تمتاز فلسطين، من جملة ما تنفرد به، بخصوصية حالة الحكم فيها. إذ تناوبت على حكمها قوى استعمارية وأجنبية وعربية مختلفة، طبقت كلّ منها نظام حكم مختلف يراعي بالأساس مصالحها في إقليم فلسطين. استمر ذلك حتى جاء الاحتلال الإسرائيلي بشكله الاستيطاني الاقتلاعي، ليدمر كلّ البنى السياسية القائمة، ويستبدل بعضها، ويستفيد من تجارب أخرى ومن تراثها. وبعد تأسيس منظمة التحرير، نشأت منظومة حكم فلسطينية غير رسمية، عملت على تثبيت أواصر حكمها بين الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وأنشأت منظومة من القوانين الوطنية غير الرسمية، ساهمت في تثبيت وجود المنظمة.يبني الكثير من الباحثين والكتّاب دراساتهم على فرضية الفصل بين مرحلتين تاريخيتين تجسدت بتوقيع اتفاقية أوسلو. واحدة سابقة لها انتهت بإيجابياتها وسلبياتها، وثانية مستمرة نعاني منها جميعاً، وابتدأت بتعميم نهج السادات في التعامل مع الصراع. وتمتاز المرحلة الحالية، بوجود خاصية «تفرد» فلسطينية، تتمثل في وجود ثلاثة أنواع من أنظمة/ أجهزة الحكم في فلسطين التاريخية. أولاً، لدينا نظام/ جهاز حكم الاحتلال القوي والمسيطر على كافة جوانب الحياة، والإقصائي الإحلالي في منظومة عمله وآليات بسط سيطرته. ثانياً، نظام/ جهاز حكم السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وثالثاً، نظام/ جهاز حكم حماس في قطاع غزة، رغم أنهما غير مكتملين، بحكم وقوعهما المباشر تحت الاحتلال.
التمييز بين أنظمة/ أجهزة الحكم المختلفة لا يعني بالضرورة وجود مقارنات أخلاقية بينها. فبينما الأول استعماري عنصري، يتميز الأخيران بأنّهما جاءا نتيجة تفاعلات فلسطينية داخلية، ما لبثت أن تأثرت بعوامل الاحتلال والاتفاقيات وعوامل خارجية. ولكن هذا لا يمنع من وجود تشابهات معيارية، على المستوى المجرد والتطبيقي، في تنفيذ الحكم. فأنظمة/ أجهزة الحكم الثلاثة ترغب ببسط نفوذها على كامل المواطنين بالمعنى الشمولي، مستخدمة بذلك العنف: عنف الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، أو حتى العنف «الثوري» أو «النضالي» في الحالة الداخلية. كما يتشابهون في قوة «موضعة» الجهاز الأمني في قلب نظام الحكم، عبر السعي إلى مصادرة الحرية، الاعتقال السياسي، ومركزة الاقتتال والسعي لتثبته كمنهج تعامل، والقمع تجاه الشعب.
نتطرق هنا، بالأساس، إلى أنظمة/ أجهزة الحكم العقابية الفلسطينية. ويستخدم مفهوم العقاب هنا بمعنى وجود مجموعة من الأنظمة والقوانين التي «تفرض» حالة الحكم على السكان، بجانب وجود أجهزة أمنية في قلب أركان الحكم وأدوات عمله. وتعمل هذه الأخيرة على عقاب من يخرج عن نظام الحكم إقصاءً أو تهميشاً أو تعنيفاً. كما يستخدم مفهوم النظام/ الجهاز بوصفه مكوناً من علاقات قوة وهيمنة، تعمل داخل جهاز له تركيبته الخاصة المتميزة. ويمكن تجاوز أكثر من نظام/ جهاز حكم في نفس اللحظة التاريخية بحكم القدرة على التوازي.
