لا شكّ في أنّ هناك مؤامرات جارية في الوطن العربي، ولا شكّ في أنّ قناة «الجزيرة» باتت جزءاً من الثورة المضادة التي تقودها السعوديّة منذ سقوط حسني مبارك. ولا شكّ في أنّ المحور السعودي يبيّت الخطط ضد سوريا، منذ ما قبل اغتيال فقيد عائلته، رفيق الحريري. قد يكون الحريري ضلعاً في مؤامرة سعوديّة لقلب النظام، وهذه نظريّة الزميل «جاشوا لاندس».
ولا شكّ أيضاً في أنّ النظام السوري يتعامل مع النظام السعودي بتهيّب وخوف شديديْن: كان بوق الأمير سلمان وأولاده، «الشرق الأوسط»، يقود الحملة على سوريا ونظامها، وكانت بثينة شعبان تكتب في الجريدة نفسها، وكأن العلاقة بين النظاميْن ممتازة. أمّا أن يطلع النظام بنظريّة المؤامرة ـــــ وهي تصلح في فهم الكثير من المجريات في العالم العربي ـــــ فذاك أمر آخر. ومن المُرجّح أنّ رفعت الأسد وأولاده، يلعبون بالنار السوريّة، لكن رفعت يتمتّع برعاية عديله، الملك السعودي. كيف يمكن الحديث عن مؤامرة فيما يتمنّع النظام عن تحديدها؟
إنّ نظام الطغيان العربي الرسمي في أزمة، وليس النظام السوري وحده. من الطريف أنّ إعلام آل سعود تلقّى أمر الموسم: كتبت جريدة «نيويورك تايمز» قبل أسابيع عن استدعاء ملكي لكلّ رؤساء الصحف السعوديّة، وتلقّيهم الأوامر بالتعاطي الصارم مع الانتفاضات العربيّة (أما الأقلام اللبنانيّة في صحف آل سعود، فلا يحتاجون إلى استدعاء. أمر من مساعد نائب مستشار في حاشية الأمير يكفي). الإعلام السعودي تلقّى الأمر بالترويج لمقولة أنّ الممالك والمشيخات والسلطنة والإمارات العربيّة هي المدن الفاضلة بعينها، وأنّ الجمهوريّات وحدها تعاني الأزمات. وقد التزمت محطة «الجزيرة» الأمر في تغطيتها المُنفِّرة (ولنا عودة قريباً للمحطة وتحوّلاتها الجذريّة أخيراً). لكنّ الأزمة لا تستثني نظاماً واحداً: الشعوب العربيّة ضاقت ذرعاً بكل الأنظمة.
يعاني النظام السوري، مثله مثل سائر الأنظمة العربيّة، أزمة شرعيّة عميقة. فلقد وصل إلى السلطة عام 1970، وكانت شعارات المرحلة ووعودها غير ما هي اليوم. حسني مبارك حاول أن يستظلّ بشرعيّة حرب أكتوبر. في حملته الرئاسيّة الأخيرة استضافه بوقُه، عماد الدين أديب، واستفاض في شرح بطولاته في تلك الحرب. لم يعلم أنّ هناك تاريخاً للصلاحيّة في بعض مصادر الشرعيّة، وأنّ الجيل المصري الجديد لا يذكر من تلك الحرب إلا مزاعم النظام في كتب التاريخ وإعلام أَنَس الفقي. أما نظام حافظ الأسد، فجاء على صهوة مصادر شرعيّة مُستقاة من تلك الحقبة عينها: شعارات حول الوحدة العربيّة، تجاوز هزيمة 1967 والإعداد لحرب تحريريّة، بالإضافة إلى وعود بالانفتاح للتخلّص من انغلاق نظام صلاح جديد (وهو نظام، على علّاته، لم يُتّهم بالفساد، لا بل إنّ زمرة جديد كانت زاهدة ومُتقشّفة). وما يفتقد النظام العربي من شرعيّة يعوّضها بالقمع والمراقبة القاسية على مدار الساعة (حتى الأحذية لها مرايا خلفيّة، كما تظهرها رسوم الفنان السوري المُبدع، علي فرزات).
