يمكن الاستهلال بالتعبير عن الامتعاض الشديد، لا بل القرف، لأنّ فضائح نشر وثائق «ويكيليكس» عن حرب تمّوز، مرّت مرور الكرام. لم تحظ بحلقات نقاش ربما لأنّ الإعلام أراد فرض النسيان. الفضيحة لم تطاول فقط حفنة قادة 14 آذار، بل هي غطّت رعاتهم في النظام العربي القمعي الرسمي. يمكن عزو ذلك التجاهل اللبناني إلى إنجاز حريري آخر: فالذهاب بالحقن الطائفي إلى الذروة يمنع حتى إشعار آخر ـ يعني حتى إسقاط النظام الطائفي (لماذا يُنادى بإسقاط النظام الطائفي ولا يُنادى بإسقاط النظام، كأنّه يمكن إسقاط النظام الطائفي وإبقاء النظام؟)
برمّته أو حتى القضاء على الحريريّة السياسيّة والماليّة في لبنان ـ
يمنع المحاسبة، مهما كانت. فهمَ أحمد فتفت ذلك عندما رمى ملف ثكنة مرجعيون في حضن نبيه برّي. كأنّه يقول له: أرني إذا كان بقدرة شيعي أن يحاسب سنيّاً في بلد أحسنت الحريريّة في دفعه قدماً نحو مزيد من الطائفيّة والمذهبيّة. الحدّة المذهبيّة سوّغت خرق كلّ المحرّمات وارتكاب المعصيّات الصهيونيّة: هي جعلت من زياد الحمصي بطلاً محليّاً، وجعلت من المسموح به رفع صور فايز كرم بعد اتهامه الرسمي بالعمالة لإسرائيل.
هكذا، مرّت الفضائح، من دون لجان تحقيق ومن دون مؤتمرات صحافيّة ومن دون استقالة واحدة. إلياس المرّ يعبّر عن الشعور بالإحراج أمام مبعوث دولة أجنبيّة لأنّ الجيش الإسرائيلي تعرّض للمذلّة على أيدي مقاومين (هم مقاومون، أي إنهم لا يندرجون في كذبة الجيش أو الشعب). وحده، محمّد جواد خليفة، عقد سلسلة جولات إعلاميّة أظهر فيها ما دوّنه هو (كأنّه سيدوّن ما يحرجه) عن تلك اللقاءات. وأضاف إنّه بات من المشكّكين في صحّة «ويكيليكس» من أساسها، وهذا الأمر يتطلّب توضيحاً.
لا تزال الحكومة الأميركيّة تسعى إلى معاقبة ومقاضاة «برادلي مانينغ» العضو في الجيش الأميركي الذي سرّب تلك الوثائق من محفوظات وثائق «سريّة» (بمعنى التصنيف البيروقراطي للوثائق الأميركيّة الرسميّة، وهي ذات صفات تصنيف مُتراتبة من السريّة). والحكومة الأميركيّة ترفض التعليق على محتويات الوثائق واحدة بواحدة، مع أنّها اعترفت بصحّة الوثائق ولم تزعم ـــــ مرّة واحدة ـــــ بأنّ هناك أي تلفيق أو زيادة أو تزوير في أيّ واحدة منها.
على العكس، هي عمّمت، في برقيّات رسميّة، على كلّ موظّفي وموظّفات الحكومة الأميركيّة عدم قراءة أيّ من الوثائق، لأنّها وثائق سريّة لا يحق لمن ليس له صفة الصلة الرسميّة المباشرة الاطلاع عليها أصلاً، كما أنّ السفير الأميركي في المكسيك نُحّي عن منصبه أخيراً، لأنّ الحكومة المكسيكيّة اعترضت على مضمون شكاواه في واحدة من وثائق «ويكيليكس» عن مدى تعاون الحكومة المكسيكيّة في محاربة المخدّرات.
وباتت الصحف الأميركيّة تتعامل مع الوثائق على أنّها مراجع رسميّة (والأمر نفسه ينطبق على أبحاث الطلاب في الجامعات الأميركيّة).
لكن ساسة لبنان يحاولون التذاكي في الدفاع عن مصالحهم السياسيّة وعن سمعتهم، في بلد يمدّ فيه سوء السمعة صاحبه بشحنة من التأييد الطائفي الشعبي. وحده سعد الحريري أصدر بضع كلمات من النفي القاطع: مؤكِّداً، مرّة أخرى، مدى جهله ونزقه وغروره ـــــ غرور من استسهل الوصول إلى السلطة من دون جهد أو موهبة أو كفاءة أو رغبة في امتلاك الخبرة.
