أسقطت الثورات الشعبية العربية القضية الفلسطينية من شريط الأخبار. تبوّأ الفلسطينيون مقعداً قلّما جلسوا عليه من قبل. أصبحت الأضواء مركزةً حواليهم، لا عليهم. صار لزاماً على الفلسطيني أن يحدّد موقفه من فعل المؤازرة للشعوب العربية، وهو الذي كان دائماً في موقع انتظار هذا الفعل، لا القيام به. إزاء ذلك تذكّر الفلسطينيون، سلطتين وشعباً، الثمن الباهظ الذي دفعته قضيتهم، بسبب دعم ياسر عرفات للرئيس العراقي السابق صدام حسين في غزوه الكويت. فَرَضَ الدرس التاريخي القاسي عليهم أن يحافظوا على التوازن في علاقاتهم مع الأنظمة والشعوب العربية، رغم التقاطعات، بل والتطابقات أحياناً، بينها. عندما بدأت الاحتجاجات التونسية، تحلّت السلطتان في رام الله وغزة بـ«فضيلة» الصمت. لكنّ السقوط المفاجئ لـ«زين العرب» (كما كان يحلو لعرفات تسميته) أنطق السلطتين. تحدّثت حركتا فتح وحماس بعد طول صمت، مباركتين انتصار الثورة التونسية، لكنّهما دعتا إلى «فلسطنة» هذه الثورة، إذ حرّضت كلّ منهما أنصارها على ثورة مشابهة على الحركة الخصم. الحركتان فاجرتان في الخصومة. والفجور في الخصومة صفة من صفات المنافقين. لذلك، لم يكن مستغرباً أن تقدم الأطر الطلابية والتكتلات النقابية، التابعة لحركة حماس، على إحراق صور الزعيم الليبي معمر القذافي، ورميه بأقذع النعوت، وهو الذي كانت صوره تملأ جدران الشوارع الرئيسية، في قطاع غزة، قبل 6 أشهر فقط. صور علّقتها لجان كسر الحصار، المقربة أيضاً من حماس، عندما كانت تنتظر وصول سفينة مساعدات، أرسلتها «مؤسسة القذافي للتنمية» التي يرأسها سيف الإسلام القذافي.
وجه آخر من وجوه النفاق كان قد لاح، في الأيام الأولى للثورة المصرية. باغتت الأجهزة الأمنية الحمساوية عدداً من الناشطين الحقوقيين والصحافيين، أثناء تجمعهم لدعم الثورة، لتعتقلهم وتصادر متعلقاتهم، قبل أن تفرج عنهم وقد أجبرتهم على التوقيع على تعهد بعدم تكرار فعلة كهذه. وكذلك فعلت سلطة رام الله مع من خرجوا لدعم المصريين في أكناف حكمها. كلّ ذلك اختلف بعدما طاح الجمل. سنّت حماس سكاكينها، وتصدّرت المرحّبين بسقوط مبارك، وبدأت تتحدث عن سوء صنيعه معها.
ومع انتقال انفلونزا الثورة هذه من محيط عربي إلى آخر، تحسس الشباب الفلسطيني أحواله ليجدها أدعى للثورة وأكثر نضجاً لإشعال فتيلها. لكن المشكلة تكمن في هدف الثورة، لا في الثائرين. فإذا كان الهدف، وهو رأس النظام، واضحاً، في ليبيا، ومن قبلها مصر وتونس، فهو مبهم غير معلوم بالنسبة إلى الفلسطينيين الذين يحارون على من يبدأون ثورتهم، وبمن ينتهون. الاحتلال أولاً، ومن بعده سلطتا فتح وحماس، أم العكس هو الأوجب والأصوب؟ بعضهم رفع شعار «الشعب يريد إنهاء الانقسام لإنهاء الاحتلال»، لكن إنهاء الانقسام هذا، مرموز فارغ وحمّال أوجه، تندرج تحته مآرب وأهداف أخرى، ستجعل من وأده أمراً سهلاً بالنسبة إلى السلطة الحاكمة. تحت هذا الشعار مثلاً، دعت حركة فتح إلى ثورة سمّتها «الكرامة»، في قطاع غزة. وقالت مصادر غير رسمية إنّ فتح رصدت 600 ألف دولار لترتيب هذه الثورة. ملأت الدعوات صفحات الفايسبوك، وظهرت إعلانات مدفوعة الثمن على الموقع ذاته، تدعو إليها. لكنّها فشلت، لأنّها حملت عوامل فشلها في ذاتها؛ وليس لأنّ حماس التي اعتقلت، عشيّتها، مئات الفتحاويين أفشلتها.