لكنّ النظام الجمهوري العربي استسهل التوريث، ربّما لأنّه تنعّم بنحو ثلاثة عقود من السيطرة المطلقة دون حصول انقلابات تُذكر، كما كانت حال الستينات وأوائل السبعينات. عانى فائضاً من الثقة، وظنّ أنّ الشعب يستكين لو عيّن أيّ أحد في سدّة الرئاسة. أما الانتفاضات، فيمكن التعامل معها على طريقة «سجن بو سليم» في ليبيا أو على طريقة مجزرة حماة الشهيرة. وقد أبدع رفعت الأسد في التعامل مع الأخيرة، هو الذي يعمل اليوم مع آل سعود وباقي الزمرة الصهيونيّة العربيّة، لإحلال الديموقراطيّة في سوريا (نلاحظ أنّ إعلام الحريري وإعلام آل سعود في سرديّاته عن الحرب الأهليّة اللبنانيّة يغيّب كلياً الدور الوحشي الذي أدّاه رفعت الأسد في لبنان).
ظنّ النظام الجمهوري العربي أنّ غياب الانقلابات دليل على وفرة الشرعيّة، وأنّ هذا العامل يسمح بتوريث مصادر الشرعيّة السياسيّة. لكن الاستكانة الظرفيّة شيء، والطاعة الحرّة (الطوعيّة) شيء آخر تماماً.
جاء بشّار الأسد إلى السلطة عام 2000 بكثير من الوعود والآمال. وهو لم يكن مثل أترابه من أبناء الحكّام العرب (كعدّي صدّام حسين أو عبد الله بن حسين الهاشمي أو أولاد عبد العزيز في السعوديّة وأحفاده، أو جمال وعلاء مبارك) من حيث الانغماس في اللذات المُحرّمة على الشعب. لكنّ تواضعه وعدم فساده على المستوى الشخصي، لم يؤثّرا على انطباع الناس عن الفساد المستشري في بنية النظام، وحتى بين المقربين. وصبر الشعب السوري على ضيم القمع وعلى تسويف الإصلاحات طويلاً جدّاً، وهناك من قدّر في بشّار ذكاءه وعلمه، لكنّ العامل الشخصي لا يكفي، ولا يجمّل القبيح في النظام. وقد دشّن بشّار حقبته بانفتاح نسبي، قبل أن يقرّر أنّ الأمر خطير لأنّ إمساك النظام بالسلطة يتأثّر سلباً. الخوف يعتري أوساط الحكّام عندما تتراخى قبضة السلطة لأيّ سبب. عاد النظام وانغلق وبات الإصلاح أسير لجان البعث الشهيرة. كذلك اعتمد النظام في سوريا صيغة «السياسة الخارجيّة» مصدراً وحيداً للشرعيّة السياسيّة، لكن ليس من الأكيد أنّها كذلك. الجيل الجديد من الشعب العربي لديه من الأولويّات ما لديه، وهي غير ما هي عند جيل خامل سبقه. غزة لا تزال تعاني حصاراً خانقاً بعد رحيل نظام مبارك، ونبيل العربي يقسم أنّ إسرائيل لم تخلّ ببنود معاهدة «كامب ديفيد» التي يتمسّك بها، ويحبّها مثلما أحبّ شعبان عبد الرحيم حسني مبارك، أو أكثر قليلاً. شعار الممانعة قد يفيد النظام خارج سوريا (مع الشعب العربي) أكثر ربما من الشعب السوري الذي لديه هموم داخليّة ملحّة. على العكس، إنّ سوء أحوال الداخل السوري قد تبعث في نفوس الشعب هناك نقمة على كلّ مسار سياسته الخارجيّة، خصوصاً أننا نعيش في ظل جوّ موبوء بمقاصد إعلام آل سعود وضخ شعارات «حب الحياة» ـــــ وهي في الحقيقة لا تعني أكثر من حب إسرائيل.
