ينشط في لبنان، منذ شهر، حراك جديد ضد النظام الطائفي ورموزه، ويستفيد من النبض الذي يحرك الشعوب العربية ضد الأنظمة السلطوية. لا يأتي الحراك في الشارع اللبناني من فراغ، فهناك أمثلة كثيرة على حركات اجتماعية وشعبية كانت تعبّر عن توق إلى التغيير، لكنّها لم تنتجه، إذا لم نقل إنّ نتائجها كانت، في بعض الأحيان، كارثية على المجتمع. فأين أخطأت تلك الحركات؟ وهل ستتعلم الحركة اليوم من تلك الأخطاء؟
المقاومة المدنية ضد الحرب الأهلية

المقاومة المدنية الجماعية، كما يعرفها غسان صليبي في كتابه «في الاتحاد كوّة»، هي تلك التحركات غير العسكرية التي قامت بها مجموعات من المواطنين الرافضين للحرب. تطوّرت أشكال هذه التحركات من رمزية، عبر اللقاءات والنشاطات الفنية وتلك المعنية باﻷطفال، إلى مباشرة كاﻹضراب والتظاهر والاعتصام. وتفاوتت حدّة هذا الحراك مع تفاوت الحدّة في المعارك، وفي التقسيم المناطقي، والانتقال من معارك بين الطوائف إلى معارك بين المذاهب، في المنطقة نفسها. ولعل أبرز هذه الحركات كان اﻹضراب العام في 1987 الذي ضم اتحادات نقابية وأهمها الاتحاد العمالي العام، باﻹضافة إلى هيئات وجمعيات مدنية وأهلية عابرة للتقسيمات المناطقية وللطوائف. أتى هذا اﻹضراب نتيجة معاناة طويلة من الحرب وعملية اﻹفقار والتدهور الاقتصادي والنقدي، والانقسامات داخل الصف الواحد، وسقوط الشعارات الكبيرة والواعدة والرنانة. وترافق مع أزمات السكن والصحة والتعليم والنقل والمحروقات والكهرباء، ما أدى إلى تفاقم أزمة معيشية خانقة وشاملة، طالت مختلف جوانب الحياة ومختلف فئات الشعب. نفّذ اﻹضراب العام المفتوح في 5 تشرين الثاني واستمر خمسة أيام، وعلّق بعدما نجح في جمع تظاهرات حاشدة في مختلف المناطق، ولا سيما في بيروت، حيث التقى أكثر من 250 ألف متظاهر أتوا من جانبي المدينة، الغربي والشرقي، والتقوا على خطوط التماس، في مشهد معبّر عن مشاعر حقيقية وإرادة تواقة إلى السلام.
لكن لم يكتب لهذا التحرك النجاح، نتيجة تعقيدات منها ما هو نابع من داخله؛ فـ«غياب الاستراتيجية السياسية الهجومية الواضحة والمباشرة»، لا بل «عدم القدرة على الاتفاق على مضمون سياسي للتحرك»، باﻹضافة إلى «الحرب وتحكّم السلاح بالحياة الديموقراطية وإضعاف إمكان قيام أطر جديدة»، هي من أهم الأسباب لفشل اﻹضراب أو تعليقه. وقال رئيس الاتحاد العمالي العام آنذاك في بيان إنّ «... المستفيدين من استمرار الحرب على امتداد أرض الوطن وقفوا ضد برنامجنا... إنّ المعركة التي خضناها... تبقى ناقصة بدون مضمون سياسي مباشر...» (صليبي، ص 162). توضح هذه العبارات بعض الغموض الذي تضمنه بيان القادة النقابيين الذي علّق اﻹضراب على أساسه «حفاظاً على أهداف التحرك... ومواصلته بشكل موحّد... ومنعاً ﻷي استغلال سياسي لمصلحة أي طرف من اﻷطراف...» (صليبي، ص 162). من الواضح انّ القيادات النقابية، التي قبلت بتحقيق بعض المطالب الثانوية، كانت لديها ارتباطات حزبية، من النوع الذي لا يهمه إيقاف الحرب. فمن الخلافات التي أنتجها الإضراب مثلاً، إلى من يتوجه المطلب بالاستقالة، إلى الحكم (رئيس الجمهورية) أم إلى الحكومة (رئيس الحكومة). كذلك إنّ وجود اليسار ومشاركته ودعمه للإضراب، عاد وأثر على بعض القيادات النقابية، وذلك لعدم قدرته على الخروج من تحالفاته إبان الحرب اﻷهلية. كل ذلك يدلّ أيضاً، على أنّ عدم وجود الوضوح السياسي والجرأة بالرد على الأسئلة الملحة في المجتمع أدّيا إلى الاستيلاء على الحركة من تلك اﻷحزاب التي تنشط ضدها، ودخلت إليها الانقسامات الطائفية والميليشياوية.

