«أين هم النساء؟». بدأ هذا السؤال يتكرر، في ظرف أسبوع أو أقل، بعد بدء الثورة في مصر وتجمّع الثوار في ميدان التحرير. في البداية، سمعته من صحافيين في الولايات المتحدة، ثمّ بدأ يظهر على صفحات الفايسبوك والتويتر، وفي حوارات بين ناشطات نسويات وأكاديميات من المنطقة. وردّة فعلي الأولى كانت حالة من الانزعاج، وشعوراً بالامتعاض من إحساسي بأنّ علينا أن نبرهن على وجود النساء في الثورة لسبب ما. ولم أفهم تماماً أسباب انزعاجي من السؤال فبدأت أفكر في أبعاده وتفاصيله.
بطبيعة الحال، فإنّ طرح السؤال من قبل غربيين واستشراقيين سيسبّب انزعاجاً لأنّه يأتي من منطلقات، نوعاً ما عنصرية. منطلقات ترى أنّ النساء في المنطقة العربية يقبعن داخل بيوتهن، بعيداً عن الأنظار، لا يشاركن في المجتمع أو في الدولة، والأهم في الواقع والمعترك السياسي. وبالتالي، هناك بحث عن وجودهن. وبعد انتشار الصور التي تظهر مشاركة النساء، تبدأ الأسئلة الاستفزازية عن مشاركتهن في الثورة أو التظاهرات، والانبهار من أنّ النساء المحجبات أيضاً في الصور يصرخن ويطالبن بإسقاط النظام. وكأنما الحجاب يمنع النساء من الخروج والكلام والتفكير. فنحن كلنا نعرف أنّ النساء شاركن في الثورات وفي الحروب، وشاركن كسياسيات وكمقاتلات وكثائرات من أخوات القسّام (عز الدين القسام) إلى المجاهدات في الجزائر، إضافة إلى أدوار أكثر تقليدية من داعمات ومسعفات وغيرها. ونحن بطبيعة الحال نرى يومياً، مشاركة النساء في قطاعات العمل والتعليم وإلى آخره، مثل كلّ النساء حول العالم. وبالتالي يكون السؤال مزعجاً، وكأنّ الغرب يكتشف هذه الأمور اليوم، وكأن كلّ الدراسات والكتابات لم تجدِ، وأنّ كلّ العمل على تغيير الصور النمطية في الغرب، لم يستطع أن يحدث نقلة نوعية في المجتمع.
لكن الانزعاج من المقالات والحوارات التي كنت أقرأها أو أشارك فيها، بدأ يقلقني أكثر. من ناحية، كان السؤال يتردد «أين النساء؟»، ومن ناحية أخرى، كانت الإجابات تتدفق في صفحة على الفايسبوك حول صور النساء، وفي مقالات تتحدث عن دور النساء، وغيره. وبطبيعة الحال، كنت ممن شاركوا في هذه الإجابات، إذ أجبت عن أسئلة صحافيين في مقابلات تلفزيونية وإذاعية بحكم عملي هنا. ووجدتني أقول لنفسي إنّني أؤدي دوري وحسب، وهو دور بسيط (وعن بعد) في سند الثورة ودعمها، من خلال تهشيم الصور النمطية للنساء ومحاربة الإسلاموفوبيا التي دعمت الديكتاتوريات في بلادنا، وكانت، خلال هذه الأيام، مشغولة بالإخوان المسلمين وخطورتهم. وخطورة الإخوان، على ما يبدو، لا تكمن في موضوع الإرهاب والخوف على «حرية» و«ديموقراطية» المجتمع الأميركي أو الغربي، أو على معاهدات السلام، بل بشكل أساسي كان الهم حول حقوق النساء والمساواة. يا للشهامة. أصبحت الآن مساواة النساء وحقوقهن، مهمة في نظر كلّ الصحافيين والعامة الذين واللواتي أردن ألا يصيب النساء تراجع، مع وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة. لم يسأل هؤلاء، في يوم من الأيام، ما هو تأثير سياسات البنك الدولي على المزارعات والعاملات في مصر، ولم يسألوا يوماً كيف منع قانون الطوارئ النساء في معامل النسيج وغيرها، من التنظيم والتظاهر للمطالبة بحقوقهن، وكيف حوربت الناشطات وسُجِنَّ ولوحقن في تونس وفي مصر. كما لم يسألوا كيف أدّت سياسة الخصخصة والباب المفتوح إلى تأنيث الفقر في مصر، وهجرة أعداد هائلة من المصريين، تاركين وراءهم عائلات. ولم يسألوا في السابق كيف استطاعت السيدة الأولى ومؤسسات الدولة لشؤون المرأة (مثل المجلس القومي للأمومة والطفولة وغيرها) في مصر، كما السيدات الأُوَل في كل المنطقة، من خطف الحركة النسائية والاستئثار بالعمل النسائي والتمويل الخارجي لها، وغيرها من الأمور.