أما باقي الساسة، فقد راوحوا في درجات التصحيح والتوضيح والإصلاح والبهتان. السنيورة لم ينفِ أبداً، بل رأى في ما قرأه من وثائق دليلاً على مهارته وبراعته في الدبلوماسيّة (وفي أعلى درجاتها استطاع السنيورة أن يحرّر من خلالها مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وزاد عليها لواء الإسكندرون السليب، كرماً من دموعه السخيّة).
هناك من ناقش أصول الترجمة، وهناك، مثل النائب نسيب لحّود، الذي اعترض فقط على سوء ترجمة كلمة واحدة، من دون أن ينفي ـــــ لا بل أكّد ـــــ صحّة ما ورد في الوثيقة التي تضمّنت «التعبير عن رغبة» في أن يقوم جيش العدوّ بـ «إضعاف» القوّة العسكريّة لحزب الله.
هذا هو نسيب لحّود، صاحب أفشل تجربة في قيادة عمل سياسي رائد، وهو ـــــ مثله مثل فارس سعيد ـــــ مدين لغازي كنعان ورستم غزالة لأنّ شعبه خذله في انتخابات، هما قالا عنها إنّها كانت الأكثر حريّة لتحلّلها من التدخّل السوري. نسيب لحّود يتمنّى النجاح لدولة يقول عنها في العلن إنّها عدوّة.
هذه هي درجة النفاق والرياء عند ساسة لبنان، وخصوصاً في فريق 14 آذار التي أثبتت الوثائق بالقاطع أنّه مرتهن، ليس فقط لمصالح أميركا، بل لمصالح إسرائيل أيضاً، ومن دون مداورة. لحزب الله أن يتجنّب التخوين ـ كأنّه مُحرّم ضدّ من ساند عدوان إسرائيل على لبنان ـ لكن للقارئ وللقارئة شأن آخر.
هناك من الساسة وأتباع الساسة من حذا حذو الماريشال للّو المر ـــــ الذي طلّقته السياسة، أو يجب أن تطلّقه بعد إطلاق لسانه في «ويكيليكس» وفي حكواتيّة تحقيق المحكمة الدولية ـــــ الذي زعم في ما زعم أنّ كلامه اجتُزئ. أي إنّ المرّ يريد منّا أن نصدّق أنّ جوليان أسانج أراد أن ينال من مكانته في بتغرين، لأنّ أسانج أراد أن يخلف آل المرّ في المتن الشمالي. ولا أحد منهم يفسّر لماذا يريد صديقهم «جيف» أن يورِّطهم في مواقف تضرّ بمن خدم مصالح حليف إسرائيل بثبات وخشوع. هذا إذا صدّقنا أنّ التدوين الأميركي الرسمي لإخباريّات وخبريّات 14 آذار لم يكن دقيقاً.
هناك ما يتناقض مع تعريف نقله الأصمعي عن المروءة عند العرب في تسريبات «ويكيليكس»: أي هناك ما هو صارخ في تناقضه بين ما هو مُعلن وما هو مُضمر في مواقف كلّ قادة 14 آذار. ما يقولونه ويفعلونه في العلن هو عكس ما يقولونه ويفعلونه في السرّ. كل ما أعلنته 14 آذار عن موقفها من إسرائيل كان كاذباً، وكلّ ما أعلنته علناً عن سلاح المقاومة، وعن أسبابها لنزع سلاح المقاومة، أو لوضعه تحت «كنف الدولة» وفق تعبير «حركة التقلّب الديموقراطي»، كان كاذباً أيضاً. إنّ خطورة مشروع قادة 14 آذار يكمن في مقارنة أحاديث معظمهم مع السفير الأميركي بحديث سمير جعجع، إذ إنّ الأخير بدا أقل نفاقاً منهم، من حيث شبه التطابق بين مواقفه المُعلنة ومواقفه السريّة. وهذا سمير جعجع الذي يركّز إعلام 8 آذار عليه تجنّباً، في مخيّلتهم، للفتنة المذهبيّة.
لكن حالة فؤاد السنيورة مختلفة. فنظام تصنيف مراتب سريّة الوثائق يتأثّر بمرتبة مصدر الخبر. وبناءً عليه، يكون الكلام نفسه لمن يحتلّ منصب رئاسة الحكومة أعلى درجة من السريّة من كلام يُقال على لسان نائب في المجلس، مثلاً.
