أثارت البرقيات الموجّهة من السيد جيفري فيلتمان، سفير الولايات المتحدة السابق في بيروت، إلى وزارة الخارجية الأميركية، وفيها أحاديث أجراها مع مسؤولين ورجال سياسة لبنانيين، ونشرها موقع ويكيليكس، ضجة واسعة. ويمكن أن تتضاعف هذه الضجة، بعد نشر المجموعة الثانية من هذه الوثائق، التي يقال إنّها تتناول بصورة خاصة أحداث 5 و7 أيار.ما جاء في بعض من تلك الأقوال يقع تحت الباب الخاص بالجنايات الواقعة على أمن الدولة الخارجي من قانون العقوبات اللبناني، ولا سيما المادة /275/ التي تنص على أنّ «كلّ لبناني دس الدسائس لدى العدو أو اتصل به ليعاونه بأيّ وجه على فوز قواته عوقب بالإعدام». ثم المواد /274/ و/295/ و /302/ و/308/ و/317/ التي تتناول كلّها الاعتداء على أمن الدولة، فضلاً عن إثارة الاقتتال والنعرات الطائفية والمذهبية.
وقد أعلن الأمين العام لحزب الله أنّ الحزب سوف يرعى إقامة أهالي ضحايا العدوان الإسرائيلي الدعاوى بحق أولئك الذين طلبوا من العدو الاستمرار في القتال والعدوان، وفي سلخ أجزاء من الأرض اللبنانية عن سيادة الدولة، وهو عمل ضروري ومفيد وعادل.
إلا أنّه ينبغي، حسب رأينا، الإطلالة على هذا الموضوع من نواح أخرى، وكذلك الرد على بعض الآراء والتحليلات القانونية التي يدلي بها البعض من أجل تسفيه فكرة إقامة الدعاوى، وأهمية إقامتها، ومسارها في التحقيق وفي المحاكمة.
بالنسبة الى التحقيق، فإنّ من واجب النيابة العامة أن تفتح تحقيقاً في الأمر عفواً، ومن تلقاء نفسها، حتى بدون ورود شكوى من متضرر، أو إخبار مكتوب من أحد المواطنين، إذ تنص المادة /24/ من قانون الأصول الجزائية على أنّ النيابة العامة الاستئنافية مكلفة «استقصاء الجرائم التي هي من نوع الجنحة أو الجناية وملاحقة المساهمين في ارتكابها»، كما أنّها ملزمة «حال علمها بوقوع جريمة خطرة أن تخبر النيابة العامة لدى محكمة التمييز»، وأن تعمد الى «تحريك دعوى الحق العام ومتابعتها». أما وسائل اطلاع النيابة العامة على الجرائم، فهي بحسب المادة /25/، متعدّدة، ولا سيما كما جاء في الفقرة الأخيرة منها: «أي وسيلة مشروعة تبيح لها الحصول على معلومات عن الجريمة». ولا يمكن النيابتين العامتين، الاستئنافية والتمييزية، أن تتجاهلا هذه الجرائم الخطرة بذريعة عدم العلم بالأمر. فهما تطّلعان يومياً على كلّ ما ينشر ويذاع في مختلف وسائل الإعلام، لكي تريا ما إذا كانت هناك مخالفة لقانون المطبوعات ولغيره من القوانين، كما أنّ هذه المسألة أضحت حديث القاصي والداني، وخبراً شائعاً بين الجميع.
كذلك، لا يمكن النيابة العامة أن تستنكف عن التحقيق والملاحقة بذريعة أنّ ما هو منشور على موقع «ويكيليكس» غير ثابت، لأنّ ثبات أو عدم ثبات الأفعال يأتي من خلال التحقيقات، علماً بأنّ الظنّ لا يستدعي مثل الأحكام النهائية ثبوت الأفعال، واستفادة الظنين من الشك.