صحيح أنّ النظام السوري أمدّ المقاومة في لبنان بالعون الأكيد منذ الثمانينات، لكنّه كان قد انحاز لجماعة اسرائيل في لبنان عام 1976 عندما تدخّل النظام لإنقاذ هؤلاء من هزيمة ساحقة. ولماذا يكون تأييد المقاومة بديلاً أو نقيضاً للعدل الاجتماعي والانفتاح السياسي؟ طبعاً، إنّ الديموقراطيّة الرأسماليّة ـــــ كما هي في لبنان ـــــ تمثّل خطراً على مشروع المقاومة، ولهذا ينبري الفريق السعودي، الذي نال من التأييد الانتخابي ما نال بفضل التأزيم والتبعئة الطائفيّة مترافقة مع مال سعودي وفير، للنيل من سلاح المقاومة لأنّ الديموقراطيّة تؤهّل اليمين المُتحالف مع إسرائيل، مباشرة أو مداورة (مداورة يعني على طريقة وثائق «ويكيليكس» حيث يرسل إلياس المرّ أو بطرس حرب أو وليد جنبلاط ومروان حمادة الإرشادات لإسرائيل عبر السفير الأميركي، لكن يمكن اكتشاف قناة اتصال مُباشرة لو تسرّبت وثائق «ويكيليكس» إسرائيليّة) لتقويض مشروع الثورة أو المقاومة. في المقابل، معادلة القمع من أجل فلسطين بَطُلت. لا قرُبت فلسطين، ولا هان القمع ولا قلّ قطع الرقاب. ويمكن بضعة أصوات أن ترافق صوت المعركة، على أهميّتها وأوليّتها. لقد بان لنا في تعاطي العدوّ مع حسني مبارك ونحيبه على سقوطه أنّ الصراع ضد إسرائيل ليس فقط من أجل تحرير أرض فلسطين الغالية، بل هو أيضاً ضرورة في المعركة من أجل الحريّات والعدالة الاجتماعيّة (برز رأسماليّو حاشية جمال مبارك في التطبيع الاقتصادي والسياسي في مصر).
أمّا حزب البعث نفسه، فلم يعد قادراً على مدّ النظام بأي شرعيّة، بل على العكس، لقد صار أحد الأعباء. الحزب كان يعد بالوحدة فولّد تشرذماً، ووعد بالاشتراكيّة فأنتج رأسماليّة نفعيّة، تفيد قلّة من الأقربين، ووعد بالحريّة وأعطى الشعبيْن السوري والعراقي إبداعات في القمع والمنع. حتى وصل الأمر الى حدود أنّ الأنظمة العربيّة باعتنا شعارات قوميّة، بينما صدّرت مشاريع وحدويّة قبليّة، واستعانت بالعشائريّة والطائفيّة (ممارسة إن لم يكن عقيدةً) مثلها مثل أنظمة الملكيّة القروسطيّة في دول التعامل الخليجي. ما عاد هناك من يقبض الشعارات على محمل الجدّ.
وإعلام 14 آذار مثل أمّ العروس في موضوع سوريا، لكنّه لا يتورّع عن انتقاد حزب الله بسبب اعتراضه على القمع في البحرين: ولا تخجل الأمانة العامة في عائلة الحريري من التذكير باللبنانيّين العاملين في دول الخليج، وهم بذلك يعترفون بأنّهم رهائن. كذلك دولة الإمارات بدأت بتهجير الشيعة والفلسطينيّين قبل سنة، لكن حركة الاحتجاج اللبنانيّة صمتت بعد زيارة نبيه برّي لأبو ظبي، وإن كنا لم نتبيّن نتائج الزيارة بالملموس لأنّ التهجير استمر. وسعد الحريري تلقّى تصفيقاً حاراً في «البيال» هذا الأسبوع، عندما أيّد قمع العائلة المالكة في البحرين باسم العروبة (أي أنّ شيعة العالم العربي ما عادوا يُعدّون عرباً، وفق أحكام الوهّابيّة والقرضاويّة السائدة). والحريريّة تتصنّع البراءة إزاء الوضع في سوريا. لكن التذاكي في 14 آذار لا يخدع إلا الأخرق: فموقع فارس خشّان على الإنترنت (وهو يهزج لأيّ تهديد إسرائيلي للبنان) ينضح بالتحريض والشائعات عن كل ما يتعلّق بالوضع في سوريا. طبعاً، آل الحريري يزعمون أنّ لا علاقة لهم بخشّان مع أنّ عناوين ومقالات (غير مُوقّعة) تظهر في نشرة «المستقبل» بعد أن تكون قد ظهرت على موقع خشّان هذا (حتى إنّ نقداً لجريدة «الأخبار» ظهر على موقع خشّان قبل أن يظهر في نشرة «المستقبل» وعُزي إلى مقالة في الـ«فيغارو» مع أنّ المقالة في «فيغارو» المذكورة بريئة ممّا زعمت «المستقبل» أنّها تضمّنته لأنّها نشرت ما لم يرد بتاتاً في المجلة الفرنسية، بل أعادت نشر ما «قرأه» خشان فيها). أمّا رفعت الأسد ومأمون الحمصي فهما جزء من المعسكر نفسه (مع أنّ الحمصي في نفيه للعلاقة مع آل الحريري قال إنّ الدفع ليس من شيم آل الحريري، مما ثبّت تهمة ما، على الأقلّ).