وعلينا أن ننتظر تسريباً لوثائق أعلى سريّة، كي نطّلع على حقيقة أقوال السنيورة وأحاديثه خلال عدوان تمّوز.
لا تفيد المقارنات بين ما جاء على ألسنة القادة في 14 آذار، وحتى الخاصّة مثل «الشباب والشابات» الذين التقوا في حرب تمّوز الدبلوماسي الأميركي للتعبير عن مكنونات الشباب اللبناني. (والمجموعة المذكورة ـــــ التي ضمّت في ما ضمّت، النائبة نايلة تويني (يحق للرفيق زياد سحاب والرفيقة إيزابيل التساؤل عن آخر أخبارها) والصحافيّة منى صليبا ـــــ بادرت في اللقاء المروي عنه إلى الاستهلال بالتعبير عن مناصرة إسرائيل في حربها). يبقى ما هو أساسي: لا مجال لأي مقارنة بشرور الدور الذي أدّاه وليد جنبلاط مع مروان حمادة في حرب تمّوز (حتى لا نتحدّث عن مرحلة ما قبل الحرب وما بعدها). لم ينف وليد جنبلاط ما جاء على لسانه، لكنّه في تصريح «توضيحي» نوّه بنضالاته على امتداد السنوات. التذكير بالماضي، السائد عند فريق يوحي أنّ لديه من الأسباب ما يدعه يخجل من حاضره: كأن يشيد «بيار لافال» بماضيه لتسويغ ما ارتكبه في حقبة الاحتلال. هذه الخدعة لا تنطلي، لا في كتب التاريخ ولا في المحاكم.
ما فعله الاثنان لا يُقارَن بأيّ من الأقوال الأخرى، باسثناء ما جاء على لسان بطرس حرب (قائد «لواء تنّورين» السابق) الذي حثّ إسرائيل على احتلال قرى في الجنوب، واقترح بعضاً منها بالتحديد لتسهيل المهمّة. (ومثله مثل مروان حمادة، عندما علّق حرب هذا على تسريبات «ويكيليكس» قال إنّ له مواقف علنيّة معروفة ضد إسرائيل. بقي أن نقول لأمثاله: المشكلة أنّنا نعلم كل مواقفكم العلنيّة ضد إسرائيل، هي لا تعني شيئاً البتّة، ولا يمكن صرفها. المهم، مواقفكم السريّة التي تُقال لأسماع السفراء الغربيّين).
تخطى مروان حمادة ووليد جنبلاط كلّ الحدود: أخطر ما قاله وليد جنبلاط في واحدة من الوثائق واضح عندما عبّر عن قلقه من تضعضع صورة الجندي الإسرائيلي في أذهان العرب. عبّر جنبلاط لفيلتمان عن خوفه من مضاعفات تغيّر صورة الجندي الإسرائيلي نتيجة سوء أدائه في عدوان تمّوز. أيّ إنّ وليد جنبلاط يخشى على سمعة العدوّ الإسرائيلي وصورته.
هذه هي رحلة وليد جنبلاط عبر السنوات: ورث مقعد رئاسة الجبهة العربيّة المشاركة للثورة الفلسطينيّة، وانتهى محرّضاً العدو الإسرائيلي على اجتياح لبنان (وليد جنبلاط التقى بالصدفة، البريئة طبعاً، نائباً في الكنيست الإسرائيلي بعد عدوان تمّوز مباشرةً، لكنّه أوضح أنّ اللقاء لم يتضمّن إلّا التحيّة والعتاب على موقف إسرائيل غير العدائي نحو سوريا. ووليد جنبلاط التقى شمعون بيريز في قصر المختارة عندما مرّ الأخير في المنطقة، في رحلة صيد عام 1982). وهو يحاول أن يتذاكى فيقول إنّه كان أوّل من أعلن نصر المقاومة.
نتذكّر ذلك، يا وليد جنبلاط، ونتذكّر تجهّم وجهك وأنت تعلن ذلك. ونتذكّر أنّك أعلنت ذلك، ليس من باب الابتهاج لنصر المقاومة، بل من باب إحراج المقاومة، لأنّنا نتذكّر كيف كنت تردّ بالقلم والورقة على كلّ كلمة يقولها حسن نصر الله في عدوان تمّوز. كأنّ دورك المطلوب كان في الردّ التفصيلي على خطب حسن نصر الله، كي تجرّ المقاومة إلى حروب جانبيّة. نتذكّر أيضاً الوجوه الكالحة في 14 آذار بعد فشل إسرائيل في تحقيق مطالبها.
