفة مع التحليل العقلاني الذي قام على افتراضات، فإن هذا الأمر يسمى إثباتاً، وهو يعيد الاعتبار لبعدَي التنوير هذين: الحقائق والتحليل العقلاني.
ينطبق الأمر نفسه بدرجة أكبر على تأليب الحكّام العرب للولايات المتحدة لتوجيه ضربة عسكرية لإيران. لقد قاد أي تحليل منطقي إلى استنتاج ذلك من دون معرفة الوثائق. لكن التصريحات السياسية والبيانات الختامية والزيارات الرسمية كانت تروج عكس ذلك. وهي لم تكن تنفي عن نفسها مثل هذه التهمة، بل كانت تدعو علنياً إلى استخدام وسائل دبلوماسية فقط، وإلى عدم استخدام القوة. لكن الوثائق المنشورة بيّنت أنه في الاجتماعات الجدية والرسمية تلحّ بعض الدول على استخدام القوة العسكرية ضد إيران، وتكذب في العلن، وأن الولايات المتحدة تتفهّم هذا الكذب. إنها تتفهّم اضطرار الحكومات إلى الكذب على شعوبها، فالشفافية ممارسة إذا صحّت تصحّ داخل الدول الديموقرطية الغربية.
أعادت التسريبات في المصدر المفتوح بهذه الكمية وبهذه الغزارة الاعتبار للعقل في الحيّز العام.
وأخيراً، حتى عصر المصدر المفتوح كان تسريب مثل هذا الكم من الوثائق لا يكون سرياً، بل على شكل نشر رسمي للوثائق بعد ثلاثين أو عشرين عاماً بموجب قوانين تنظّم نشر الوثائق السرية الرسمية للباحثين أو المؤرخين بعد أن يزول خطر نشرها، لذلك كانت العقلانية في التحليل السياسي أمراً متروكاً للمؤرخين لاستنتاج الدوافع الحقيقية للسلوك السياسي للحكومات والدول في الماضي.
أما المصدر المفتوح فقد جعل الأمر متاحاً لما يمكن تسميته بالتعامل مع الحدث اللحظي بمنهجية المؤرخين. وهذه استعارة فقط. فالمصدر المفتوح لا يحوّل المتلقّين إلى مؤرخين منكبين على الوثائق بنهم في أرشيف، تماماً كما لا تحول المدونة كل إنسان إلى صحافي. لكنها من دون شك تفتح مجالات جديدة لعمل المحاكمات العقلية والتفكير النقدي. نقطة للتفكير.

* مفكر عربي