الحراك في التسعينيات «دفاعاً عن الحريات ولقمة العيش»

تبلورت الحركة في التسعينيات حول قضايا متعلقة بالحريات العامة، ولا سيما النقابية، وبالوضع المعيشي والاقتصادي، وضمّت هيئات نقابية وحزبية ومهنية وشعبية وثقافية وتعليمية ونسائية وشبابية (عزيز صليبا، «تاريخ الحركة النقابية في البقاع»). استطاع هذا الحراك، في تاريخين مهمين، 19 تموز 1995 و29 شباط 1996، أن يكسر قرار منع التظاهر. وهو، وإن استطاع أن يكسب شريحة واسعة من المواطنين، وخاصة الشباب منهم، تشكل بقيادة الاتحاد العمالي العام بعناوين اقتصادية، ولم ينتج في النهاية إلا انقسام الاتحاد. وُضِع هذا الحراك، في الحقيقة، في مواجهة سياسات حكومة رفيق الحريري، أو بمعنى آخر وضع نفسه ضمن التناقض الموجود آنذاك بين السلطة الأمنية (لحود والأجهزة الأمنية) والسلطة الاقتصادية (الحريري والسياسات الاقتصادية). وبذلك لم يستطع أن يخرج من الثنائية السلطوية ويطرح استراتيجية سياسية جامعة لمختلف المواطنين وهمومهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. أما النتيجة السياسية للحراك، وعبر تموضعه ضد الحريري، فكانت وصول إميل لحود إلى السلطة.
قد نستطيع اليوم تحليل هذا الفشل بوضوح أكثر، وكيف جرت قسمة الحركة بين لحود والحريري، وخاصة بعدما اعترف جميل السيد في مقابلة مع ماغي فرح (برنامج «الحق يقال» على قناة «أو.تي.في» في أيار 2009) بوقوفه وراء انتفاضة 95 ــ 96 ضد السياسات الاقتصادية للحريري، معترفاً بالاتهام الذي ووجهت فيه الانتفاضة، وقتها، من إعلام الحريري. اتهام كانت تنفيه بشدّة قيادات التحرك ووجوهه من أحزاب ونواب وقيادات عمالية. وتجسّد التدخل في الحركة بنحو سافر، آنذاك، في السيطرة على انتخابات الاتحاد العمالي العام. يرى غسان صليبي، في كتابه المذكور أعلاه، ثلاثة أشكال للتدخل في تلك الفترة. أولاً، من الدولة بسلطاتها التشريعية والتنفيذية واﻷمنية عبر تفريخ اتحادات جديدة بانتماء سياسي، ومن دون الحد الأدنى للتمثيل النقابي. ثانياً، من اﻷحزاب السياسية كالشيوعي وحركة أمل «الأكثر ديناميكية»، والاشتراكي والقومي والكتائبي. لجأت هذه اﻷحزاب «إلى ثنائية الموالاة/ المعارضة لتبرير موقفها النقابي. لكنّ تبدّل مواقفها وتحالفاتها كشف عن دوافع أخرى تعطي اﻷولوية لمصالحها الانتخابية السياسية أو لتحالفاتها السياسية الآنية...» (ص 80). أما الشكل الثالث، فهو تعاطي النقابيين مع هذه التدخلات من الانصياع التام ﻹرادة أطراف من خارج الحركة النقابية إلى استجلابها هجوماً أو دفاعاً، إلى التردد حيالها أو مقاومتها ومن ثم الانصياع لها.

الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي

اليوم، وفي ظلّ انقسام حاد للطبقة السياسية بين 14 و8 آذار، وبين ثنائية سلطوية حول «السلاح» و«المحكمة»، وفي مرحلة يمرّ بها النظام اللبناني بأزمة حادّة على مستوى الحكم، وعلى مختلف المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وفي ظلّ تفاقم الفساد والزبونية إلى حد لا يطاق، تصعد حركة عفوية بدأت بالتظاهر في 27 شباط. حركة نظّمت، حتى الآن، ثلاث تظاهرات مركزية في بيروت، متصاعدةً عددياً، تحت سقف نداءات تحمل أرقام 1 و2 و3. تتمتّع الحركة اليوم بتنوّع موجود في داخلها، على مستوى المشارب الفكرية والإيديولوجية والسياسية والحزبية (وعدم الحزبية أو ما يعرف بالمستقلين)، كما على المستوى الاجتماعي والطبقي والعمري، مع أغلبية واضحة لفئة الشباب والشابات. فبالنسبة إلى الناشطة نعمت بدر الدين هناك ضرورة للحفاظ على هذا التنوع، من خلال دراسة المواقف وتفعيل النقاش والتخطيط ونشر الوعي، وبشكل مواز هناك ضرورة لاستمرار التحرك في الشارع. وهي تؤكد ضرورة مواجهة هذا النظام في أسسه السياسية والاقتصادية والطائفية، وتعطي أولوية للتحرك على الهموم الحزبية الداخلية. وللحفاظ على «هذا الحلم الذي طالما انتظرته»، تتخوف نعمت من الشخصنة والاصطفافات الحزبية التي من الممكن أن تطغى على الحركة. وتخاف أيضاً من الغرق في الشعارات، لذلك هناك ضرورة لبلورة رؤية سياسية تستقطب جميع فئات الشعب اللبناني، وتعرّي القوى السياسية والزعماء الذين يحاولون السيطرة على الحركة.
أما فريال عواضة، التي عرفت عن التحرك عبر الفايسبوك، فهمّها اﻷول هو خوفها على أولادها من الهجرة لعدم حصولهم على فرصة عمل تتناسب مع كفاءاتهم. وهي تدعو الناس إلى كسر حاجز الخوف والمشاركة بالتحركات، من أجل دولة المساواة والديموقراطية، دولة العدالة والدولة التي تحاسب بحق ولا تتساهل مع خرق القوانين من أين أتت. وهي تؤكد ضرورة اعتماد الشفافية في الحركة وعدم المتاجرة بها. ريم أسعد هي ناشطة مستقلة في الحركة، تعرفت إلى الحملة أيضاً عبر الفايسبوك، وتشارك ﻷنّه «يكفينا فساد وتبعية وسرقة»، وترى أنّ من الضروري تطوير الخطاب السياسي للحركة وأن تنظم بنحو أفضل، وأن يأتي ذلك مع الوقت ومع مراكمة التجربة. أما علي ديراني، الذي يحاول ألا يهاجر، فيرى أنّ هذا النظام الطائفي يمارس التمييز العنصري ضد مواطنيه، وشبهه بممارسات النظام الصهيوني العنصرية تجاه الشعب الفلسطيني من تهجير وتغييب للإرادة. ويضيف: «أنا مع حركة سلمية ولا أدعم أي تهجّم على أي شخص معنوي أو مادي، وفي الوقت نفسه أنا مع تحقيق فعلي لمحاسبة كلّ المسؤولين عن الوضع القائم؛ الحياة السياسية قائمة على انقسام طائفي، وكل اتهام قائم لمجموعة بأكملها هو اتهام نابع من الاصطفاف الطائفي وقوانينه السياسية».
أما منى م. فتجاهلت النقاشات الموجودة على فايسبوك في بادئ اﻷمر، لكن الدعوة إلى الاجتماع لفتت انتباهها وحملتها على المشاركة في ما رأته «خطاباً مختلفاً وسقفه العالي». مشاركتها نابعة من معاناتها بسبب الهجرة ضمن عائلتها التي لم تعد تشعر باﻷمان، «لكنّني لا أريد أن أهاجر، كذلك فإنّني أؤمن الآن أكثر بالعمل على صعيد الجماعة بعد رؤية الإنجازين التونسي والمصري». وهي ترفض الاصطفاف الطائفي على القضايا المحقة لكلّ من 8 و14 آذار، واستغلال الزعماء لها، لا بل هي تعتقد بأنّ دولة قوية علمانية هي الكفيلة بحلّ هذه القضايا، «فالمقاومة هي قضية محقة ورفض الاغتيال السياسي هو أيضاً قضية محقة، فلماذا الانقسام الحاد حولها؟». وتدعو كذلك إلى إيجاد اﻷجوبة ضمن الحركة لا من خارجها. وبرأيها، النظام العلماني هو الكفيل بحماية حقوق اﻷقليات. وترى أنّ اللحظة العفوية وجدت، ويجب الحفاظ والبناء عليها بالابتعاد عن التنظيم الهرمي للحركة. وتضيف منى أنّ النظام الطائفي يستغل الدين لمصالح وزواريب ضيقة، وتوجه دعوة إلى رجال الدين للمشاركة في هذا الحراك، إن كانوا فعلاً حرصاء على الدين. أما عمر أبي عازار فيرى «أنّ أحد المداخل ﻹسقاط النظام هو إلغاء قانون العفو العام، ومحاكمة كلّ المسؤولين عن الجرائم المرتكبة خلال الحروب الأهلية (المستمرة حتى نشوء حركتنا اليوم) من قتل وخطف وتهجير وسرقة للمال العام، فلا يمكن بناء دولة عبر من تلطخت أيديهم وجيوبهم بدماء وأموال الناس».
