لم يسعَ عمر أميرلاي يوماً إلى تجذير الحالة القطبية التي ميّزت علاقته بالنظام في سوريا. مثله في ذلك مثل كثير من رموز المعارضة السورية الذين تحلّقوا حول جثمانه في دمشق قبل فترة. فهؤلاء يتشاركون مع عمر رؤيته القائلة بالتغيير السلمي في سوريا. لا مكان في هذه الرؤية (حتى الآن) لدعوات التثوير وقلب الأنظمة، كما يحصل اليوم في مصر وتونس وليبيا واليمن والبحرين. المطلوب «فقط» مزيد من الحريات العامة ووقف العمل بقانون الطوارئ، وإطلاق سراح المعتقلين (والمعتقلات) السياسيين، وصياغة قانون جديد وعصري للأحزاب السياسية.
كذلك مطلوب فتح ملفات الفساد في مؤسسات الدولة وإيقاف العجلة النيوليبرالية الطاحنة، وإفساح المجال أمام تداول سلمي للسلطة وإعادة الاعتبار إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتمكين القضاء من ممارسة رقابته على عمل هاتين السلطتين و... الخ. ولدى التدقيق قليلاً في هذه المطالب، يتبين أنّها نسخة معدّلة عن تلك التي رفعها بالأمس قطاع كبير من الشعب المصري، في مواجهة نظام لا تختلف بنيته الهشّة كثيراً عن بنية النظام في سوريا. في مصر الآن ثورة مستمرّة ضد بقايا هذا النظام (آخر تجلياتها إسقاط حكومة أحمد شفيق). أما في سوريا، فلم تلقَ الدعوات (إلى التظاهر ضد النظام) التي أطلقتها «مجموعات معارضة» على فايسبوك صدى يذكر لدى الشارع السوري.
طبعاً، خرجت كثير من الأصوات الموالية للنظام لتعزو هذا الأمر إلى منعة البلد، وموقعه المناقض للموقع المصري السابق، في ما خصّ المواجهة مع إسرائيل. وهذا نقاش قد يطول، وقد يدخلنا في متاهات الخلط بين شرعية المواجهة ولا شرعية الاستثناء السلطوي المديد. وحتى لا يستهلكنا هذا النقاش العقيم، دعونا نضعه جانباً قليلاً، ونعود إلى حيث أراد لنا عمر أميرلاي، ورفاقه في النضال، أن نكون، وهو مكان يقع على مقربة مما يحصل اليوم في مصر وتونس وليبيا والبحرين واليمن. قد يكون صاحب «الحياة اليومية في قرية سورية» من أنصار الثورة على النسقين المصري والتونسي، وقد لا يكون، لكنّه حتماً من الذين يجاهرون برغبتهم في تحطيم الأصنام الديكتاتورية. فعل ذلك غداة غزو العراق، وفعله أيضاً في الأيام الأولى للثورة في لبنان. هنا نحن أمام حالة نضالية لا تكترث كثيراً بالأجندات التي تقبع خلف الأوهام الخلاصية. فما كان يهمّ عمر على ما يبدو، في الحالتين اللبنانية والعراقية، هو سقوط الديكتاتور ولا شيء آخر. في النهاية كلنا نعتاش على الأوهام بطريقة أو بأخرى. وجيل عمر أميرلاي هو أكثر من اختبر ذلك، منذ هزيمة عام 1967 حتى ما قبل إحراق محمد البوعزيزي
جسده.
سيخرج علينا طبعاً من يقول إنّ عمر لا يتشارك وإيّانا هذا التحقيب لزمن الهزيمة. ذلك أنّ القطيعة مع هذا الزمن لم تبدأ من ثورة تونس كما نزعم، بل منذ خروج آخر عسكري سوري من لبنان! وقد بدأت تخرج ترّهات تنظّر لهذا الاتجاه في الآونة الأخيرة، وجديدها القديم ما سيصدر بعد أيام عن مناسبة 14 آذار المجيدة! غير أنّ أحداً لم يأخذ رأي عمر في ذلك. هل كان يعتقد فعلاً، وهو الصديق الحميم للراحل سمير قصير، أنّ ما يحدث اليوم في مصر وتونس هو استكمال لما بدأه «ثوار الأرز» في لبنان قبل ست سنوات؟ كلّ ما نعرفه أنّ صاحب «الدجاج» كان متعاطفاً جداً مع «ثورة الأرز»، وكان يراها امتداداً طبيعياً لربيع الحرية الموؤود في دمشق. وهذه جدلية نظّر لها سمير قصير في كتابه «ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان»، وحاول أن يستقطب إليها كثيراً من أصدقائه في سوريا ولبنان.