العقاب هو التشابه الأول المركزي في حالتي الحكم الموجودتين في الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد الانقسام الذي حصل بين حركتي فتح وحماس، ما أنتج «تفرداً» فلسطينياً سلبياً. ولكن المرجعية التاريخية لكلّ نظام حكم تختلف عن الآخر، فنجد أنّ حركة فتح، كتيار وطني عريض يضم مستويات اجتماعية متعددة، ومشارب فكرية مختلفة، قد «تعودت» على أن تكون مركزية في قلب النظام/ الجهاز السياسي الفلسطيني. فبعد إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية بفترة، دخلت الفصائل والحركات الفلسطينية منظمة التحرير وسيطرت عليها. وسيطرت فتح على مفاتيح إدارة منظمة التحرير بعدها، لعقود طويلة لم تنته، رغم الأزمات السياسية والوطنية، إذ تعودت الحركة على أن تكون في قلب نظام/ جهاز الحكم، إن لم نقل أساسه. ومع هذا، فقد استطاعت، بذكاء، «التعايش» مع التنظيمات والفصائل الفلسطينية المختلفة داخل النظام السياسي، ولكن دون أن تفقد سيطرتها المركزية على المنظمة وكافة أذرعها، وإن اضطرت إلى إعطاء تنازلات هنا أو هناك، ولكنّها لم تكن جوهرية بحيث تؤثر على إمساكها بزمام الأمور.
على هذا تأسست فتح، على وجودها كقيادة الحركة الوطنية، والجزء الأساسي منها. لذا نرى أنّ ذهاب حركة فتح تحت سقف منظمة التحرير لمفاوضات مدريد، وبعدها أوسلو، كان تكريساً لنهج «مركزيتها» في قيادة الحركة الوطنية، حتى لو خالف ذلك فصائل قوية أخرى، منضوية داخل المنظمة. وتتابعت الشواهد حول هذا الفهم الذي تحوّل الى عقيدة، فرأيناه في تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، واحتكار حركة فتح بتياراتها المختلفة (أحزاب أخرى صغيرة) لمؤسسة السلطة وأذرعها، وموظفيها وجلّهم من عناصر الحركة ومؤيديها. بل نستطيع القول إنّ تعددية منظمة التحرير قلصتها حركة فتح في تأسيس السلطة، لتتحوّل إلى «تعددية» فتح ذاتها، بتياراتها ومشاربها واتجاهاتها.
مرونة فتح العالية، إضافة إلى الهم الوطني، وتعدد التيارات السياسية والفكرية، ساهم في تكوين ميزة أخرى للحركة في الحكم، هي الاحتواء، من حيث القدرة على التعامل مع مختلف وجهات النظر الوطنية، والانتقادات الفكرية، والتعامل معها، ولكن ليس بالضرورة معالجتها. كما أنّها استطاعت، كحركة مركزية حاكمة، جذب عدد من الشخصيات الوطنية الفلسطينية، لعدد من الأسباب، وضمهم إلى الحركة، إضافة إلى القدرة على «احتواء» أفراد وقيادات من فصائل سياسية معارضة لها، بما يسهم في تثبيت أواصر حكمها.
الميزة الثانية لحكم فتح هي التهميش، وهي القدرة على تهميش أصوات معينة داخلها أو خارجها، بحيث لا يصبح لهذه الأصوات تأثير كبير على قراراتها. ذلك إلى جانب التهميش المالي كسلاح قوي ومستخدم، لعقود طويلة، من أجل التقليل من فاعلية المعارضين، بحكم إمساك الحركة بمفاتيح خزانة الأموال. ويستخدم التهميش أحياناً في المبالغة في إبراز تجارب أو شخصيات أو أصوات، بما يطغى على آخرين، ويقلل من دورهم نتيجة طوفان القدرة والعلاقات لديها.