حماس تتعامل بمنطق أمنيّ مع كلّ من تتوفر فيه شبهة معارضتها. في غزّة مخبر على كلّ مواطن. ثمة ثورة في طور الانبعاث، يرتّب لها شبان غير مؤطّرين، في كلّ من قطاع غزة والضفّة الغربية، ويفترض أن تتبلور فعلاً على الأرض في الخامس عشر من آذار (مارس). شبان هذه الثورة، في قطاع غزة، استبقوا التهمة المُنتظرة بـ«التخابر مع رام الله»، الكفيلة باعتقالهم ومحاكمتهم، بالتنسيق مع قيادات حركة حماس ونوّابها. لكن ذلك لم يكن كافياً. أرسل جهاز الأمن الداخلي استدعاءات لعدد كبير منهم، وفتّش حواسيبهم وهواتفهم. وعندما فشل في العثور على قرينة تدينهم، حمّلهم مسؤولية أيّ أحداث عنف قد تصحب خروجهم المنتظر، منتصف الشهر الجاري.
بيد أنّ إنهاء الانقسام أصبح أبعد منالاً من أي وقت مضى. الثورة المصرية أسقطت، من بين ما أسقطته، ورقة المصالحة. مالت كفّة ميزان القوى لمصلحة حركة حماس التي تمنّعت عن التوقيع على الورقة، طوال الفترة الماضية. تجهّمت فتح، ولم تعد قادرةً على ترداد أسطوانتها بأنّ حماس هي من تعطّل المصالحة «لأنّنا وقّعنا وهي لم توقّع»؛ فالورقة برمّتها ذابت. تروّج فتح لما يحدث في الدول العربية على أنّه التطبيق العملي لنظرية الفوضى الخلّاقة. وتحاول أن تقنع عناصرها بأنّ الاحتجاجات الشعبية تُدار من قوى خارجية، للخلوص إلى هدف «فرض هيمنتها على المنطقة وشعوبها، ونشر القلاقل والفوضى من أجل تقسيمها، وخلق قضايا تبعد القضية الفلسطينية عن رأس الأولويات وتفتح باباً لهروب العديد من الأطراف من تنفيذ الالتزامات المترتبة عليها تجاه حل قضية الشرق الأوسط». ثم جاء الفيتو الأميركي على مشروع القرار المدين للاستيطان في مجلس الأمن، لتقول فتح «هذه أولى البشائر، ألم نقل لكم؟»، وكأنّ ما حدث كان بدعاً لا سوابق له. أما حماس، فهي تنظّر لما يحدث على أنّه امتداد لمشروعها الإسلامي الكبير، وبداية الانفراج لفشل نموذجها في قطاع غزة. «المستقبل للإسلاميين»، كانت تقولها حماس أمس خافتةً، وأصبحت اليوم صراخاً.
لقد أصبحت الدعوة إلى إنهاء الانقسام فارغةً ممجوجة. تشعبت الأزمة الوطنية منذ رُفع هذا الشعار. على الشباب أن يحدّدوا مرادهم، بعيداً عن العناوين البراقة والعاطفية. عليهم أن يثوروا على أنفسهم قبل، ومن ثم على كلا النهجين البائسين، لا على كونهما منفصلين، لأجل تحقيق محاصصة تعيد لحمتهما. ثمّة سلطتان فاشلتان: الأولى في الضفة الغربية، تؤدي مهمة وظيفية لمصلحة الاحتلال، وتمعن في قمع الحريات بمبرر عدم السماح بتكرار ما حدث في غزة. والثانية في غزة، تراوح مكانها من دون تحقيق تقدم يذكر في أي مجال، وتتظلل بشعار المقاومة لأسلمة الوطني، وفرض مفاهيم ثقافية أحاديّة على مجتمع متنوع ومتعدّد التوجهات. إنّها الثورة الأكثر تعقيداً واشتباكاً على الإطلاق.

* صحافي فلسطيني