وحده دوري شمعون، سليل عائلة خدم بعضها الاستعمار، كابر. أصرّ على أنّ إسرائيل لم تنهزم أو تُذلّ، وأنّها لاعتبارات إنسانيّة قرّرت ألّا تنتصر. يبدو أنّ إذلال إسرائيل عزّ على دوري شمعون. لعلّ طرد أنطوان لحد الشمعوني ترك جرحاً بالغاً.
لم يكن الدور الصهيوني لـ14 آذار مشكوكاً فيه. كانت عناوين جريدة «المستقبل» ومحطة «إل. بي. سي» كافية للإنباء بالمقاصد الشرّيرة. كان إعلام الحريري والسعوديّة ينشر الأكاذيب عن تقدّم لجيش العدوّ من أجل النيل من معنويّات المقاومة.
من كان منّا ينتظر أن يقرأ (أو تقرأ) نصوصاً من الخيانة بمعناها القانوني؟
من كان منّا ينتظر توثيقاً لمرحلة من خدمات رسميّة وحثيثة للعدوّ، من جانب فريق الأكثريّة النيابيّة في المجلس النيابي؟ بئس الديموقراطيّة، وبئس أموال مقرن بن عبد العزيز التي تستطيع أن تبتاع لإسرائيل مجلساً نيابيّاً بحاله، في مسخ الوطن.
لكن المحاسبة تبدو بعيدة المنال بأمر من حزب الله والبطريركيّة ـــــ وإن اختلفت الأسباب. لا أدري كيف وقع الحزب في شرك أعدّه له خصومه عن الديموقراطيّة المفرطة، وعن استفتاءات بشأن سلاح الحزب وبشأن مواجهة إسرائيل. أما ما اقترحه حسن نصر الله من مقاضاة لبعض قادة 14 آذار بالنيابة عن ضحايا عدوان تمّوز، فهو ضعيف، إذ إنّه قرن ذلك بإعلان الصفح عن وليد جنبلاط لأنّه مُتحالف ظرفيّاً مع فريق حزب الله السياسي، أي إنّ منطق الحزب يسمح بالصفح عن أنطوان لحد في حال انضمامه إلى فريق 8 آذار، لكن كيف يمكن حزب الله أن يطالب بمحاسبة أعوان العدوان الإسرائيلي وهو يتحالف مع وليد جنبلاط، حتى بعد تسريب وثائق «ويكيليكس» حرب تموز. كيف جلس حسن نصر الله أخيراً مع وليد جنبلاط وتباحث معه في الشأن الحكومي؟
هل ناقشه في وثيقة «الفودكا» التي ستقبّح وجه تاريخ لبنان إلى الأبد؟
هل سأله عن نصائحه القيّمة لإسرائيل من أجل أن تزيد من غيّها ومن قتلها ومن تدميرها في جنوب لبنان؟
هل فاتحه في أسباب امتعاضه من تغيّر صورة الجندي الإسرائيلي ومن خوفه على معنويّات جنود العدوّ؟
هذه أسئلة مشروعة، ولا ينفع معها التبرير الاعتيادي عن ضرورات وعن براغماتيّات. يستطيع الحزب أن يصفح عن وليد جنبلاط، لكن ماذا عن عوائل الضحايا؟
يستطيع الحزب أن يرتّب أمر اعتزال جنبلاط العمل السياسي ـــــ على الأقل ـــــ نتيجة تحريضه وخدماته للعدوّ، وأي عقاب أصغر من ذلك يكون مهيناً لكلّ من سقط في عدوان تمّوز على أراضينا.
لا تستقيم المقاومة بالديموقراطيّة. لم تكن هناك مقاومة ديموقراطيّة في التاريخ. لم تقم أيّ مقاومة باستفتاء الناس، لا بل هي تجاوزت آراء وأهواء الناس الذين كانوا يتسكّعون في مقاهي باريس، يحتسون الجعة مع جنود الاحتلال النازي.
