أوّل الأشياء التي أسقطتها تظاهرات جمعة الغضب العراقية في 25 شباط الماضي، كانت فزاعة «البعث الصدامي» التي رفعتها حكومة المحاصصة الطائفية عالياً بوجه المتظاهرين، بما هي اتهام تشنيعي. تحوّلت تلك التظاهرات الجماهيرية إلى مناسبة لنفي هذا الاتهام الحكومي وتكذيبه، وأيضاً، إلى مناسبة للبراءة الشاملة من «البعث الصدامي» وتجربته الشمولية في الحكم. يومها، التقى الصحافيون العراقيون والأجانب بالعديد من المتظاهرين، وكان بعض هؤلاء من ضحايا التعذيب وسوء التعامل في عهد النظام «البعثي الصدامي». عرض بعضهم آثار التعذيب على أجسادهم أدلةً على ذلك، وراحوا يتساءلون أمام عدسات الكاميرات، بكثير من الغضب والاستنكاف: «أبَعْدَ كلِّ هذا يتهمنا المالكيُّ وحكومتُهُ بأنّنا بعثيون صداميون؟».وفي مدينة «الديوانية» الفراتية، كان النفي والتبرؤ أكثر إفحاماً وجزماً. سارت تظاهرة غاضبة نحو مبنى المحافظة واعتصمت عنده. وكان الهتاف المسيطر، الذي يردّده جميع المتظاهرين، لا يقلُّ بلاغةً عن آثار التعذيب: لا قاعدة ولا بعثية... ذوله أهل الديوانية.
تكرّرت هذه المشاهد والشعارات في جميع المدن العراقية تقريباً، وكانت تلك فضيحة مدوّية لجهتين. الجهة الأولى هي حكومة التحالف السنّي ـــــ الشيعي ـــــ الكردي، وإعلامها وقياداتها السياسية، برئاسة المالكي. وستحتاج هذه الجهة، إلى زمن قد يطول، لتستعيد هيبتها، إذا افترضنا أنّها كانت تملك شيئاً منها. لكن ما حدث كان فضيحة لا تقلّ دوياً للبعث الصدامي، الذي حاول إعلامُه تَجْيير التظاهرات لمصلحتحه، والإيحاء بأنّه وراءها، بشكل من الأشكال، وبذل جهداً بدا متخبطاً، في هذا الصدد. حتى إنّ «جناح يونس الأحمد» في البعث مثلاً، استعان بنائب هارب خارج العراق، ومحكوم بالإعدام غيابياً لإدانته بالتورط في تفجير البرلمان العراقي سنة 2007، ليوجّه نداءً عبر موقعه على الشبكة العنكبوتية إلى جماهير العراق لتشارك في التظاهرات. غير أنّ أخطر ما سقط في تلك الجمعة، لم يكن ما سمّيناه «فزّاعة البعث»، ولا هيبة حكومة المحاصصة الطائفية، بل هي صورة المرجعية الدينية الشيعية الموروثة وهيبتها واستقلاليتها. مرجعية تحوّلت من مرجع ورائد كفاحي شعبي في ثورات وانتفاضات عشرينيات وحتى خمسينيات القرن الماضي ضد الاستعمار البريطاني، إلى مؤسسة ساكتة إلى درجة التواطؤ مع الاحتلال الأميركي والحكومة العراقية المتحالفة معه، وهذا بحد ذاته حدث مهم ذو دلالات كبيرة ينبغي التوقف عنده.
فقبل تظاهرات جمعة الغضب بأيام، استغاث المالكي بجميع المرجعيات الدينية والطائفية، راجياً إياها أن تتوجه إلى جماهيرها لتطلب منهم عدم المشاركة في تظاهرات تلك الجمعة (لم يستثنِ المستغيثُ رئاسة الأوقاف السنية والمسيحية والشيعية، فأصدرت تلك الرئاسات بدورها بيانات في هذا الاتجاه). وقيل إنّ رئيس الوزراء هو الذي اتصل بمقتدى الصدر، ودعاه إلى الحضور إلى العراق من إيران، نظراً لخطورة الوضع الأمني، وخشية مشاركة أنصاره في التظاهرات، ولكي لا يفلت الوضع من السيطرة. وفعلاً، حضر الصدر على وجه السرعة، وقبل ساعات من انطلاق التظاهرات، فأطلق المرحلة الأولى من استبيانه الذي أطلق عليه «استبيان الخدمات»، الذي يمكن عدّه طُرفةً سياسيةً أكثرَ من كونه مبادرة. إنّه يطرح على المواطن العراقي ثلاثة أسئلة، هي باختصار: ما رأيك بنوعية الخدمات التي تقدّمها الحكومة، هل هي سيّئة أم جيدة؟ وإذا كانت سيئة فهل تريد تحسينها؟ وإذا لم تتحسّن خلال 6 أشهر، فهل تريد الخروج في تظاهرات احتجاجية؟
وبعدما ضَمِنَ المالكي وقوف المرجعيات الشيعية إلى جانبه، وفي مقدمتها مرجعية السيستاني «المرجع الأعلى»، وزميلاه الآخران النجفي والحكيم، والمرجع الحائري مرشد التيار الصدري المقيم في إيران، والمرجع الآصفي وهو وكيل خامنئي في الوقت نفسه ويقيم في العراق، والمرجع اليعقوبي مرشد حزب الفضيلة الإسلامي، ما إنْ تم له ذلك، حتى ظهر هو شخصياً على شاشة القناة التلفزيونية الحكومية. خاطب، خلال ظهوره، العراقيين بحميميّة ملحوظة، فئةً فئةً، وطبقةً بعد أخرى، دون أن ينسى «جماهير العمال والفلاحين»، طالباً من الجميع عدم المشاركة في تلك التظاهرات. ومع ذلك، فقد شذّ عدد محدود جداً من المراجع، ولم ينساقوا في حملة المالكي وحربه التي بدأت تأخذ صفة الحرب «المقدسة» على المتظاهرين. بعضهم سكتَ ولم يُدلِ بأيّ تصريح، وبعضهم الآخر أدلى بتصريحات مؤيدة للتظاهرات وداعية إلى المشاركة فيها. كان شباب مدينة الكوت، مركز محافظة واسط سبّاقاً إلى الرد على موجة فتاوى المرجعية ونداءاتها بعدم المشاركة في تظاهرات الغضب وأنشطة الحركة الاحتجاجية الأخرى. فهتفوا في الشوارع: عاش العراق مرجعنا... عاش العراق قائدنا!
