أعلن النظام في البحرين، بتخطيط وتنفيذ سعوديّين، حملة تطهير شاملة للثورة الشّعبيّة، فأيّ مُنجز فكريّ يحترم نفسه يملك صُنع المبرّرات؟
نموذج مثقف السّلطة الذي يقدّمه محمّد جابر الأنصاري، يُشجّع على تقديم مساجلة تتوجّه إلى الموضوع، أكثر من استغراقها في تحليل الذّات وكيْل الأوصاف الحادة. من المؤكّد أنّ الأنصاري يظلّ وفياً لمنصبه، بوصفه مستشاراً ثقافياً لعاهل البحرين، لكنّه يبدو حريصاً على توظيف أدواته الثقافيّة في ترسيخ النظام الحاكم وتقديمه مفتوحاً على التقدّم والإصلاح. بقدر آخر من المقاربة؛ ليس لدى الأنصاري أيّ احتمال جدليّ لفكّ ارتباطه بالنظام، وهو معنيّ بأداء دور وظيفيّ و«تاريخي» محدّد خلاصته المحافظة على بِنية النظام الحالي، وتوفير الدعائم التّرويجيّة له، خلافاً لكلّ مشروعه الفكري العتيد.

شخّصَ الأنصاري في كتابه الفذ «تحولات الفكر والسّياسة» العاهة البنيويّة التي تعوّق النهضة العربيّة. فالثنائيّات المتضاربة، وقلّة الحيلة الفكريّة في اقتراح المعالجة والحسم، تفتكُ بمشاريع النّهضة المتتالية في المشرق العربيّ، على وجه الخصوص، وتجعلها تغرقُ في محاور التوفيقيّات ذات المحتوى الترقيعي. كان مقدوراً للأنصاري ـــــ بما يملك من مؤهّل معرفي ـــــ أن يسلّط الضّوء أكثر على الإعاقة الفاعلة التي تولّتها الأنظمة القبليّة في الخليج، ليس في الإطار الخليجي فحسب، بل على النطاق العربي عامةً. على مدى العقود الماضية، كوّنت هذه الأنظمة الجاهزيّة النّفسيّة والاجتماعيّة لثقافة قبول الأمر الواقع، خشيةً من التورّط في المجهول، أو الارتهان لأجندة خارجيّة والاختطاف فيها. هذه التركيبة التبريريّة تشكّلت مراراً، في نظريات عدّة وتحليلات، رعتها نخبة ثقافيّة وجدت نفسها، لسبب أو لآخر، في موقع التّحالف مع النّظم العائليّة الحاكمة. منذ أكثر من عقْد، اختارَ الأنصاري أن يتموضعَ مباشرةً في هذه الدّائرة.
بعد مسيرة طويلة من الإنجاز الفكري، ينتهي الأنصاري إلى إعادة تخليق السياقات التبريريّة لأنظمة القمع في الخليج. في مقال أخير (صحيفة «الأيام» البحرينيّة، 18 مارس/ آذار 2011) يتجرأ الأنصاري على الاعتراف بوجود أنظمة مهترئة وفاسدة، لكنّه اعترافٌ يؤدّي دور المناورة. يريدُ أن يقول لنا إنّه يملكُ الشّجاعة لإدانة الفساد والاستبداد، وليست لديه مسبقات وكوابح ذاتيّة أو خارجيّة لكتمان الحقيقة، لكنّ الثّورة العربيّة المعاصرة مجرّد «سكرة»، واحتشاد شبابي سرعان ما تنتهي فورته. أمّا البدائل، كما يُحذّر الأنصاري، فمعدومة وأشدّ استبداداً. يستجمعُ الأخير مهارته المشهودة في «تكسير المجاديف» ليُحذّرنا بالأكثر رعباً. فالذين يطالبون بإسقاط النظام اليوم، حينما يصلون إلى مبتغاهم لن يتزحزحوا، وسينشرون الفوضى والخراب، وستنشأ دكتاتوريّات جديدة. ومن الطبيعي، في هذا السّياق، أن يُجدّد الأنصاري الأطروحة التثبيطيّة الأثيرة، التي تذهب إلى عطالة المجتمع العربي وقصوره عن إنتاج ديموقراطيّته السّليمة، لأنّه لم يصل بعدُ درجة النّضج الكافي، ومن السّهل التمثيل بالمجريات العراقيّة الرّاهنة. أمّا الأنظمة الملكيّة، فلديها إحساسها التطوّري، ولا تجد «حرجاً» في إطلاق منظومتها الإصلاحيّة! ويُقدِّم الأنصاري إلينا أمثلته المتنوّرة من السّعوديّة والبحرين والمغرب.