المقاومة تاريخيّاً هي فعل وخيار أقليّة. حتى في الحرب الأهليّة الأميركيّة، علّق أبراهام لينكولن أحكام الدستور. هذه ليست دعوة من أجل حثّ حزب الله على الاستيلاء على السلطة. لا أبداً، وخصوصاً أنّه لم يبد دراية أو اهتماماً بالعمل الجبهوي العريض، كما أنّ عقيدته المتزمتّة أيديولوجيّاً لا تتسع حتى لمن يؤيّد المقاومة من منظور علماني أو زنديقي. لكن الصراع مع إسرائيل لا يحتمل مع ما سمحت المقاومة به أثناء عدوان تمّوز. بناءً على ما قرأنا، كان يمكن المقاومة عبر قيادة موحّدة للفصائل المنضوية في العمل المقاوم، تعليق العمل مؤقّتاً بأحكام الدستور وإلقاء القبض على كلّ قادة 14 آذار من أجل حماية ظهر المقاومة. كان يمكنها بعد حرب تمّوز، إجراء محاكمات ميدانيّة لمن سهّل ودعم وحرّض ضد المقاومة أثناء العدوان. كان بإمكان لجنة من أهالي الضحايا في الجنوب إقامة محاكم شعبيّة ميدانيّة للاقتصاص من أعوان العدوان الإسرائيلي.
لكن خدمات فريق سياسي بحاله في حرب تمّوز ستذهب على الأرجح من دون حساب. ليس فقط لأنّ البطريرك صفير كان نصيراً لعملاء جيش لحد وأترابهم (ودوره لم يكن صغيراً) في معارضته للعقاب. وقع حزب الله في فخ إثبات النوايا الديموقراطيّة فلانَ في موضوع محاسبة العملاء وسكت.
طبعاً، لو أنّ الحزب لم يعان ولا يعاني طائفيّة في العقيدة والبنية، لكان أكثر قدرةً على الدفع بالموضوع، لكنّ الغريب أنّ منظمة سريّة لم تنشأ في لبنان، على غرار بلدان أخرى، من أجل الاقتصاص من عملاء الاحتلال، لكن لبنان بلد (ولا كل البلدان). هذا بلد يعشّش فيه «صحافيّون ضد العنف» و«بيئيّون ضد العنف» و«عملاء إسرائيل ضد العنف». وكلّ ذلك في الوقت الذي يكون فيه قادة الفريق الذي ينبذ العنف ويحب الحياة يطالب إسرائيل بمزيد من العنف من أجل تقويض كل مقاومة ضدّها.
هذه الوثائق يجب أن تنشر في كتب، وأن تصبح جزءاً من المنهاج الرسمي لتاريخ مسخ الوطن. التأريخ الرسمي والخاص يشوبه تزوير كبير (مثل تلك الكتب المزدهرة عن رياض الصلح التي تتجاهل علاقاته مع الصهاينة). عندما يُطالب نصير الأسعد (الذي نصّبته الحريريّة ممثلاً أوحد لجماهير الشيعة في لبنان لما يتمتّع به من سحر جماهيري) مثلاً بقرار على غرار 1973 للبنان، فهو في المحصّلة والاستنتاج المنطقي يُطالب بغزو إسرائيلي آخر للبنان. نحن اليوم لن ننتظر 30 سنة أو أكثر قليلاً لنقرأ عن معاونة فريق 14 آذار لإسرائيل. هو بالمتناول.
هناك ما هو أبعد من خلافات ظرفيّة أو آنيّة تتعلّق بالمحاصصة والمناصب: هناك ما يتعلّق بمستقبل لبنان وما يتعلّق بالخطر الإسرائيلي الداهم. في نيسان 1975، توصّل قادة الحركة الوطنيّة اللبنانيّة إلى خلاصة منطقيّة أنّ ما يقوم به حزب الكتائب اللبنانيّة في لبنان، هو دور بالواسطة بالنيابة عن إسرائيل. يومها قَبِل كمال جنبلاط إعلان فرض العزل السياسي على حزب الكتائب اللبنانيّة. وبناءً عليه نسأل قياساً:
هل من يعلن اليوم، قبل الغد، قرار فرض العزل السياسي ـــــ على الأقلّ ـــــ على وليد جنبلاط ومروان حمادة وبطرس حرب وإلياس المرّ، على الأقلّ؟

ملاحظة: هدّدني طارق متري بالمقاضاة. وزير إعلام في جمهوريّة الحريري يهدّد كاتب بالمقاضاة لنشره نقداً له. يجب أن تذهب هذه سابقة في تاريخ تقييد الحريّات في مسخ الوطن.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)