لكن القاتل لم يمهله طويلاً، ولم يفسح له المجال لاختبار هذه النظرية اليوتوبية على نحو جدّي. بقي عمر وحده بعد سمير. حوله كثير من الأصدقاء الذين يتشارك وإياهم مرارة الأيام، لكنّه مع ذلك «يتيم» و«وحيد». لم ينجز فيلماً واحداً بعد عام 2003. لا نعلم ما إذا كان التضييق الأمني المستمرّ عليه هو ما يقف خلف هذا الإحباط. تخيّلوا مثلاً لو لم نكن نعيش في حالة طوارئ مستمرة منذ عام 1963، كم عدد الأفلام التي كان سيتاح لصاحب «مصائب قوم» إنجازها في ظل وضع كهذا؟ عشرات أو مئات ربما. طبعاً لن ندخل في نقاش تفصيلي حول الشرط الإنتاجي الذي يتدخّل في صناعة الأفلام، لكنّ مناخاً سياسياً، أفضل وأكثر رحابة، كان سيسمح لعمر ولغيره بأن يقلبوا المعادلة، ويخضعوا الشرط السياسي لنظيره الإنتاجي، لا العكس. هكذا يجب أن تدور عجلة السينما الوطنية في سوريا، وهكذا يجب أن يعامل مخرج كبير كعمر أميرلاي، لا أن يخضع، هو أو غيره، لمزاج رقيب صغير يعمل تحت إمرة رقيب كبير. وهذا بدوره يعمل تحت إمرة من هو أكبر منه... وهكذا دواليك.
والمشكلة الحقيقية أنّ السينما في سوريا لم تكفّ عن العمل على هذا النحو منذ سنوات طويلة. صحيح أنّ الدولة السورية أفرزت مؤسسات بديلة في بداية الأمر (المؤسسة العامة للسينما)، إلا أنّ صيغة البدائل هذه ما لبثت أن انقلبت على نفسها. وما كان بديلاً، ذات يوم، أصبح الآن في حاجة إلى استبدال فوري، حتى لا تتفاقم حالة الاهتراء، ويزداد السطو البيروقراطي على مواهب جيلنا وجيل عمر أميرلاي. نتحدث هنا عن حالة عامة لا عن أشخاص بعينهم. حالة باتت تتهدّد مجمل المشهد الإبداعي في البلد. وإنّ من يقول عكس ذلك لا يرغب حتماً في رؤية سوريا مختلفة. سوريا أكثر منعة واستقلالية، وأكثر حرية وعدالة أيضاً. لا نريد استحضار النموذج المصري الآن وهنا، رغم فرادته وقدرته الفائقة على إلهام الشعوب. فحالة التجانس النسبي هناك تتيح لنضال المصريين من أجل الكرامة والحرية والعدالة أن يمضي إلى خواتيمه. في سوريا، الوضع مختلف قليلاً. واختلافه عن سواه لا يعني أن نمضي حتى النهاية في إقران التغيير الثوري بحالة التجانس المذهبي أو الطائفي، إذ لم تثبت حتى الآن صحّة هذا التزاوج القسري، على نحو يجعل منه وصفة سحرية لكلّ الحلول الثورية التي لا تواجه عائقاً طائفياً أو مذهبياً.
إذاً، الحلّان المصري والتونسي، ليسا متاحين الآن. وهذا يعني أنّ حراكنا في سوريا بحاجة إلى مزيد من التعيين. ليكن مثلاً حراكاً باتجاه منطقة وسطى (يخشى أن يكون هذا الحلّ تلفيقياً كالعادة). منطقة تستعجل التغيير، ولا تحرق المراحل باتجاه الثورة في الآن ذاته.
سنفترض أنّ معادلة كهذه هي الممكنة اليوم. هل كان عمر سيؤيدها؟ هو الذي عاين ثورة الطلاب في فرنسا عام 1968، وعانق الثورة الفلسطينية، و«تواطأ» فكرياً مع ثورة اليمين في لبنان (هل يحتمل اليمينيون فكرة الثورة أصلاً!). نعرف أنّه وقّع إعلان دمشق ـــــ بيروت، واستدعي أكثر من مرّة لمساءلته أمنياً عن فيلمه الأخير، وخاض معارك شرسة للدفاع عن استقلالية السينمائيين السوريين عن السلطة. نعرف أيضاً أنّه وقّع، مع مجموعة من المثقفين السوريين، أخيراً بياناً يدعم ثورة الشعب المصري. نعرف كلّ هذا وأكثر، لكن المفاضلة بين التثوير والتغيير المتدرّج أمر يحتاج إلى مقاربة مركّبة. مقاربة قد يصعب حتى على مثقف عضوي، كعمر أميرلاي، حسمها. ما العمل إذاً؟ طبعاً هذا سؤال كبير، ويتعيّن على كلّ مشتغل في الشأن العام أن يفكر فيه مليّاً. لقد بدأت العجلة بالدوران. ومن لم يهيّئ نفسه لها، سيصبح حتماً خارج التاريخ. لا مجال هنا للتذاكي أو التحايل على الواقع. لقد حذّرَنا عمر من ذلك في فيلمه ـــــ الوصيّة وبشّرنا بالطوفان. علينا أن نهيّئ قارب النجاة فوراً.
* كاتب سوري