قبل عشرة أيام على المسيرة الثانية للحركة الاحتجاجية في المغرب، المقرّرة في 20 مارس/ آذار 2011، عبّر الملك محمد السادس عن حسّ عال في استشراف مجرى الأحداث وألقى خطاباً تاريخياً، أعلن فيه إجراء تعديل دستوري شامل، يستجيب لمطالب الشبيبة بنحو كبير جداً. ينصّ التعديل أولاً على «ترسيخ دولة الحق والمؤسسات، ودسترة التوصيات الوجيهة لهيئة الإنصاف والمصالحة، والالتزامات الدولية للمغرب». يحيل ذلك إلى التوصيات التي طالبت بإجراءات عملية لمنع تكرار ما جرى في سنوات الرصاص، وقد نُسيت في السنوات الخمس الأخيرة. ثانياً، ينص التعديل على «الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلّة، وتعزيز صلاحيات المجلس الدستوري، توطيداً لسموّ الدستور، ولسيادة القانون، والمساواة أمامه». وهذه أول مرة يتحدّث فيها الملك عن القضاء بما هو سلطة مستقلّة. ثالثاً، وهذا هو الأهم «توطيد مبدأ فصل السلطات وتوازنها... من خلال برلمان نابع من انتخابات حرة ونزيهة... حكومة منتخبة بانبثاقها عن الإرادة الشعبية، المعبّر عنها من خلال صناديق الاقتراع، وتحظى بثقة أغلبية مجلس النواب، تكريس تعيين الوزير الأول من الحزب السياسي الذي تصدّر انتخابات مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها، تقوية مكانة الوزير الأول رئيساً لسلطة تنفيذية فعلية، يتولّى المسؤولية الكاملة للحكومة والإدارة العمومية، وقيادة البرنامج الحكومي وتنفيذه، دسترة مؤسسة مجلس الحكومة، وتوضيح اختصاصاته».
وكان ذلك مطلباً أساسياً، لأنّ البرلمان المغربي مجرّد غرفة تسجيل، والملك هو الذي يعيّن الوزير الأول، بغضّ النظر عن نتائج صناديق الاقتراع. وليس للوزير الأول سلطة على الإدارة العمومية التي يرأسها صورياً، وهو لا يعلم بتعيين الموظفين الكبار إلا من الصحف. لا ينفّذ هذا الوزير برنامج حزبه، بل يجد برنامجاً ملكياً على الطاولة. وهو يتلقّى اتصالات هاتفية توجّهه، ويحرص على تملّق المقربين من الملك ليحتفظ بمنصبه، وهم يبالغون في إذلاله. وفي هذا نوادر سياسية لا حصر لها.
كذلك توضيح اختصاصات مجلس الحكومة، الذي لا يرأسه إلا الملك، سيكون تغييراً مهماً، إذ تطالب قوى المعارضة بأن يكون المجلس برئاسة الوزير الأول وأن يكون عقده دورياً، في وقت معلوم، بدل أن يخضع لأجندة الملك. وقد حصل أن تعطل المجلس لأكثر من ستة أشهر، معرقلاً بذلك صدور قوانين حاسمة.
يتزامن التعديل الدستوري مع صدور مشروع الجهوية المتقدمة الذي شُرع منذ سنة في صوغه، تمهيداً للحكم الذاتي في الصحراء المغربية. وقد قال الملك في خطابه بهذا الصدد «لقد اقترحت اللجنة، في نطاق التدرّج، إمكانية إقامة الجهوية المتقدمة بقانون، في الإطار المؤسسي الحالي، وذلك في أفق إنضاج ظروف دسترتها. بيد أنّنا نرى أنّ المغرب، بما حقّقه من تطور ديموقراطي، مؤهّل للشروع في تكريسها دستورياً».
وهكذا سيبدأ المغرب بتطبيق الحكم الذاتي في الصحراء، بغضّ النظر عن نتائج المفاوضات الجارية مع البوليساريو. وهذا مقترح سبق أن قدّمه مصطفى برزاني، وهو قيادي انشقّ عن البوليساريو وعاد إلى المغرب.