رغم كل ذلك شاركتُ، وشارك جزء منّا، من منطلق الغيرة والمحبة للنساء، والوعي لأهمية التوثيق في سرد التاريخ، كي توجد لاحقاً صور ومقالات ومدونات تعبر عن النساء، وترسل صوتهن عالياً. ولكن بدأت أفكر أكثر أنّنا ربما نحاول أن نبرهن أنّ للنساء دوراً. وبالتالي طرح السؤال نفسه، نبرهن لمن؟ ولماذا؟
هل في اندفاعنا لنصرة النساء ودورهنّ في المجتمع نكون قد تشبّعنا بالأفكار النيوليبرالية حول حقوق النساء؟ هل أصبح الخطاب الإمبريالي حول النساء، في المنطقة العربية، متغلغلاً في داخلنا إلى درجة أنّنا نتوجه مباشرة إلى الإجابة عن أسئلته المفترضة وطروحاته؟ وهل يدفعنا ذلك إلى المغالاة في دور النساء؟
في مقال كتبته رايتشال نيوكومب (1) مثلاً، وتحديداً في الفقرتين الأوليين، يبدو كأنّ امرأتين شابتين أسقطتا نظام حسني مبارك. وفي مقالات أخرى، نجد أحكاماً مماثلة، تعطي الدور الأساسي لبدء التظاهرات إلى الشابة الشجاعة أسماء محفوظ، وتعطي نوعاً من الدور البطولي الخارق إلى النساء (ولا أقصد هنا التقليل من أهمية البطولات التي قامت بها نساء فعلاً). وبدأ عدد من الأكاديميات والناشطات بالترويج أيضاً للمقالات التي تتحدث عن وجه المعارضة النسائي في اليمن، بدون تفكير عميق لما يروّجن. وفي مقال تلو الآخر، نرى حديثاً عن توكل كرمان يصفها بالمعارضة والمناضلة، ويتحدّث عن منظمتها المهتمّة بالدفاع عن حقوق الإنسان، وعن كونها أمّاً، وما إلى ذلك. ولكن لا يتطرق المقال (2) أبداً إلى انتماءاتها الحزبية مثلاً، وإلى مصادر نجاحها وموارده، وغيرها من الأمور النقدية التي يجب على العمل الصحافي والبحثي أن يتقصى عنها. فكرمان تنتمي إلى حزب الإصلاح الإسلامي الذي كان سبباً رئيسياً في تخلّي اليمن بعد 1994 عن عدد من القوانين المهمّة للنساء، مثل القانون الذي يحدّد سنّ الزواج. فهل تصحّ المقولة هنا بأنّ الهوية الجندرية تطغى على الهوية السياسية عندما تكون المرأة في السياسة؟ فالمرأة في السياسة لا تقويم على سياستها بل على أنوثتها. وقد حاربت النساء كثيراً كي لا يُنظر إليهن في السياسة ويجري تقويمهن على أنّهن نساء، بالتحدث عن ملبسهن وشعورهن وأمومتهن، قبل أو بدون الانطلاق إلى مواقفهن السياسية. ونبدو اليوم كأنّنا نساهم في ذلك، نتغاضى عن مواقف النساء ومنطلقاتهن السياسية، في مقابل أنّهن نساء يظهرن على صفحات الجرائد، في واجهة التظاهرات، ويبرهنّ، لنا وللغرب، بأنّ النساء هنا، يُجِبن عن السؤال بكل وضوح. فهل يجب ألا نسائل هؤلاء النساء عن مواقفهنّ من النسوية ومنظورها لحقوق النساء؟
ما قامت به أسماء محفوظ، وغيرها من النساء الكثيرات، ينمّ عن شجاعة مطلقة وشعور بالمسؤولية تجاه الوطن ورغبة بالحرية. كما أنّ وجود النساء في التظاهرات، ومحاربتهنّ للقمع ومشاركتهنّ، هو أمر في غاية الأهمية، ولا أحاول أن أقلل من ذلك. لكنّني كنسوية أودّ، في الوقت نفسه، أن أذهب بالحوار إلى أبعد من ذلك، خوفاً من أن نعيد إنتاج التاريخ الذي أتى بنا إلى هذه اللحظة. أعتقد أنّه لا يجب أن نتغاضى، في حالة الفورة العاطفية والشعور العارم بالسعادة لنجاح ثورة محض شعبية في تغيير مجرى التاريخ، عن وعي المخاطر المحدقة واحتمالات التراجع، وخصوصاً بالنسبة الى النساء.