وفي الوقت نفسه، تداعت مجموعة من جمعيات المجتمع المدني، العاملة منذ عقد على اﻷقل على قضايا حقوقية واجتماعية، إلى الاجتماع لإنتاج وثيقة تحمل رأيها بالمشاكل التي يقوم عليها النظام الطائفي، وطرح رؤيتها حول إسقاطه، باﻹضافة إلى دعمها للحراك العام ضد النظام الطائفي، والمشاركة في التظاهرات التي ينظّمها. وفي هذا إشارة إلى إعادة تسييس للمجتمع المدني في لبنان، بعدما اقتصر عمله لفترة على المشاريع الخدماتية والتقنية والممولة من جهات مختلفة، وافتقد روحية العمل التطوعي والمطلبي والموجّه ضد ركائز النظام. ولعلّ هذا المجتمع المدني اليوم يؤدي دوراً إيجابياً في بلورة مشاريع إصلاحية، نابعة من الخبرة التي يمتلكها في هذا المجال.
من هنا، ينبغي بحث الرؤية السياسية والاستراتيجية للحركة التي من الممكن أن تعبّر عن هذا التنوع الموجود داخلها، وتستطيع أن تقنع مختلف فئات المجتمع اللبناني. ومن المهم أن تبتعد الحركة عن الثنائية السلطوية لـ8 و14 آذار، وأن تبقى قوية ضد سطوة الأحزاب وأجنداتها عليها. فالدولة المنوي بناؤها يجب أن تأخذ في الاعتبار مخاوف اﻷقليات الطائفية وحقها بالمساواة، ويجب أن تجد الحلول لمنع التقاتل الطائفي ومنع العنف والاغتيال السياسي. يجب أن تكفل حقوق العمال والعاملات في الحياة الكريمة وتمنع استغلالهم، يجب أن تبني اقتصاداً منتجاً لا يقوم على ريع الرساميل الخارجية والسياحة، بل يستفيد من هذا الريع لدعم القطاعات الهامشية كالزراعة والصناعة. دولة لا تستورد كل ما تستهلك ويمتلك مواطنوها ويتقنون التقنيات الحديثة. دولة تحمي أبناءها من أي عدوان خارجي هدفه الاحتلال واستغلال الموارد الطبيعية وقتل اﻹنسان وتهجيره من بيته وبيئته ومجتمعه وفكره، من دون الدخول في أجندات إقليمية أو دولية على حساب الشعب وأمنه وازدهاره. الحركة لم تتلمس بعد هذه الأسئلة الملحّة، وهي إذا حملت وزر تغيير النظام، فعليها البدء بنقاش الأسس التي يقوم عليها النظام. من البديهي أنّها لا تملك الحل الجاهز، غير أنّها مطالبة بفتح نقاش هادئ وواع. نقاش يبدأ بطرح الأسئلة وتشبيك الأفكار واختبار مناعتها ورجاحتها. لكنّها إذا أكملت تحركاتها من دون التحدث عن المواضيع الانقسامية الخلافية التي تفرقنا، فهي بذلك تكون تعيد أخطاء الماضي. ما يمكن المراهنة عليه اليوم هو الإرادة الطيبة للناشطات والناشطين في الحركة، ووعيهن/م لتاريخ مجتمعهن/م ونظرتهن/م الواعدة بمستقبل أفضل.

* ناشطة مستقلة