القاعدة السّوسيولوجيّة الشّاملة

أصرّ الأنصاري عبر أبحاثه المختلفة على وجوب المدخل السوسيولوجي الشّامل لأجل تفسير «الأزمات السياسيّة المتلاحقة في الوطن العربي» («التأزم السياسي عند العرب»، ص15)، فهل «الرّؤية» التّحليليّة التي يقترحها لمقاربة الحدث البّحريني تعبّر عن ذلك؟ خلافاً لمساره النّظري، يُعيدُ الأنصاري إلى مقولة «الخصوصيّة» دورها التّحصيني في وجه الثّورات العربيّة، ويمنحها اعتباراً تفسيريّاً قاطعاً. وفقاً لهذه المقولة، فإنّ السّلسلة السوسيولوجيّة تتفكّك، ويُصبح لكلّ بلد حدّه وحدوده، وليس ممكناً بعدها الحديث عن تبادل ديموقراطي، أو تأثيرات إصلاحيّة متبادلة. فما هي الخصوصيّة البحرينيّة العصيّة على التطوّر التاريخي؟
أبسط تعريف لنظام الحكم في البحرين هو أنّه نظام قبلي (عائلي) طائفي. وإذا كان اشتغال الأنصاري الفكري المديد ينتهي إلى أنّ «القبليّة ليست ـــــ فقط ـــــ معول الهدم في كيان الدّولة والوطن، (بل) إنّها نوع من التمييز العنصري بين الإنسان والإنسان... ولا يمكن إقامة علاقات إنسانيّة طبيعيّة وصحيّة في ظلّ معاييرها التفاخريّة والتفاضليّة بين أبناء الوطن الواحد» («التأزم السياسي»، ص92)؛ فإنّ اصطفافه غير التفاوضي مع النظام البحريني ـــــ المُدان إنسانياً على أوسع نطاق ـــــ يُكرِّسُ ليس فقط القيمة العكسيّة والتحايليّة للمثقف، بل أيضاً يلقي شكّاً معرفيّاً على جملة من المنطلقات التأسيسيّة التي ارتكز عليها مشروعه في البحث عن «الخلل» وتحليل «مكونات الحالة المزمنة».
يكفي المستشار الثقافي للملك أن يُقلّب صفحات المشهد البحريني خلال شهري فبراير/ شباط ومارس/ آذار من هذا العام. يُقدّمُ النظامُ البحريني أمثلة صارخة على وضعيّته القبليّة التفاخريّة، وتمسّكه الوجودي بالجماعات القبائليّة لأجل تهشيم بنية الدّولة، وبالتّالي إضفاء قوّة طائفيّة مضادة ورادعة. كان إدخال الجيش السّعودي ـــــ بكلّ عتاده العسكري والوهّابي ـــــ لإبادة ثورة البحرين، تصويراً فعليّاً للملاذ الطائفي والقبلي للعائلة الخليفيّة. وهي إذ تعدّه ملاذاً آمناً في ميزان الغلبة المذهبيّة وإثارة الرّعب في أهل السّنّة المعتدلين أو الصّامتين، فإنّ ذلك من شأنه أن يطيل إعاقة بناء الدّولة المتماسكة التي تحمل تبعات تأصيل الدّيموقراطيّة. وذلك هو الهمّ الآخر الذي نظّر له الأنصاري، وشدّدَ معه على أنّ «الشّرط الأهم» للديموقراطيّة وولادة المجتمع المدني هو أن «تجد رحم جولة سليمة معافاة تنمو فيه» («التأزم السياسي»، ص196). فكيف يضمن لنا الأنصاري سيرورة هذه الدّولة في البحرين طالما اصطفّ معها بلا تردّد، وأسبغَ عليها التبريرات التطهيريّة، وهي في الحال والدّوام تُمعِن في التوائها القبلي وانطوائها الطائفي وشيوعها الدّموي؟! أبهذا السّبيل يفتحُ الأنصاري الطريقَ لتفعيل خياره الأكيد في «تذويب القبائل في بوتقة مجتمع مديني/ مدني حديث يُحرّر الأفراد من حتمية القرابة إلى فضاء الديموقراطيّة والاختيار الحرّ» («العرب والسياسة: أين الخلل؟»، ص201). التلفزيونُ الرّسمي الذي اختطفه أشرسُ الطائفيين، لا يكفّ عن إعطائنا إجابة صارمة عن هذا السّؤال، والإجابة الأخرى من لدن عبارة عنوانيّة وضعها الأنصاري نفسه في أحد مؤلفاته: «التحديث القشوري للعصبيّات لا يخلق ديموقراطيّة».
* كاتب بحريني