انتقلت انتفاضة تونس إلى الجزائر، وأسست لثورة في مصر، كما حدثت حركات احتجاج في الأردن واليمن والبحرين وليبيا والعراق، وتظاهرة للعاطلين من العمل في السعودية. لقد حققت هذه الانتفاضة خطوة مهمة في تونس، وربما توقفت مؤقتاً في الجزائر، وفرضت رحيل حسني مبارك في مصر. لهذا، لا بد من النظر إلى ما جرى بشيء من التمحيص، إذ لم يكن الانتقال من تونس إلى الجزائر إلى مصر، ومن ثم إلى مختلف أرجاء الوطن العربي هو نتيجة «عدوى»، ولا يمكن أن تكون كلّ الانتفاضات، التي يمكن أن تحدث في هذه الفترة، هي نتاج «تقليد». كانت مصر تعيش حركة احتجاجية واسعة منذ أربع سنوات، وشهد المغرب تحركات في مناطق عدّة، آخرها في سيدي إفني، كما شهد العراق المحتل تحركات احتجاجية على انقطاع الكهرباء وسوء الأمن والغلاء، قبل شهور قليلة. وفي الإمارات، حدثت إضرابات عمالية. وتبدو الأوضاع مشابهة في سوريا.
يعني ذلك أنّ كلّ الوطن العربي يتهيأ لولادة عقد من الانتفاضات والاحتجاجات والإضرابات. بدأت التحولات العربية منذ أوائل سبعينات القرن العشرين، في مصر مع قرارات الانفتاح الاقتصادي، ثم السودان الذي تبعها، وكذلك تونس التي ظل اقتصادها ليبرالياً رغم توسيع دور الدولة. مثلها كذلك المغرب والأردن، اللذان تحوّلا إلى اللبرلة الشاملة، بعدما كانا مضطرين إلى توسيع القطاع العام نتيجة المد الذي اجتاح الوطن العربي، وكان يهدد كل النظم العربية الملكية أو الرأسمالية. وفي الثمانينات، سارت الجزائر على هذا المسار. فرضت هذه التحولات ربط النظم بمديونية عالية، رغم أنّ مبرر الخصخصة كان عجز الدولة، وبالتالي الإفادة من بيع «القطاع العام» من أجل تعديل وضع الميزانية. هكذا دُفعت النظم إلى الاستدانة، تحت مسميات شتى. ولم يؤدِّ ذلك سوى إلى التبعية الوثيقة، نتيجة ضرورة سداد الديون، في وضع اقتصادي محلي كان يُدفع نحو التخلي عن قوى الإنتاج (الصناعات التي أقيمت، وكذلك الزراعة)، ومن ثم التخلي عن كلّ مورد داخلي غير الضرائب، أو العوائد النفطية في البلدان النفطية.
أسست تلك العملية لآليات نهب للطبقات الشعبية، لأنّها فرضت زيادة الضرائب والأسعار على نحو متتالٍ، دون رفع الأجور إلا بالحد الأدنى، وبالتالي زادت الأعباء على تلك الطبقات، لكن هذه العملية كانت تسهم في مراكمة المال لدى الطغم الإمبريالية التي أنشأت مسألة المديونية كباب جديد للتوظيف المالي. ذلك المال الذي تراكم، وأصبح هو أساس الأزمات التي باتت تطاول الرأسمالية كلها، لكنّها أيضاً، أفضت إلى نشوء طبقة مافياوية تتحكم في السلطة والثروة، وتتمحور حول حكم عائلة، ونظام بوليسي.
من هنا، أصبح المجتمع ينقسم إلى طبقة بالغة الثراء، تستولي على السلطة، وتنهب المجتمع، وتلتصق التصاقاً تبعياً شديداً بالطغم الإمبريالية، وطبقات مفقرة في الغالب، عدا شريحة وسطى، استطاعت أن تعيش عيشة مريحة. لذلك، كانت الأزمات الاجتماعية تتصاعد بعد الانتفاضات التي جاءت كرد مباشر على «سياسة الانفتاح»، وملأت كلّ عقد الثمانينات من القرن العشرين. لم تستطع هذه الانتفاضات تحقيق التغيير (سوى في السودان في 1985)، لكنّها أفضت إلى أن تميل النظم إلى تحقيق انفراج ديموقراطي، استطاع أن يستقطب الأحزاب المعارضة (في الغالب)، وأن يدجّنها في حدود النضال السلمي الديموقراطي، ومن ثم أن يبعدها عن لمس الاحتقان المتصاعد لدى الطبقات الشعبية.