بين الاحتواء والتهميش سارت حركة فتح ببنيتها الرئيسية وطوّرت قيادة الحركة الوطنية، ومن ثم السلطة الفلسطينية بقدرتها على إقصاء التيارات والشخصيات المعارضة إلى هامش البنية الأساسية والاجتماعية. فطورت آليات تسمح بتطور كبير في الهامش، دون أن يمس ذلك بالضرورة نظام حكمها وسيطرتها، وما وجود الآخرين إلا من أجل إثبات التعددية، تعددية فتح بالأساس ومن يتفق معها.
من هذا الهامش الاجتماعي والسياسي، جاءت حركة حماس، بعدما سيطرت على المشهد لعقود طويلة منظمة التحرير الفلسطينية، بتياراتها المختلفة تحت قيادة حركة فتح وسياساتها المختلفة. نشأت حماس في الهامش الاجتماعي والسياسي، وساعدتها الحركة الشعبية الكبيرة، خلال الانتفاضة الأولى من أجل التحوّل من خلايا عمل اجتماعي ودعوي إلى إطار حزبي وسياسي فاعل يستمد جماهيريته من خلال مقاومة الاحتلال، ووجود بنية مؤسسات كبيرة تعمل في مجال الزكاة والعمل مع الفقراء، إضافة إلى التحكم بالجوامع والمساجد المختلفة. وساهم توقيع حركة فتح من خلال منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاق أوسلو، في إعطاء دفعة جديدة قوية لحركة حماس. إذ تعمل الأخيرة على تطوير مرجعية موازية للمنظمة، لأنّ الأخيرة قد تنازلت عن أجزاء كبيرة من فلسطين، وهذا ما ناقض التربية الوطنية الفلسطينية الحديثة التي تأسست على الحق التاريخي والكامل في بناء دولة على مجمل فلسطين.
وبعد تحوّل حركة فتح إلى أطر السلطة وبنائها، وضعف الأطر اليسارية في إطار بناء البديل، التقطت حركة حماس اللحظة التاريخية، واستطاعت قيادة حركة المقاومة تجاه الاحتلال، ما زاد في شعبيتها كثيراً. وأصبحت تلتقط ما يرمى به إلى الهامش من حركة فتح، لتحوّله إلى مزيد من نقاط قوتها الاجتماعية والسياسية.
استمرت حركة حماس في بناء القوة الدافعة داخلياً وخارجياً، وتوطين مجموعة من المفاهيم الخاصة بها داخل منظومة المفاهيم الوطنية، من أجل أن تلقى قبولاً من الجماهير. واستمرت بالعمل الاجتماعي والخيري مع الفقراء، في الأماكن المهمشة، حتى استطاعت استمالة عدد كبير منهم للانضمام إلى قواعدها الاجتماعية والحزبية والسياسية. وجاءت اللحظة المناسبة، في نظر حماس، في انتخابات 2006 من أجل أن تفحص قوتها، ومن أجل المنافسة على قيادة المشروع الفلسطيني وفق أيديولوجيتها، بعدما بقيت لفترة طويلة تعمل في أطر موازية سياسياً واجتماعياً. وفوجئت حماس وفتح وغيرهما، بتحقيق فوز كاسح في انتخابات المجلس التشريعي. وأصبحت حماس مطالبة بتأليف حكومة تقود النظام السياسي، الذي عملت ضده بشكل أو بآخر لفترة طويلة، بل ومطالبة بخلافة حركة فتح في قيادة مؤسسات السلطة الفلسطينية، التي عملت فتح على بنائها كمشروعها الجديد بعد منظمة التحرير.
دخول الانتخابات، والفوز بمقاعد كثيرة داخل المجلس التشريعي، وتأليف الحكومة، اضطرّ حركة حماس إلى الانتقال من «قيادة» الهامش إلى قيادة المركز السياسي الفلسطيني نفسه (على فرضية أنّ السلطة بوضعيتها في غزة أو الضفة تمثل مركزاً، على الرغم من هيمنة الكيان على كليهما). وجميعنا يعرف ما حجم العقبات والمشاكل التي وضعت أمامها من أجل إفشال هذه التجربة. ولكن حماس لم تترك الهامش تماماً، فهي ولدت وتربت وكبرت هناك، وتريد قيادة الهامش والمركز. فنرى انطلاقاً من فترة ما بعد الحسم السياسي بوسائل عسكرية الذي مارسته الحركة في قطاع غزة، تحوّلها إلى نهج حكم عقابي أوضح؛ وهو الشمول.