وينص مشروع الجهوية على تغييرات جوهرية للوضع الحالي. فقد جاء في الخطاب الملكي أنّ المشروع يشمل «التنصيص على انتخاب المجالس الجهوية بالاقتراع العام المباشر، وعلى التدبير الديموقراطي لشؤونها، وتخويل رؤساء المجالس الجهوية سلطة تنفيذ مقرراتها، بدل العمال والولاة».
وبذلك، تصبح الديموقراطية جهوية ومحلية أولاً، وهذا تغيير جذري، لأنّ العمال والولاة (محافظي الأقاليم) يتمتعون حالياً بسلطات مطلقة، تجعل الانتخابات الجماعية بلا معنى. بل إنّ منصب وال أو عامل أفضل وأدوم من منصب وزير. ثم إنّ انتخاب المجالس الجهوية حالياً، بطريقة غير مباشرة، يسمح بمستويات رشوة فادحة، حتى إنّ أحد المرشحين لرئاسة أحد المجالس ضُبط، في تنصت هاتفي، يطلب من مساعديه تقديم «التبن للبهائم»، أي المال للمستشارين للتصويت له.
مضمون الخطاب الملكي ثوري على كلّ الصعد، ويتجاوز ذلك في دقّته حتى مطلب الشباب. وهو خطاب يذكّر بمحمد السادس، في سنتي حكمه الأوليين. ويبيّن أنّ للمغرب نمط حكم قادراً على التكيّف وإصلاح نفسه دورياً، لكي لا يتعرض لهزات ساحقة، كما جرى في تونس ومصر وليبيا، والحبل على الغارب...
حسناً، إذا كان الأمر كذلك، فلماذا أتحدث عن «مضمون الخطاب الملكي»؟ لأنّ إنزال مضمون الخطاب إلى الأرض، وتحويله لواقع معيش، يتطلب معركة طويلة لم تبدأ بعد. وهي معركة مزدوجة، أولاً ضد المستفيدين من الوضع الحالي، وثانياً ضمن المطالبين بالتغيير، ومدى قدرتهم على التنظيم لحسم المعركة في صناديق الاقتراع لا في الشارع.
بالنسبة إلى الوجه الأول من المعركة، لقد تكوّنت على صواري النظام الحالي طحالب وفئات وطبقات مستفيدة بفضل فساد مروّع. فساد مصدره التوظيف المربح، وتمرير الصفقات العمومية لشركات تعمل في الواجهة، وتتقاسم الأرباح مع المسؤولين عن القطاع الذي تتاجر فيه. يمكنني تأسيس شركة لتجهيز المكاتب، وأبحث عن صفقات عمومية، تحت الطاولة، مع مديري مصالح عمومية، ثم أقدم لهم عمولات وأحصل على صفقات مستمرة. ماذا يفعل هؤلاء المسؤولون بملايين العمولات؟ يبيّضونها في العقار، وهذا يعطي للمجال العقاري في المغرب وضعاً لا تفسّره السوق. هناك ركود والأسعار لا تنخفض. فأصحاب العقار ليسوا مستثمرين، بل مرتشون، ويمكنهم أن يصبروا عشرين سنة قبل بيع الأراضي والمباني. بل في عشرين سنة، ستتضاعف مبانيهم. هل يتحمّل مستثمر حقيقي هذا التجميد؟
كلّ هؤلاء الفاسدين لا يريدون التغيير، وهذا ما يفسر الحملة التي شنّت على الشباب المطالبين بالتغيير، واتهامهم بالانفصال والزندقة والأسلمة وإفطار رمضان واعتناق المسيحية... وقد سبق لعبد الله العروي أن تحدث عن معارضي الملكية البرلمانية في محيط الملك الراحل عام 1992، لأنّ ذلك سيفرض عليهم إما الانضمام للشعب، أو «الانتحار بحكم شرعية مصادرة» (خواطر الصباح حجرة في العنق، ص 155).