فخطاب أسماء محفوظ (3) كان معزِّزاً للأدوار النمطية للرجولة والأنوثة في المجتمع. فقد توجّهت في خطابها إلى الرجال والشباب، تطلب منهم أن ينزلوا إلى الشارع، تعيبهم في رجولتهم الناقصة (التي بترها النظام ربما). وبينما تتكلم عن «حقنا كبني آدميين»، وتتحدث عن الكرامة والحق في العيش الكريم، كانت أيضاً تتوجه إلى الرجل: «كل واحد في البلد دي شايف حالو راجل ينزل»، «لو إنت عندك كرامة، وإنت إنسان وراجل في البلد دي، تبقى تنزل، تنزل تحميني وتحمي أي بنت». بطبيعة الحال، تستخدم أسماء لغة معروفة ومقبولة مجتمعياً، لكي تبني في نفس من يسمعها الرغبة في المشاركة. تعيب الصامت عن الواقع من منطلق كونها «بنت» ترفض أن تكون صامتة، فأين أنت، أيها المشاهد والسامع من ذلك الموقف؟
فهل لهذا الخطاب أبعاد جندرية، أم أنّنا سنأخذه فقط من منطلق امرأة شابة تشارك في تحرير بلدها وتقوم بخطوة هامة للمساهمة في التغيير؟
من جهة أخرى، نعرف، تاريخياً، أنّ الثورات تعدّ حالات استثنائية، في الوقت الذي تعطي فيه أيضاً المساحة للتغيير وللتعديات. ففي حركات التحرر من الاستعمار سابقاً، نجد أنّ النساء خرجن عما هو معتاد لطبقتها أو محيطها، فخرجت النساء المصريات من طبقة معينة إلى الشارع في تظاهرة في السيارات تضامناً مع ثورة 1919 ضد الإنكليز (4)، وقامت النساء أيضاً من مستويات معينة في فلسطين بتظاهرة في عام 1933 وألقين خطباً في المسجد العمري وفي كنيسة القيامة (5). وفي لبنان أيضاً، خرجت النساء ودخلن أحزاباً سياسية، وخرجن بتظاهرات ضد الانتداب، ولاحقاً لدعم الثورة الجزائرية. فشكل الدافع الوطني نوعاً من الغطاء الحامي للنساء، جعل من مشاركتها في الحيز العام أمراً مقبولاً، وفي أحيان عدّة مطلوباً. وبحسب دراستي في لبنان (6)، توسع إطار مفهوم الأمومة لكي يضمّ الغيرة على الوطن، وبعضنا تحدث عن تسييس مفهوم الأمومة، وبعضنا الآخر رأى في ذلك تعزيزاً للدور النمطي للمرأة (كما في تحليل دور صفية زغلول (7)). ومن الملاحظ أنّ النساء والرجال، الذين شاركوا في هذه الحركات خطوا خطوات عامة في اتجاه تعزيز المساواة، وإن لم ينجحوا بالكامل. إلا أنّ تلك المشاركة كانت هامة في تغيير التعاطي ما بين الجنسين ومع الدولة والمحيط والمجتمع. تحصل نقلة نوعية في العلاقات، لم تستطع تغيير المجتمع بأكمله، لكنّها استطاعت أن تغيّر في جيل، وفي مجموعات من تلك الحقبات.
وفي الحقيقة، فإنّ المساحة العامة لا تزال صعبة نوعاً ما للنساء، رغم اختلافاتهن واختلاف تعاطيهنّ معها. فالنساء من الطبقات الغنية لا ينزلن يوميّاً الى المساحات العامة، ولا يستخدمن المواصلات العامة. بينما ترداد نساء الطبقات المتوسطة والفقيرة على المساحات العامة عادة شبه يومية لقضاء الحاجات والذهاب إلى العمل. وتتعرض كل من تتردد على المساحة العامة لمضايقات عدّة، إذ بصورة عامة، لا يزال المجتمع في معظم الدول العربية (ومنها بشكل أكبر بكثير من غيرها) يرى أنّ الحيز العام هو ملك للرجل، فالبطريركية في المجتمع ومؤسسات الدولة تعزز هذه الأفكار، فيُعدّ وجود المرأة نوعاً من التعدي والاعتداء يتطلب عليه عدداً من أطر التأديب والمراقبة. وبالتالي، فإنّ مشاركة النساء في التظاهرات هو أمر مهم جداً لكسر هذه الحواجز. وكانت النساء في تونس واعيات للتحديات، فعمدت المؤسسات النسوية الى تنظيم تظاهرة كبرى لتطرح فوراً على الثورة أجندتها النسوية وتسائل موقفها من حقوق النساء. وكان للنساء في إيران دور مهم أيضاً، خلال التظاهرات في 2009، إذ كانت حملات التوعية من الأدوات الأساسية للتعبئة والمشاركة في التظاهرات، فظهرت الأصوات التي تحدثت عن حقوق النساء، لا فقط عن الحرية والكرامة بالشكل العريض.