بالتالي، ففي الوقت الذي كانت تتكوّن فيه فئة مافياوية تحكم، وأصبحت بالغة الثراء والسطوة، أضحت أغلبية الشعب في وضع مزرٍ. فالأسعار باتت تتطابق مع الأسعار العالمية، بعدما تحقق الانفتاح الكامل، وبعدما دمّرت كلّ القوى المنتجة تقريباً، وأصبح الاستيراد هو أساس الاقتصاد. في المقابل، لم تتطور الأجور إلا بالكاد، وفي حدود لم تستطع ردم الهوة التي كانت تحلّق بالأسعار. ذلك إضافةً إلى زيادات كبيرة للضرائب، لتسديد حاجات الدولة (أي الفئات الحاكمة التي كانت تزيد من بذخها)، وزيادة السلع الضرورية مع التطور الذي تحقق، وتعميم أنماط مختلفة من الأغذية والمطاعم والأسواق الضخمة (المولات) التي تحتوي على تنوّع هائل من السلع. هذه السلع التي باتت تفرض ذاتها على المشتري، بفعل الضخ الإعلامي الذي يرافق تسويقها.
في المقابل، كان تكوين الاقتصاد كاقتصاد غير منتج يفرض زيادة العاطلين من العمل عموماً، وخصوصاً للفئات التي استوعبها التعليم، وباتت تتحصل على شهادات عليا. لقد تصاعد الإفقار والتهميش، وأصبحت البطالة سمة عامة تبلغ نسبتها ما يفوق ربع القوى العاملة.
وإذا كانت الطبقات الشعبية قد تكيفت مع مستوى معيشي، وإن كان منخفضاً جداً، إذ بالكاد تستطيع توفير الأولويات التي تسمح باستمرار العيش، فإنّ التصاعد الكبير في أسعار المواد الغذائية، بعدما أصبحت تخضع للمضاربات المالية (مثل القمح والأرز والشاي والقهوة والزيت) خلال السنوات الثلاث السابقة، قد فرض انهياراً مريعاً في الوضع المعيشي لهذه الطبقات. الأمر الذي كان يوصل إلى العجز عن الحياة، waوإلى عدم المقدرة على توفير ما يسمح بالعيش. يدفع ذلك إلى وصول الاحتقان إلى حدّ لا يمكن كبحه.
هذا هو الأساس الذي جعل انتفاضة تونس تنتقل إلى الجزائر مباشرةً، وتفضي الى تغيير في مصر بعد ثورة هائلة. وهي سوف تنتقل إلى بلدان أخرى، بل سوف ندخل في عقد من الانتفاضات والثورات، وما حدث الآن ليس سوى «بروفة» لهذا العقد الجديد.
وما يوصل إلى هذا الاستنتاج، ليس انفجار الانتفاضة فقط، بل واقع أنّ الأزمة الرأسمالية التي تفجرت في سبتمبر/ أيلول 2008، سوف تجعل الطغم المالية تمعن في الضغط على الأطراف من أجل النهب، كما ستعيد هذه الطغم الكرة في لعبة المضاربات على السلع الغذائية (التي هي الحصن الأخير للطبقات الشعبية)، كذلك فإنّ أزمة المافيا الحاكمة في الأطراف سوف تزيد من الضرائب، ومن نهب المواطنين، دون زيادة في الأجور، كما سوف تسهّل ارتفاع أسعار المواد الغذائية خصوصاً، وكلّ السلع الأخرى، بما فيها المشتقات النفطية والخدمات الضرورية والكهرباء، والأدوية، وأجور التعليم والمستشفيات، بما يجعل مقدرة الطبقات الشعبية على العيش تتلاشى. كلّ ذلك بالترافق مع تراجع أشدّ في فرص العمل، وبالتالي، زيادة أعلى في البطالة.
هذه هي صيرورة انعكاس الأزمة الرأسمالية على الطبقات الشعبية، وهي الصيرورة التي سوف تفرض حتماً ميل هذه الطبقات إلى الدفاع عن وجودها البيولوجي.
لقد سرقت الفئات الحاكمة، مما جعلها تستحوذ على كتلة هائلة من المال، نتيجة نشاطها في القطاعات الهامشية، مثل العقارات والسياحة والخدمات، والاستيراد، كما أنّ الطغم الإمبريالية أمعنت في النهب بفعل الآليات التي أوجدتها، أولاً من خلال أزمة الديون، وثانياً من خلال تحكمها في الاقتصاد المحلي، بعد فرض تعميم اقتصاد السوق وتحويل الاقتصاد من اقتصاد منتج إلى حد ما، إلى اقتصاد يقوم على الاستيراد والنشاط الهامشي، الأمر الذي فرض تعميم الإفقار على كلّ الطبقات الشعبية.