الغريب أنّ مهاجمي الشباب المحتجّين، بجرائدهم المأجورة، خرجوا ليباركوا خطاب الملك، وليباركوا لتعديل الدستور. حتى الوزير الأول صفّق للتعديل، بينما كان في الأشهر السابقة يصف المطالبين بتعديل الدستور بالوقاحة. وقبل شهر، قال إنّ المسيرة الاحتجاجية لا تتوافق مع الديموقراطية. هذا الشخص وأمثاله، وبعد كلّ هذه السنوات من التورط والعفونة، لم يعد بإمكانهم تطبيق العدالة، لأنّ العدل يتجاوز طاقتهم. كلّ ما تستطيعونه هو إنتاج عفونة جديدة أقذر من سابقتها. أكتب هذا، وأخمّن أنّه قد تضبط معي قطعة حشيش، وبما أنّي لا أدخّن ولا أشرب ولا أحشش، فسأكون بصدد بيعها...
هذا الحرس القديم لا يخجل، يملك الملايين والنفوذ، ولديه الوسائل الضرورية لعرقلة التغيير، لإفراغه من محتواه أو لتجييره لمصلحته. فالأموال التي اكتنزها القذافي، تمكّنه من الصمود في وجه الثوار، وهذا ينطبق على مصّاصي دم المغرب أيضاً، وبما أنّ الأمر ليس بالسلاح، ففرصتهم أفضل. وهم يردّدون أنّ الملك سبق الشباب وقام بثورة. وهذا خطاب تخديري يفترض أنّ المعركة انتهت، وليذهب كلّ واحد إلى بيته لينام قرير العين.
كيف ينجح الشباب بتخليص المغرب من الحرس القديم (يسمون مسامير المائدة الصدئة باللهجة المحلية)؟ هذا هو الوجه الآخر للمعركة الحقيقية المقبلة.
يجب أن يدرك الشباب أنّ الثورة لم تبدأ بعد، والحقيقة الجلية هي أنّه لا أحد يحرر أحداً. يجب أن يحرر الشعب نفسه بنفسه، فلا ثورة بالوكالة. الملك حدّد الإطار، وفي يونيو/ حزيران 2011، ستعلن اللجنة الدستور الجديد ليقدّم للاستفتاء. ثم ستأتي الانتخابات. هناك سيتحدّد مصير المغرب في اختبار بين طرفين: شباب غاضب وأعيان يحكموننا منذ الاستقلال، يملكون المال الفاحش وشبكات زبونية ضخمة. في انتخابات سبتمبر/ ايلول 2007، بلغت نسبة المقاطعة 80 % بين المغاربة الذين يحق لهم التصويت. وبفضل المقاطعة، يصوت فقط زبناء المرشحين التقليديين. مستقبلاً، يجب أن تكون المشاركة مكثّفة جداً، لسحق سماسرة الأعيان.
كيف يتحقق ذلك؟ يجب أن يدرك الشباب أنّ الغضب طاقة كاسحة لكنّه ليس سياسة، الإنترنت ليس بديلاً للتنظيم، والشبكة العنكبوتية ليست حزباً. على الشباب أن ينتظموا، أن يتعبأوا ميدانياً، على الأرض، في كلّ حيّ، لينتجوا نخبة سياسية شابة، تقود التغيير وتحرسه من المسامير الصدئة.
في انتظار ذلك، أدعو الشباب إلى إطلاق بالون اختبار يستلهم اقتراحاً قدّمه صحافي مغربي. فقبل تعديل الدستور، ليطالبوا أولاً بلوائح علنية من مصلحة المحافظة العقارية تكشف حركة المتاجرة في الأراضي بالمغرب خلال سنوات حكم محمد السادس.
إذا نجح هذا، فسنقيس عليه، فالتغيير يبدأ بالاقتصاد.
* صحافي مغربي