وفي اعتقادي أنّ النساء والرجال اللواتي والذين عملوا جنباً إلى جنب وناموا على الرصيف وفي الميدان معاً، قد تغيّروا كأفراد في المجتمع. أكثر النساء (ومنهنّ نهى رضوان (8) في مقالة في «جدليّة») تحدّثن عن هذا التغيير الذي كان ملموساً على نحو كبير، وخصوصاً في موضوع التحرش الجنسي الذي أصبح الحدّوتة الأساسية التي يحاول الجميع من خلالها برهنة حالة التغيير. بالتأكيد، فإنّ العلاقات في إطار محاولة لخلق مجتمع مصغّر داخل الوطن يعيش الأحلام والمبادئ الجميلة، ستكون مختلفة عما اعتاده الناس في ظل حكومات تعامل البشر على أنّهم أقل من حيوانات وحياتهم رخيصة جداً. حكومات عوّدت الجميع أن يبتزّوا ويطلبوا ويرشوا. حكومات ترى أن البطش والعنف هما الأداة الوحيدة لحل الخلافات وتحقيق الرغبات. إذاً، تغيّرت علاقة الناس في الميدان بعضهم ببعض وبالدولة والوطن. ولكن، إلى أي مدى تستطيع أن تكون الخطوة الثانية كبرى في تغيير المجتمع ككل ومؤسساته، وبالتالي الحفاظ على هذا التغيير الفردي وتحويله إلى تغيير مجتمعي بالكامل؟ الموضوع صعب ونتائجه غير أكيدة.
فكما قالت ديما قائدبيه (9) في مقالها في «صوت النسوة»، فإنّ معظم معارك النساء ستبدأ بعد أن تعود الجموع المحتشدة إلى البيت. وبينما أؤمن بمبادئ الثورات المرتكزة على الحرية والمساواة والكرامة والديموقراطية الحقة والعيش الكريم، لا يسعني إلا أن أفكر بكيفية ترجمة هذه المبادئ الجميلة إلى حيوات النساء. فكنسوية عربية تحمل تاريخها في جيبها دائماً، أفكر بكلّ التضحيات التي قدمتها المجاهدات والثوريات في سبيل تحرير الوطن ليصدمن بواقع وقوانين سلبت حريتهن على مدى الأربعين أو الخمسين سنة التالية. فهل تستطيع هذه الثورات أن تكسر قيود البطريركية (التي بمنظوري تتفاعل مع العنصرية والطبقية والطائفية) التي تكبل النساء والرجال في مجتمعاتنا؟ وبينما تحاول الثورات على الأقل في تونس ومصر المحافظة على ثوريتها في مواجهة قوى فتاكة متجذرة، ربما السؤال الأصح يجب أن يكون: أين هم النسويات؟

* نسويّة وباحثة مستقلّة تعيش في
أوكلاند، كاليفورنيا، مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الصندوق العالمي للنساء

هوامش
(1) http://www.usatoday.com/printedition/news/20110223/column23_st1.art.htm
(2) http://www.time.com/time/world/article/0,8599,2049476,00.html
(3) http://www.youtube.com/watch?v=SgjIgMdsEuk
(4) Egypt as a Woman: Nationalism, Gender, and Politics by Beth Baron (2005) UC Press.
(5) Gender in Crisis: Women and the Palestinian ResistanceMovement, by Julie Peteet (1991)
(6) The Culture of Motherhood: An Avenue for Women’s Civil Participation in South Lebanon, Journal of Middle East Women’s Studies, Vol 2, No. 1, P.33-64, 2006.
( 7) Nurturing the Nation: The Family Politics of Modernizing, colonizing, and Liberating Egypt by Lisa Pollard (2005), UCB Press; and Egypt as a Woman: Nationalism, Gender, and Politics by Beth Baron (2005) UC Press.
(8) http://www.jadaliyya.com/pages/index/694/how-egyptian-women-took-back-the-street-between-two-“black-wednesdays”_a-first-person-account-
(9) http://www.sawtalniswa.com/2011/02/egyptian-law-and-women/