ذلك الإفقار هو الذي جعل الطبقات الشعبية في وضع من الاحتقان وصل إلى حدّ يمكن أن يتفجر عنده في أيّ لحظة، ولأيّ سبب. لذلك كان شعور أحد المواطنين بالعجز عن العيش، نتيجة منع السلطة إيّاه من العمل من أجل لقمة العيش. دفعه ذلك إلى حرق نفسه، مما مثّل المدخل لبدء الانتفاضة في تونس، التي لا تزال تتصاعد وتتوسع، رغم رحيل بن علي. وكان ارتفاع أسعار المواد الغذائية (السكر والخبز والزيت) هو المحرّك لانتفاضة الجزائر، التي استمرت رغم التراجع عن رفع الأسعار، بل وخفضها عما كانت عليه. في الأردن، كان رفع سعر المشتقات النفطية هو الذي حرّك قطاعات شعبية، والبطالة تترافق مع كلّ ذلك لأنّها تخلق أجيالاً لا تزال تعتاش على مورد العائلة، إذ لا دخل لها. وبالترافق مع كل ذلك، تبرز مشكلة السكن ويطلّ الفساد.
إنّ قطاعات واسعة لم تعد تقدر على العيش، فماذا تفعل غير أن تنفجر في احتجاجات سلمية وعنيفة؟
هذا الوضع هو وضع الصراع الطبقي لمن لا يعرف معنى الصراع الطبقي. وهو عملية احتجاج تتخذ أشكالاً مختلفة، من التظاهر إلى الإضراب إلى السيطرة العنيفة على الشارع، إلى العنف الذي يطاول السلطة ورموزها، من مراكز الأمن والشرطة، إلى المؤسسات ودوائر الدولة إلى مقارّ الحزب الحاكم. وإذا كانت تطالب بالعمل والقدرة على العيش، فإنّها تستهدف المافيات والسلطة التي تنهب.
ولا شك أنّ عمق الأزمة التي تعيشها هذه الطبقات، يدفعها إلى عنف «مغالىً فيه» أحياناً، فالمأزوم لا يستطيع كبح رد فعله حينما ينتفض، لكن الأهم هو الكيفية التي يتطور عبرها فعل الطبقات الشعبية لكي يفضي إلى انتفاضة شاملة تطيح السلطات. فلا يجوز أن يقف الماركسي، في ظلّ تفاقم الصراع الطبقي، موقف المستجدي لتحقيق بعض المطالب، وخصوصاً الديموقراطية فقط. عليه أن يدفع الصراع الطبقي إلى مداه، أن يجعله يوضّح الحدّ بين المافيات الحاكمة والشعب، وأن يحدد الهدف بإنهاء الحكم المافياوي، وتأسيس سلطة طبقية بديلة، حتى وإن لم نصل اليوم إلى ذلك. فهذا ما يجب أن يرسّخ في وعي الطبقات الشعبية، من أجل انتفاضة أخرى إذا لم يكن ممكناً تحقيق التغيير الآن، كما هو واضح نتيجة وضع القوى الماركسية التي لم ترسم استراتيجية تغيير، لكن ما يجري اليوم هو «بروفة» عقد من الانتفاضات، وبالتالي علينا أن نستفيد من هذه الانتفاضات إلى الحد الأقصى، وتحويل الممارسة الثورية إلى خبرة تفتح على بلورة رؤية نظرية جديدة.
الانتفاضة في تونس ومصر قادت الى تغيير، وهي في الجزائر والأردن واليمن مستمرة، وربما تتوسع إلى بلدان أخرى، أو سوف تتوسع إلى بلدان أخرى. وفي خضم الصراع الطبقي، يجب أن يُبنى الحزب الماركسي، القادر على تطوير الصراع الطبقي وتحقيق التغيير. يجب أن تنصهر القوى الماركسية المنخرطة في هذا الصراع، ويجب أن تُصقل الكوادر الجديدة في خضمه، وأن يُفرض بناء الحزب المعني بالثورة والتغيير. ربما باتت الأمور واضحة، فقد توضّح الصراع الطبقي واقعياً، لكن كيف تتبلور الرؤية وتصاغ الاستراتيجية اللتان تحكمان النشاط؟
يجب أن تتطور المطالب مع تصاعد الصراع وتوسّع الانتفاضة، كما يجب أن يرسخ في وعي الطبقات الشعبية أنّ مطالبها لا تتحقق إلا بتحقيق التغيير. هذه هي المسألة التي يجب أن ترسّخ منذ الآن.

* كاتب عربي