الشمول العقابي في حالة حكم حماس في القطاع هو السيطرة تماماً على مجريات الأمور اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ونضالياً. فنرى في أمثلة بسيطة تجارة الأنفاق التي أسستها ورعتها حماس في القطاع، نتيجةً للحصار المفروض، وثانياً كمصدر مالي للصرف على القطاع الحكومي والأمني، وثالثاً كقطاع اقتصادي تابع لها. وكذلك نرى عدداً من الأمثلة الاجتماعية مثل حجاب الطالبات والمحاميات، سحب كتب معينة من التداول والمكتبات، منع «الأرجيلة» للنساء في المقاهي، تعميم اللحى، وغيرها من الممارسات الكثيرة الاجتماعية التي تنطلق أساساً من شمول حكمها كافة الفئات والشرائح. ذلك إلى جانب أمثلة أخرى، منها بناء قوة أمنية كبيرة (القوة التنفيذية) لفرض حكمها بالقوة، وإحلال موظفيها في الجهاز الإداري للحكومة هناك، وحتى محاربة بعض التيارات الإسلامية «المنافسة» على شرعية امتلاك التفسير الديني، وتداعيات هذا التفسير في ديمومة المجتمع الفلسطيني. خلاصة هذه الممارسات تعني أنّ حركة حماس ولدت من هامش، وهي تعرف في الوقت نفسه خطورته، والأهم عدم قدرتها على ترك الهامش، وعدم رغبتها، رغم إمساكها بالمركز (في غزة على الأقل). فهي لا تريد ترك الهامش لتيار إسلامي أو يساري يبني من خلاله قوته الدافعة، ليأتي بعد سنوات عدة لمزاحمتها على القيادة والمركز ذاته.
المزاحمة غير مقبولة، فهي تعني بالضرورة، وجود أكثر من فاعل. فبينما تربت حركة فتح على القيادة في إطار تعددي وإقصاء المنافسين للهامش، تربت حركة حماس على العيش يتيمة وبسرية في ذلك الهامش. لذا تقبل فتح المزاحمة، ولكنّها غير مهيأة لتسليم القيادة لأحد غيرها، فيما لا تقبل حماس المزاحمة أصلاً، فهي لم تتعود ذلك، والأيديولوجية المسيّرة لها لا تستوعب التعددية، فهي أيديولوجية الفكر الواحد والحزب الواحد، والمطلق الصحيح الواحد.
بين إقصاء فتح التعددي، وبين شمول حماس الفردي، نرى صورة أوضح لنظام الحكم الفلسطيني الحالي، ونستطيع فهم الصراع السياسي في إطار أوسع لمقاربة من يحكم من. حينها نفهم الممارسات الاجتماعية والاقتصادية للتيارين الرئيسيين في الساحة الفلسطينية، بما يعنيه هذا في أفضل الأحوال في حال إتمام المصالحة بين الطرفين تكريس وجود نظامين مختلفين، مع نوعين من الأجهزة الأمنية، تسيطر كلّ حركة على جهاز أمني وإدارة حكومية، وفق التصريحات الأخيرة لقادة المتنازعين. وهذا الفهم، برأيي، يجب أن يقود إلى حركة سياسية اجتماعية واسعة، تستطيع إنقاذ المجتمع الفلسطيني من هذا الاستقطاب العقابي في الحكم، إلى رحابة نظام سياسي وطني تعددي وديموقراطي حقيقي.

*باحث في مركز بيسان للأبحاث ـــ رام اللّه