أما الحديث عن وجود مؤامرة على سوريا فيحتاج إلى نقاش. لا شك في أنّ هناك مؤامرة على النظام في سوريا، وأنّ النظام السعودي يرعى فريقاً بحاله في المعارضة السوريّة (لكن لا يمكن وصم كلّ المعارضة السوريّة بتلك الوصمة): مِن فريق الفساد المتمثّل برفعت الأسد وعبد الحليم خدّام إلى الإخوان المسلمين ـــــ أصحاب مدرسة في الانتهازيّة السياسيّة والذين تربّوا في كنف آل سعود وسلالات النفط بعد طردهم في العهد الناصري. وهناك في المعارضة السوريّة، مثل رياض الترك، الذين أيّدوا مشروع جورج بوش في الشرق الأوسط، وظنّوا أنّ أميركا ستحرّرهم، مثل هؤلاء الذين يتوهّمون أنّ أميركا وحلف شمالي الأطلسي يخوضان غمار معركة التحرّر في ليبيا.
لكنّ النظام يشير إلى مؤامرة ويرفض أن يحدّد مصدرها، ويرفض أن يقاومها لأنّه يخشى سيف الطائفيّة السعودي المسلول. كذلك النظام في سوريا في موقف ضعيف لأنّ لا رغبة لديه في مقارعة مصدر المؤامرة، وخصوصاً أنّ الأنظمة العربيّة أنهكتنا بعزو كلّ ما تواجه إلى مؤامرات خبيثة، من دون نفي وجود المؤامرات الخبيثة، التي استهدفت الشعوب أكثر ما استهدفت الأنظمة. لكن اتهام عناصر فلسطينيّة، كما جاء على لسان بثينة شعبان، يحتاج إلى تنديد شديد، أو إلى إثبات لا يقبل الشك، لأنّها بدت مثل حزب الكتائب اللبنانيّة أو فريق الحريري في لبنان، أو حتى مثل حبيب العادلي الذي اتهم فريقاً فلسطينيّاً بتفجير الكنيسة في الإسكندريّة.
لكن نسبة كلّ الاحتجاجات إلى المؤامرة تحامل وتجنٍّ وظلم عهدناها من الأنظمة العربيّة في ساعات الشدّة. أو حتى الاتهام الألطف الذي تضمّنه خطاب بشّار الأسد وكأنّ هناك الأبرياء من المتظاهرين الذين غُرِّر بهم. الشعب السوري ليس قاصراً، وليس هناك من أسباب للاحتجاج والثورة.
يعاني النظام العربي من تضعضع يستحقّه. النظام السوري يمثّل معضلة أمام الشعوب العربيّة الداعمة للمقاومة. هؤلاء يشاطرون النظام أعداءه، لأسباب متعدّدة. لكن مشاركة الأعداء الخارجيّين لا يمكن أن تحجب المشكلة الداخليّة في سوريا: الشعب يعاني لعقود من نظام قمعي، مثله مثل سائر الأنظمة العربيّة (طبعاً، لأبواق آل سعود حساباتهم الماليّة التي تدفعهم إلى التمييز بين أنظمة القمع، فيجمّلون قمع حلفاء آل سعود، ويقبّحون قمع خصومهم: هؤلاء الليبراليّون الذين يناصرون المتظاهرين في إيران، وينسونهم في البحرين وعمان واليمن والمغرب ومصر والكويت). ومن حق الشعب السوري أن يطالب نظام البعث بجردة حساب: الأراضي المحتلّة لا تزال مُحتلّة، ومعاناة المواطن تتفاقم، حتى لو نسي وعود البعث بالوحدة والحريّة والاشتراكيّة.