ينفي هذا الهتاف، حرفياً، المعنى الذي حاولت المرجعية الشيعية والسياسيون الطائفيون المؤيدون لها ترسيخه على مدى عقود طويلة، ومفاده أنّها هي المرجع الوحيد للشيعة العرب في العراق، وأنّها هي قائدهم والموجّهُ الروحيُّ والسياسي والاجتماعي لهم.ليس من المبالغة القول إنّ يوم الجمعة 25 شباط 2011، سيدخل تاريخ المرجعية الشيعية في العراق بوصفه نقطة تحوّل وعلامة انعطافية مهمة، لكن إلى أي مدى يصدق هذا القول؟ لقد حاولت المرجعية امتصاص غضب الشارع الشيعي، الذي وضع قسم كبير منه فتاوى عدم المشاركة على الرف، ونزل بمئات الآلاف إلى الشوارع. وبانت هذه المحاولة من خلال بيان سريع ومصوغ بحرفية ودهاء، نُسِبَ إلى المرجع الأعلى السيستاني بعد انفضاض التظاهرات، أشاد فيه بالتحركات وسلميتها، وبحرص المشاركين فيها، فشكرهم. ولكي لا يساء فهم المرجع، ويُتّهَم بالتراجع أو التخلّي عن فتواه السابقة بوجوب عدم المشاركة، لم ينسَ أن يوجّه الشكر أيضاً إلى الذين لم يشاركوا فيها، أي أولئك الذين أطاعوا توجيهاته وفتواه. مع ذلك، يشعر المراقب عن كثب لشؤون المرجعية الشيعية وعلاقاتها بجمهورها أنَّ ثمةَ شيئاً ما قد انكسر في صورة المرجعية وتلك العلاقات. لكن لا يعني ذلك إطلاقاً أنّها قد انتهت وأصبحت شيئاً من الماضي، بل هي لا تزال تتمتع بنفوذ واسع، وقوّة مستمدّة من الإرث العريق وشبكة الوكلاء الدينيين التابعين لها ومن تحالفها الجديد مع حكم المحاصصة. لا يمكن المبالغة في ذلك إذاً، لكن يمكن القول إنَّ الحال لم تعد كما كانت، وهذا الشيء الذي انكسر يتعلق بشكل العلاقة بين الجمهور العراقي العربي الشيعي وبين مرجعيته الطائفية التقليدية. لقد ظهرت المرجعية في هذا الانعطاف سنداً وحليفاً ـــــ إذا شئنا أن ننتقي كلماتنا برويّة ـــــ لحكم المحاصصة والفساد والنهب، المتحالف مع الاحتلال الأجنبي. وهذا أمر لا نعتقد أنّ الجمهور مستعدّ للسكوت عليه ثمانية أعوام أخرى. إنَّ من المفيد والشرعي والمناسب توقيتاً أنْ تبادر النخب العراقية الثقافية والسياسية إلى جعل علاقة المرجعيات والهيئات والمؤسسات الدينية في العراق، سواء كانت شيعية أو سنيّة، مسلمة أو غير مسلمة، موضوعاً للتحليل والفحص، تمهيداً لتحويلها إلى واحدة من القضايا الدستورية التي ينبغي أنْ يدور حولها الجدل والنقاش. ويجب أن يكون اتجاه هذا النقاش، أو أُفقه، واضحاً وصريحاً، يحفظ للمرجعيات احترامها واختصاصها بالأمور الإيمانية والفقهية دون تدخل من الدولة من جهة، ويرفض أيّ تدخل لتلك المرجعيات والهيئات الدينية والطائفية في الشأن السياسي العام من جهة أخرى. على أنْ تتولى الهيئات المحلية ـــــ لا مركز الدولة ـــــ تنظيم العلاقات اليومية والعملية بين مؤسسات الدولة والمؤسسات ذات الصبغة الدينية، وتحديد ميادين تلك العلاقات وتفاصيلها، وشمول العائدات المالية للمرجعيات والأوقاف بالقوانين النافذة في الدولة، لو شئنا حقاً دخول العصر الحديث وبناء دولة القانون.
* كاتب عراقي