كذلك فإنّ لوزير العدل، وفقاً للمادة /14/ من قانون الأصول الجزائية، «أن يطلب إلى النائب العام التمييزي إجراء التعقبات بشأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه»، كما أنّ له بمقتضى الفقرة الثانية من المادة المذكورة التي أضيفت بالقانون رقم 359 تاريخ 16/8/2001، وعند الاقتضاء، «الحق في إجراء التحقيق مباشرةً أو بواسطة معاونيه من قضاة النيابة العامة الملحقين به، أو أفراد الضابطة العدلية التابعين له دون أن يكون له حق الادعاء». وبذلك، يكون وزير العدل الحالي، الذي استنكف عن ممارسة صلاحياته بإجراء التحقيق مباشرةً، قد أخلّ بواجبات وظيفته، وهو الأمر الذي من شأنه أن يستتبع ما سوف نتطرق اليه لدى بحثنا في مسؤولية رؤساء الوزراء والوزراء.
نعود إلى مسألة الإثبات. ففي مرحلة الملاحقة والتحقيق، يلجأ قاضي التحقيق الى استجواب المتهم الذي قد ينكر على الإطلاق أو جزئياً، إلا أنّ بإمكان قاضي التحقيق المتمرس إحاطة المتهم بالقرائن وبشهادات الشهود الذين قد يكونون موجودين، فيضعه أمام الأمر الواقع، بحيث لا يعود له من مفرّ سوى الإقرار. وثمّة إمكان لطلب شهادة السفير جيفري فيلتمان، وهو الأمر الذي لا يستدعي حضوره الى لبنان، إذ بإمكان القاضي اللبناني أن يستنيب قاضي تحقيق أميركياً (وهذه الإنابة القضائية هي ما يسمى commission rogatoire) لكي يطرح عليه الأسئلة التي يراها مفيدة للتحقيق.
تبقى مسألة أخيرة، وهي ملاحقة رؤساء الوزراء والوزراء المتورطين وفق ما تنص عليه المادة /80/ من الدستور، أمام المجلس الأعلى الذي صدر القانون الخاص بأصول المحاكمات أمامه (رقم13/1990)، وذلك بعد انتظار استمر 64 عاماً.
تجري محاكمة رؤساء الوزراء والوزراء، إذاً، أمام المجلس الأعلى، في حال وجود جرم الإخلال بالوظيفة أو الخيانة العظمى. وبالتالي، فإنّه يمكن ملاحقة جميع أولئك المسؤولين الذين تنطبق عليهم هذه الحالة، بعد صدور قرار من أجل ذلك عن المجلس النيابي، بالأكثرية الموصوفة في المادة /70/ من الدستور.
هنا أيضاً، يستدعي الأمر أن يبادر المجلس النيابي إلى استعمال صلاحياته. أما إذا لم يتمكن قرار الاتهام الصادر عنه من الحصول على أكثرية الثلثين، فيبقى على الأقل أنّ ثمة نواباً مع تطبيق القانون والدستور، والبعض الآخر ضد ذلك.
هذه هي الإمكانات المتوافرة لملاحقة المتورطين في دس الدسائس لدى العدو لمؤازرته في عدوانه على الكيان والأرض والوطن، ومساعدة قواته على الفوز في الحرب، كل بما فعل، وبما يتحمل من مسؤولية سياسياً ودستورياً.
تبقى أخيراً مسألة تتعلق بوزارة الخارجية اللبنانية. فهي رغم أنّه لا علاقة لها مباشرةً بالادعاء على المتورطين وملاحقتهم، فقد عرفنا ممّا أدلى به بعض المسؤولين، أنّ السفير جيفري فيلتمان كان يقوم بـ«استجواب» هؤلاء من خلال أسئلة مكتوبة، وهو الأمر الذي يخالف على نحو فاضح أصول العمل الدبلوماسي الذي ترعاه معاهدة فيينا لعام 1961. هل تشدّ وزارة الخارجية اللبنانية عزائمها، أكثر مما فعلت في عهد وزيرها الحالي، وتضع حدّاً نهائياً لتصرفات بعض السفراء، ولا سيما سفراء الولايات المتحدة الأميركية، الذين يتصرفون معنا كأنّنا إحدى «جمهوريات الموز»؟

* محام لبناني