لكن النظام السوري على حقّ: الأنظمة العربيّة تستعصي على الإصلاح الحقيقي. أميركا تريد عن حق «إصلاح» الديكتاتوريّات العربيّة الموالية لها، وهي تعني بذلك تجميل وجوه الطغاة من أجل إطالة أعمار طغيانهم. لكن الإصلاح يعاني «عقدة غورباتشوف»: أي الانزلاق من الإصلاح الجنيني إلى انهيار النظام برمّته. وفي سوريا، هناك قطاعات ماليّة وحزبيّة وطائفيّة تخشى أن تؤدّي بذرة الإصلاح إلى تقويض النظام وفتح الشهيّة أمام الطامعين (في الخارج) والطامحين (شرعاً) في الداخل. كذلك إعلان الاستعداد للحرب من بشّار الأسد يحتاج الى تحديد... هي حرب على من؟ لأنّ النظام ليس في وارد إعلان حرب على النظام السعودي الذي يقود المؤامرة الخارجيّة على سوريا، مما يعزّز الانطباع بأنّ هناك رسالة الى الداخل المنهك الذي لا يريد احتذاء المثال العراقي المقيت.
من الصعب رسم بيان مستقبل للحالة العربيّة: لقد تضعضع بنيان السيطرة الكليّة. وحدها أنظمة الخليج (تلك المحميّات الأميركيّة التي أثبتت تراصّاً أمام تحدّي النهوض الديموقراطي خصوصاً بعد انضمام قطر للحلف السعودي ـــــ الأميركي) تقع خارج الزمان والمكان. إنّها في القرن الماضي، أو ربّما قرن سبقه. تونس سترسم المسار الصاعد: قد يسوّف هذا النظام، وقد يؤجّل ذاك النظام. قد يزيد من وعوده أو ينقصها. كلّ هذا مرتبط بأجندة تأجيل الموت غير السريري. النظام السوري يريد من سياسته الخارجيّة أن تنقذه: لكن، تنقذه ممن؟ من هؤلاء الذين يقول إنّهم لا يريدون خياراً إلا الممانعة؟ أي أنّ الخلاف هو على الوضع الداخلي، ووضع المرء في دولاب لا يقوّي الممانعة، ولا يجعل الموقف ضد إسرائيل أكثر صلابة.
ليس من السهل ترصّد صحّة الدول العربيّة وسلامتها: الإعلام الغربي مُصاب بالهوس الصهيوني الذي يجعله غير قادر على الرؤية خارج إطار مصالح العدوان الصهيوني، والإعلام العربي إما مرتهن لآل سعود وتوابعه، أو هو مثل «الجزيرة» التي انخرطت في سياق الثورة العربيّة المُضادة. والتدخّل الخارجي يتقاطع مع انتفاضات واعتراضات داخليّة، وأبواق النظام تعجز عن النطق بالحقيقة. لكن الشعارات (وهي كانت تغني من جوع في الحقبة التي تلت هزيمة 1948 عندما قبل الشعب العربي أن يضحّي بالقليل الذي في حوزته طمعاً بالتحرير والوحدة، فما نال هذه ولا ذاك، ورزح تحت تراكمات من القمع) تكلّست وترهّلت. يُصاب مردّدوها بالتثاؤب الذي يرافقه ألم في الأحناك. ومجلس الشعب السوري مشهد كوميدي، والمعارضة مثل معارضات الدول العربيّة، فيها الصالح وفيها الطالح: فيها من يكتب عن تحرير سوريا في جرائد يمينيّة لبنانيّة امتهنت العنصريّة ضد الشعب السوري (مثل «النهار» و«المستقبل»)، وهناك من يعد بالديموقراطيّة والنزاهة وهو جالس إلى جانب عبد الحليم خدّام. طبعاً، هناك من يمثّل المعارضة الصادقة في نقائها، مثل هيثم المنّاع، الذي لا يمكن المزايدة عليه في مواقفه ضد الاحتلال. وقد تفتّقت قريحة المعارضة السوريّة عبر العقود عن حركات خلّاقة وواعدة لم تجد السلطة فيها إلّا مؤامرة خارجيّة.
كان الشعب العربي مُتّهماً بالاستكانة. وهو اليوم مُتّهم بالغليان. فليغلِ كالمِرجَل. ليس هناك ما يستحقّ المحافظة عليه، أو الهدوء نحوه.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)